الطبيعة... من طفولة العقل البشري إلى «صدمة» العلم

عالم بريطاني يبحث في تطور فكرة الإنسان عنها عبر العصور

الطبيعة... من طفولة العقل البشري إلى «صدمة» العلم
TT

الطبيعة... من طفولة العقل البشري إلى «صدمة» العلم

الطبيعة... من طفولة العقل البشري إلى «صدمة» العلم

يتناول هذا الكتاب واحدة من أهم القضايا التي تشغل العلماء والباحثين في فلسفة العلم اليوم، ويرصد محاولتهم الوصول إلى صياغة منطقية لقانون علمي يحكم العلاقة بين الإنسان والعالم، من خلال كشف حقائق الطبيعة السائدة في عصر ما.
الكتاب صدرت طبعة جديدة منه حديثاً عن «المركز القومي للترجمة في القاهرة»، بعنوان «فكرة الطبيعة»، من تأليف العالم البريطاني روبين كولنغوود، وترجمة أحمد حمدي محمود، ومراجعة أستاذ الفلسفة د. توفيق الطويل، وتقديم الأكاديمي د. بدوي عبد الفتاح.
ويقع الكتاب في 210 صفحات من القطع الكبير، ويطوف بنا في رحلة بانورامية شيقة، متتبعاً تصورات القدماء في هذا السياق، بداية من اليونانيين مروراً بعصر النهضة والتنوير وصولاً إلى العصر الحديث، مقدماً صياغة منطقية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، من خلال عقله وحواسه ومعتقداته، لافتاً إلى أن أهمية فكرة الإنسان عن الطبيعة تتغير من عصر لآخر، متأثرة بمنظومته المنطقية من المعتقدات والمفاهيم والمبادئ التي تشكل رؤيته الخاصة للطبيعة، وعلاقته بها، فالعالم بصفته إنساناً قبل كل شيء يتشرب روح عصره ويفكر بمنطقه. ويضرب المثال بـ«داروين»: «فلو تخيلنا أنه يعيش أيام اليونان، في القرن السادس قبل الميلاد، لما أمكنه أن يتوصل إلى نظريته عن التطور. والأمر نفسه بالنسبة لأينشتاين، فلو عاش في العصور الوسطى، لما سمع أحد عن نظرية النسبية».
عند اليونان
وفي محاولة لجذب القارئ لهذه السياحة العلمية، يقول المؤلف: «باختصار، قل لي ما فكرتك عن الطبيعة، أقل لك الشكل المنطقي للقانون العلمي الذي تؤمن به.
