«لقد شكّلا حكومة جديدة من دون التشاور معي»...
هكذا برّر «رجل مالي القوي» الكولونيل (العقيد) أسيمي غويتا، أحدث انقلاب عسكري قاده في بلاده ضد الرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس حكومته مختار وان، بعدما كان من المفترض أن يقودا البلاد حتى 2022 موعد إجراء انتخابات جديدة، وتسليمها إلى سلطة مدنية. غويتا أمر باعتقال الرجلين يوم 24 مايو (أيار) الماضي، متهماً إياهما بـ«انتهاك الميثاق الانتقالي... والسعي لتخريب العملية الانتقالية».
وإزاء النفوذ العسكري القوي لغويتا، استقال نداو ووان بعد يومين من اعتقالهما، إلى أن أفرج عنهما فيما بعد، تحت ضغط دولي.
وما يُذكر أن الانقلاب العسكري الأخير في مالي، هو الثاني من نوعه الذي يقوده غويتا خلال أقل من سنة، إذ كان قد نجح قبل 9 أشهر فقط في الإطاحة بالرئيس الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا في أغسطس (آب) العالم الماضي، ما جعله يوصف بـ«الرقم الصعب في معادلة الحكم» في مالي... التي يُعوَّل عليها في لعب دورٍ محوريٍ في الحرب ضد الإرهاب بمنطقة الساحل والصحراء في غرب القارة الأفريقية.
خلّف انقلاب مالي الجديد قلقاً لافتاً في دول الجوار الأفريقية، وكذلك عند القوى الدولية، وعلى رأسها فرنسا، التي تنشر أكثر من 5 آلاف جندي في منطقة الساحل الأفريقي الغربي، بداعي الحرب ضد الإرهاب. ولقد وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه «انقلاب داخل انقلاب»... واعتبره «أمراً مرفوضاً».
بشكل عام، يحظى العسكريون في مالي بدعم شعبي لا يُنكَر، إلا أن الانقلاب الأخير، وفقاً لمراقبين، أثّر بشكل كبير على الثقة بين الطرفين. وفي كل الأحوال، ورغم التهديد بفرض عقوبات دولية، لا يبدو غويتا، صاحب الشخصية الصارمة، مهتماً بالانتقادات الدولية. إذ عيّنته المحكمة الدستورية العليا في مالي بنهاية مايو المنصرم رئيساً مؤقتاً جديداً للبلاد، خلال مرحلة انتقالية يُفترض أن تنتهي بإعادة السلطة إلى المدنيين. ووفق قرار المحكمة، سيمارس غويتا «مهام وصلاحيات وسلطات رئيس المرحلة الانتقالية لقيادة العملية الانتقالية إلى خواتيمها»، مشيرة إلى أنه سيحمل تالياً «لقب رئيس المرحلة الانتقالية، رئيس الدولة».
- نشأة عسكرية صارمة
منذ أغسطس 2020، وهو تاريخ انقلابه الأول ضد الرئيس كيتا، تحوّل أسيمي (أو هاشمي) غويتا إلى محط اهتمام واسع في الساحة السياسية والعسكرية المالية والدولية. وبعدما ظل كولونيلاً مجهولاً في الجيش المالي لسنوات، فإن متتبعي تاريخ نشأته يلحظون بوضوح مسار شاب عسكري طموح يتوق إلى السلطة.
ولد غويتا عام 1983 (أي أن عمره 38 سنة)، ويلقِّبه المقرّبون منه بـ«أسو»، وهو متزوّج وأب لـ3 أطفال. ووفق معلومات وزّعها الجيش المالي عنه، ونشرتها قناة «فرانس 24»، فإنه يوصف بأنه «رجل صارم، ومثابر، يحب التحديات ويجيد القيادة».
أما «إذاعة فرنسا الدولية» فنقلت عن جندي فرنسي عرفه عن قرب أن قائد الانقلابين في مالي، الذي لا يتخلى عن زيّه وقبعته العسكريين، «محترف لا يترك شيئاً يمر».
سار غويتا الذي يفضل الظهور «ملثماً» في العمليات العسكرية الميدانية، على خطى والده الضابط في الجيش المالي. وتخرّج في مدرسة كوليكورو العسكرية المالية المتخصصة في سلاحي المدرعات وسلاح الفرسان. وشارك أيضاً في كثير من دورات التدريب بعدد من الدول، بينها ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وعيّن في شمال مالي ابتداء من عام 2002 في أكثر من منطقة «ساخنة»، بينها غاو وكيدال وميناكا وتساليت وتمبكتو... بخاصة محاربة جماعات الإرهابيين.
وخلال عام 2014 ضُم غويتا إلى «القوات الخاصة» في الجيش المالي، وفي العام التالي أشرف على تنسيق العمليات الخاصة لوزارة الدفاع بعد قصف فندق راديسون بلو في العاصمة المالية باماكو. ثم عيّن عام 2018 قائداً سسلـ«القوات الخاصة»، ومن ثم، قاد عدة عمليات في شمال مالي ووسطها، وكذلك خارج البلاد ضمن وحدات دولية في إقليم دارفور السوداني.
واليوم، طبيعي أن تتخوّف عدة دول غربية أن يُحدث الانقلاب العسكري في مالي انتكاسة في المعركة الإقليمية ضد الإرهاب والتطرف. غير أن مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تشير إلى أن العسكريين الذين نظموا الانقلاب تقلوا تدريبات على أيدي الجيش الأميركي - من بينهم العقيد غويتا – وأن الأخير شارك في التدريبات العسكرية التي تهدف لمكافحة الإرهاب ضد الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل. كذلك تفيد مصادر أميركية أخرى إلى أن القوات الأميركية والأوروبية درّبت غويتا، بما في ذلك قوات مكافحة الإرهاب.
- ترقٍّ سياسي متوقع
لقد قدّم غويتا نفسه غداة انقلاب أغسطس 2020 كرئيس للمجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس كيتا. واعتبر في حينه أن مالي «لم تعد تتحمل ارتكاب الأخطاء» من جانب السياسيين. ومن ثم قال للصحافة: «أقدم نفسي. أنا الكولونيل غويتا، رئيس اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب». كذلك، تعهد غويتا حينذاك، تحت ضغط دولي، بإعادة السلطة إلى مدنيين منتخبين بعد 18 شهراً بدلاً من 3 سنوات... كما كان يخطط.
في ذلك الوقت، مُنح غويتا منصب نائب للرئيس بصلاحيات أساسية في مجالي الدفاع والأمن. وكما يشير المراقبون، احتفظ بحضور قويّ لرجالاته في الحكومة الانتقالية عبر مجموعة من الوزارات، ما سمح له بوضع اليد على مقاليد السلطة، والإطاحة بها في وقت لاحق.
وحقاً، على مدار الأشهر الماضية، قبيل انقلابه الأخير، تجنب غويتا الأضواء، والتزم بلبس لفاع عسكري يخفي رقبته، لكنه بات محاوراً رئيسياً لكل الشركاء الأجانب.
وقبيل تعيينه رئيساً للدولة، بعد انقلاب مايو الأخير، قال غويتا: «كان علينا الاختيار بين الاستقرار والفوضى في مالي. ولقد اخترنا الاستقرار... لأنه في مصلحة الأمة. ليست لدينا أجندة أخرى خفية». وتابع: «من لا يعمل لا يخطئ».
- بداية الانقلاب
بداية انقلاب غويتا جاءت مع إعلان رئيس الوزراء المعزول مختار وان يوم 24 مايو الماضي حكومة جديدة، أبعد عنها كلاً من الجنرال ساجو كمارا وزير الدفاع والجنرال موديبو كوني وزير الأمن الداخلي. وأثارت هذه الخطوة حفيظة العسكر، الذين شعروا بالخيانة من باه نداو ورئيس وزرائه بعدما كانوا قد أتوا بهم من بيوتهم لقيادة المرحلة الانتقالية. ويعتقد الباحث السياسي المالي عثمان سيسي أن «مثال أمادو سانوغو قائد الانقلاب على الرئيس الراحل أمادو توماني توري 2012 كان حاضراً في أذهان العسكر؛ إذ جرت تنحيته وقدّم للمحاكمة وطورد من قبل المدنيين، الذين لم ينجزوا شيئاً بعد ذلك سوى المحاكمات السياسية، رغم سوء وخطورة ما قام به سانغو آنذاك».
ويرى سيسي أن الرئيس المعزول نداو أظهر «فشلاً وقصوراً كبيراً وقلة مسؤولية واضحة. إذ كيف له أن يقيل أهم شخصين في الحكومة، وهما اللذان قادا الانقلاب الذي جاء به؟! فضلاً عن أن الانقلاب على كيتا اكتسب شرعية لا بأس بها من الشارع المالي ومن كثير من القوى السياسية في البلاد». ويضيف متسائلاً: «هل بقاء هذين الشخصين إلى أن يأتي رئيس منتخب بعد المرحلة الانتقالية أفضل لمالي واستقرارها السياسي والأمني أم محاولة إقصائهم بهذه الطريقة؟».
عالم الاجتماع بريما إيلي ديكو، اعتبر أن ما حصل في مالي أخيراً يُعدّ امتداداً متوقعاً لانقلاب 2020. وفسّر في حديث لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن «ما نعيشه اليوم في مالي هو نتيجة منطقية لعيوب بداية المرحلة الانتقالية»، وذلك نتيجة استبعاد العسكريين للأحزاب وجمعيات المجتمع المدني التي قادت على مدى أشهر الحركة الاحتجاجية ضد السلطة السابقة.
ومن ناحية ثانية، المخاض الذي تعيشه مالي اليوم يوحي لبعض المراقبين بأن عين الكولونيل غويتا قد تكون على الانفراد بالحكم، وإن كان قد سبق له التعهد بأنه سيلتزم بأجندة المرحلة الانتقالية وفق «مسارها الطبيعي»، و«أن الانتخابات المزمع إجراؤها، ستنظم خلال العام 2022».
في كل الأحوال، المجتمع الدولي لا يرحّب بتحركات غويتا العسكرية. والجيش عامةً يعي أنه ليس في مصلحته عزله دولياً أمام خطر الإرهاب الذي يتربص بالبلاد، ويحتاج بكل تأكيد للدعم الفرنسي، خاصة في المنطقة. إلا أن الرئيس إيمانويل ماكرون كان واضحاً في رسالته للكولونيل وكل الانقلابيين، حين أكد في مؤتمر صحافي بباريس: «إننا مستعدون خلال الساعات المقبلة، في حال لم تتوضح حقيقة الوضع، لفرض عقوبات محددة الهدف» بحق الأطراف المعنية.
- عقوبات دولية متأرجحة
واقع الأمر، أن جيران مالي والقوى الدولية يخشون من أن يؤدي التمرّد الأخير إلى تعريض الالتزام بإجراء انتخابات رئاسية في فبراير (شباط) للخطر، ومن ثم، تقويض قتال المتشددين، الذين يتمركز بعضهم في الصحراء بشمال مالي. ولذا، كان من الطبيعي والمتوقع أن يقابَل انقلاب غويتا بعقوبات دولية، وإن كانت قد وُصفت بـ«المتأرجحة» حتى الآن، إذ علَّق الاتحاد الأفريقي عضوية مالي، وهدد من جهة أخرى بفرض عقوبات في حال لم يُعد قادة المجلس العسكري السلطة إلى المدنيين. وقال الاتحاد، في بيان أقره مجلس السلم والأمن للتكتل، إنه «قرر (...) التعليق الفوري لمشاركة مالي في جميع أنشطته ومؤسساته حتى استعادة النظام الدستوري الطبيعي في البلاد»... قبل أن يهدد صراحة بفرض عقوبات على مالي إذا لم تعد الحكومة التي يقودها مدنيون إلى السلطة.
وفي الشأن ذاته، قال مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي إن التكتل دعا إلى «عودة سريعة وشفافة ومن دون عراقيل إلى الانتقال الذي يقوده مدنيون... وفي حالة عدم حدوث ذلك، فلن يتردد المجلس في فرض عقوبات مستهدفة».
وبدورها، علّقت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس» عضوية مالي، لكنها، بعدما سبق لها أن فرضت حظراً تجارياً ومالياً على مالي في أغسطس 2020، امتنعت هذه المرة عن فرض مثل هذه العقوبات... سواء بصورة عامة أو ضد العسكريين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أسيمي غويتا شارك في أول مهامه الخارجية، بالقمة الاستثنائية للمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا التي عقدت في العاصمة الغانية أكرا لبحث الوضع في مالي. وجاءت مشاركته بعد نشر حكم المحكمة الدستورية الذي أقر المهام الجديدة للرئيس الكولونيل.
وبالفعل، التقى غويتا قادة دول غرب أفريقيا، الذين قرروا - كما يشير المبعوث الأميركي الخاص السابق لمنطقة الساحل بيتر بام - «تقبّل الأمر الواقع وإلغاء العقوبات التي فرضتها العام الماضي بالكامل». وتابع بام على «تويتر» أن «عدم ذكرها (أي المجموعة) تولي الكولونيل غويتا الرئاسة والدعوة إلى تعيين رئيس وزراء مدني جديد (من قبل الرئيس)، يعني أنها اعترفت ضمناً به رئيساً للدولة». وما يستحق الذكر هنا، أن العقوبات التي فرضت في أغسطس 2020، شعر بها بشدة السكان الذين يعانون أساساً في بلد منهك اقتصادياً.
وعلى الصعيد القوى الكبرى، هددت فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الفور بفرض عقوبات اقتصادية على باماكو. لكن، حتى الآن، لم يتخذ أي طرف إجراءات ملموسة بهذا الصدد سوى واشنطن التي علقت المساعدات العسكرية. أما مجلس الأمن الدولي، الذي اجتمع على وجه السرعة في 26 مايو الماضي، فقد دعا إلى «استئناف فوري» لعملية الانتقال السلمي للسلطة، ولم يتفق أعضاؤه مع ذلك على تنفيذ تدابير قسرية.
في المقابل، في مواجهة تهديدات العقوبات الدولية، سعى غويتا إلى حشد دعم داخلي، معلناً عزمه تسمية رئيس الحكومة المقبل من صفوف الائتلاف الذي قاد سنة 2020 شهوراً من الاحتجاجات ضد كيتا. وهمّش العسكريون هذا التجمع المعارض إثر إزاحتهم الرئيس. لكن تسمية رئيس حكومة من ائتلاف 5 يونيو (حزيران)، قد لا يعفي غويتا من رد فعل جيران مالي وشركائها الذين ينظرون إليه بكثير من الريبة.
وفي هذا السياق، نذكر أن الرئيس ماكرون هدد في مقابلة مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش»، بسحب القوات الفرنسية من مالي حال سارت سلطات باماكو باتجاه «الإسلاموية الراديكالية». وأكد ماكرون أنه سبق له أن «مرّر رسالة» إلى قادة دول غرب أفريقيا مفادها أنه «لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية ولا عملية انتقال سياسي». وللعلم، عبر «قوة برخان» التي تضم نحو 5100 عنصر، تدعم فرنسا مالي التي تواجه منذ 2012 هجمات إرهابية تشنها الجماعات المتطرفة انطلقت في الشمال وأغرقت مالي في أزمة أمنية قبل أن تمتد إلى وسط البلاد.