هل يتصور الناس الطبيعة بصفتها كياناً عضوياً حياً شأنها شأن الإنسان؟ هل يتصورونها عاقلة معقولة منظمة بذاتها لها غايتها التي تسعى إلى تحقيقها دون وصاية خارجية؟ حينئذ ستقتصر علاقة الإنسان بها على التأمل عله يكتشف شيئاً من قوانينها دون أن يشارك بشيء في بنائها». ويضيف: «كانت هذه هي فكرة البشر عن الطبيعة عند اليونان التي يمكن أن نسميها طفولة العقل البشري أو مفهوم الأحياء، فعندما رأى اليونانيون البذرة تسقط من فوق الشجرة على الأرض بفعل الرياح، ثم تُسقى بماء المطر فتنمو وتتجدد الحياة دون تدخل بشري، قالوا إذن هي حية مستقلة، وكيف لا تكون حية وهي التي أنتجت الحياة؟».
ويوضح الكتاب أن هذا التصور يقدم لنا الطبيعة بصفتها ذات حياة، وأن لها القدرة على الحركة وتجديد نفسها بنفسها دون عون خارجي بحسب مبادئ معقولة كامنة فيها، وبالتالي فالطبيعة شأن الإنسان لها غايات تسعى إلى تحقيقها، وهذا يعني أننا أمام طبيعة منظمة تنتفي فيها المصادفة والعشوائية. وهذا التصور للطبيعة يعرف بالنزعة الإحيائية، أي النزعة لإحياء الأشياء الجامدة، وهو التصور الذي سيطر على العقلية اليونانية منذ «طاليس» الذي عُرف عن قوله إن الأشياء مليئة بالنفوس، وإن المغناطيس له نفس لأن فيه قوة جذب الحديد.
والنفس عند اليونان مرادفة للحياة، وبناء على هذا التصور، وبمقتضى هذا المنهج الذي شاع استخدامه بين الفلاسفة اليونان، تعد الطبيعة صورة مكبرة عن الإنسان، حيث إن لها نفساً كما أن للإنسان نفساً. وكما أن الإنسان لا يحتاج إلى قوة خارجية من أجل ممارسة حياته، فكذلك الطبيعة تتصف بأنها ذاتية الحركة. يقول أرسطو إن الطبيعة تتضمن في ذاتها مبدأ سكونها وحركتها، والحركة عند اليونان تعني الحياة.
وعلى ذلك، يؤكد المؤلف أن هذا التصور العضوي للطبيعة يحمل معنيين: الأول أنه لا يفيد التطور لأن صور الأشياء (أي قوانينها) ثابتة، فسنن الطبيعة تجري على هيئة دوائر مغلقة؛ والثاني (وهو الأهم) أنه يختلف عن التصور الآلي الذي ساد منذ أواخر عصر النهضة وبداية العصر الحديث، بدءاً من دافنشي ثم جاليليو، وبلغ ذروته عند نيوتن، فقد أصبحت الطبيعة تتصف بالقصور الذاتي؛ أي أنها عاجزة عن الفعل بذاتها، فهي عمياء لا تعرف مقاصدها، طبيعة غير منتظمة ولا معقولة ولا غاية لها، وبالتالي فهي في حاجة لمن يوجهها؛ أي بحاجة إلى قوة خارجية لتغيير حالتها.
في عصر النهضة

يوضح الكتاب أنه في القرن السادس عشر، اختلف الموقف، فقد أصبح الإنسان ينظر للطبيعة بصفتها «جامدة»، وأن ما نلاحظه فيها من نظام أو قانون ليس نابعاً منها، بل هو مفروض عليها من قوة خارجية عاقلة. وفي هذه الحالة، لن يكون القانون العلمي اكتشافاً لما هو كائن، بل إبداعاً من عقل الإنسان وخياله، والنموذج المطروح هنا هو قانون نيوتن في الجاذبية، وتلك هي فكرة الطبيعة الآلية التي سادت منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر وما يليه معبرة عن العقل الواثق بنفسه. ويتابع: «تطور الأمر بعد ذلك لنجد الإنسان يتصور الطبيعة أعظم وأشد تعقيداً مما يمكن أن يستوعبه العقل البشري، طبيعة دائمة التطور، تتمثل حقيقتها في التغير والتبدل. وهذا يعني الاعتراف بشيئين: أولهما أن التطور والتحول هما جوهر الطبيعة، وليس الثبات، وأن ما يوجد بها من كائنات ليست نماذج ثابتة متكررة تحمل الصورة نفسها، بل توجد وتتطور وتختفي، وهي الفكرة التي انبثقت عن نظرية (داروين) و(لامارك) في التطور، وبلغت ذروتها عند (برجسون) حين حلت فكرة التقدم محل فكرة الدورات المغلقة. الشيء الثاني يتمثل في النتائج الثورية التي أسفرت عنها الفيزياء المعاصرة في نظريتي (ميكانيكا الكم) و(النسبية)، حيث أدت إلى انقلاب في فكرة الطبيعة الآلية، فقد اختفت فكرة الحقيقة الثابتة، وحلت محلها فكرة التغير والصيرورة. وهنا، لم تعد حقيقة الطبيعة تتمثل في التغير الذي لا بد أن يفضي إلى الثبات، بل التغير ذاته إلى ما لا نهاية».
ثورة شاملة
ويخلص المؤلف إلى أن الفكر الأوروبي الحديث كان على موعد مع عصر جديد يمثل ثورة شاملة جرفت في طريقها كل المفاهيم والمبادئ التي بنى عليها التصور اليوناني برؤيته الساذجة للطبيعة. والمحور الأساسي الذي ترتكز عليه هذه الثورة هو إعادة الإنسان بعقله وضميره إلى مركز الصدارة في الكون. ومهدت لذلك حركة الكشوف الجغرافية، واكتشاف حضارات لا تقل تقدماً عن الحضارة الأوروبية، حيث ظهرت الحاجة الماسة للمخترعات الجديدة التي تستفيد من قوى الطبيعة في تسخيرها لتيسير حياة الإنسان ورفاهيته، أو كما يقول «بيكون»: «العلم قوة». ويذكر الكتاب أن ذلك العصر كان يموج بفيض من الأفكار التجريبية، سياسية واجتماعية وعقائدية، التي تحرص في مجموعها على رفض الأفكار الجاهزة التي تُفرض على العقل، واتجه الإنسان بقوة إيمانه بذاته وثقته بقدراته لإعادة صياغة المعادلة الكونية، بحيث يحتل مركز الصدارة، ويكون عقله هو المبدع لقوانين الوجود، فالعقل يجب أن يكون سيداً للطبيعة، ومبادئه أوامر يجب أن ترضخ لها. ويستشهد المؤلف بـكانط، مشيراً إلى أنه يلخص العلاقة بين العقل والطبيعة في رؤية قوية موحية، يقول فيها: «عندما ترك جاليليو كرات ذات أوزان معينة حددها بنفسه تنزلق فوق سطح مائل (وهي تجربة جاليليو لقانونه عن القصور الذاتي) شع ضوء مبهر أمام كل الباحثين في الطبيعة، فقد أدركوا أن العقل قادر على اختراق حجب الطبيعة، وأن عليها أن تتحرك وفقاً لمبادئه وأحكامه، وأن تجيب عن أسئلته، فالعقل قابض بيد على مبادئه، وباليد الأخرى على التجربة الخاضعة لهذه المبادئ، بحيث يجب أن تقترب من الطبيعة ليتعلم منها، ولكن ليس بصفته تلميذاً يوافق معلمه على كل شيء، بل بصفته قاضياً يجبر الشهود على الاعتراف».
ويخلص المؤلف إلى أنه بهذا المعنى، تغيرت فكرة الإنسان عن الطبيعة وعلاقته بها، فحلت فكرة «الآلية» محل الطبيعة العضوية؛ بمعنى أن الطبيعة ليست منظمة بذاتها، وليست قادرة على تدبير أمورها بقوانينها، وأنها موجهة داخلياً لغايات هي التي حددتها لنفسها، وهي أشبه بآلة كبيرة تروسها هي الظواهر، كما أن كل ظاهرة في الطبيعة هي سبب في حدوث ظاهرة لاحقة ومسببة لظاهرة سابقة. وهذا ما نراه في قانون الفعل ورد الفعل.
من هنا، نفهم لماذا آمن كثير من علماء وفلاسفة ذلك العصر بالسببية الضرورية، أو ما يعرف بـ«الحتمية الآلية»، ونستطيع أن نلتمس عناصر فكرة الآلية قبل ذلك عند دافنشي مؤسس علم الميكانيكا الحديث. يبقى أن نقول إنه على الرغم من الطباعة الجيدة للكتاب، فإنه خلا من أي تعريف بالمؤلف روبين كولينغودد، وهو فيلسوف مؤرخ عالم آثار بريطاني (1889-1943)، له عدد من المؤلفات المهمة الأخرى، مثل: «فكرة التاريخ» و«مقال في المنهج الفلسفي».


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم