لأن الرئيس الفرنسي يعتبر أن لبلاده «مسؤولية خاصة إزاء ليبيا»، في إشارة ضمنية إلى الدور الذي لعبته باريس عام 2011 للتعبئة الدولية ضد نظام العقيد معمر القذافي، وإطلاق حملة عسكرية غربية ضده أدت إلى إسقاطه، فإن التصريح الذي أدلى به مساء أول من أمس، وبجواره رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، جاء بمثابة «خريطة طريق» لليبيا للأسابيع والأشهر المقبلة على المستويات كافة؛ خصوصاً أنها تأتي قبل مؤتمر برلين الثاني، الذي دعت إليه ألمانيا لتثبيت المراحل المقبلة، التي يفترض أن تفضي إلى انتخابات نهاية العام، وانبثاق حكومة جديدة تتمتع بشرعية كاملة ولا منازعة حولها.
5 مرات كرر فيها الرئيس ماكرون أن باستطاعة ليبيا «التعويل على دعم فرنسا»، وهذا التعويل عرضه ماكرون في 4 ميادين؛ أمنية وسياسية واقتصادية وصحية، معتبراً أن التحدي الكبير يكمن في أن يعيش الليبيون في بلد «يتمتع بالسيادة والازدهار والاستقرار».
واستقرار ليبيا هو تحدٍ يعني، وفق النظرة الفرنسية، الاستقرار والسلام في بلدان الساحل والجوار المتوسطي. وبالطبع يمر هذا الاستقرار، بحسب ماكرون، بـ«بوضع حد لكل التدخلات الخارجية، ورحيل جميع القوى والمرتزقة الأجانب من الأراضي الليبية»، ذاكراً منهم الروس والأتراك ومرتزقتهم، وآخرين.
وربط ماكرون بين انسحاب القوى الأجنبية مع قيام «جيش موحد قادر على توفير الأمن لجميع الليبيين في كل الأراضي الليبية»، وأيضاً نزع سلاح «الميليشيات»، داعياً إلى تواصل دمجها في إطار الدولة الليبية. ولم ينسَ ماكرون أن الاستقرار والسيادة يعنيان أيضاً السيطرة على جميع الحدود البرية والبحرية الليبية، معتبراً ذلك «أولوية فرنسية وأوروبية»، ومعرباً أيضاً عن استعداد بلاده لمد يد المساعدة لليبيا، والعمل مع سلطاتها ومع الشركاء الأوروبيين والأفارقة. وهذه المسألة بالذات أساسية بالنسبة لفرنسا، لأنها تتناول أمرين متلازمين؛ الأول استقرار بلدان الساحل، وأيضاً بلدان شمال أفريقيا. والثاني ملف الهجرات غير الشرعية المتدفقة عبر الحدود الليبية باتجاه الشواطئ الأوروبية.
وفيما يخص البند الثاني، جاء رد الدبيبة واضحاً، إذ اعتبر أن «مشكلة الهجرات غير الشرعية لا يمكن أن تحل في مياه المتوسط وعلى الشواطئ الليبية، بل في بلدان المنشأ، عوض أن تحمل بلدان العبور (أو الوصول)، مثل ليبيا، كامل ثقل هذه الهجرات».
وكما الملف الأمني - السيادي، اعتبر ماكرون أن التحدي الآخر الذي تواجهه ليبيا هو سياسي الطابع، وأفقه الانتخابات العامة المقبلة، التي رأى أنه من الضروري «ضمان نجاحها»، ما يعني «الحاجة لبذل جهود من أجل المصالحة الوطنية». والطريق إلى ذلك، حسبه، يمر عبر الحوار الوطني، الذي يجب أن يشمل القوى السياسية كافة، بتعاون مع مبعوث الأمم المتحدة يان كابيتش، الذي كال له ماكرون المديح.
بيد أن أوساطاً فرنسية أشارت إلى ضخامة التحديات التي تنتظر الحكومة الراهنة، قبل الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي، منها القانون الانتخابي، وتوزيع المقاعد على المناطق، وغيرها من المسائل الخلافية التي عقّدت سابقاً المهمة التي كلف بها مبعوث الأمم المتحدة السابق، غسان سلامة.
ويصح على الملف الاقتصادي، وهو الملف أو التحدي الثالث، ما صحّ على الملفين الأولين، أي استعداد فرنسا للمواكبة والمساهمة في إنجاح التجربة الليبية. إلا أن لها مقاربتها الخاصة، إذ اعتبر ماكرون أن التحدي الاقتصادي «يفرض التوزيع العادل والشفاف لثروات ليبيا، لصالح الليبيين كافة»، ملمحاً ضمناً إلى الخلافات على توزيع عائدات النفط بين مناطق النفوذ في الغرب والشرق والجنوب. وفي هذا السياق، اعتمد ماكرون خطاباً مباشراً يعكس اهتمام بلاده بالشأن الليبي، كما هو حال الدول المنافسة الأخرى، وقال موجهاً كلامه للدبيبة: «نحن مستعدون لنذهب أبعد من ذلك، وتستطيعون الاعتماد على التزام فرنسا ووقوفها إلى جانبكم، ميدانياً خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، لمواكبتكم ومساعدتكم في مهمة إعادة توحيد ليبيا، واسترجاع أمنها واستقرارها، وتمتعها بالسيادة الكاملة». مشيراً إلى أن أطباء فرنسيين سيتوجهون سريعاً إلى ليبيا استجابة لطلب رئيس الحكومة الليبية لمعالجة 450 طفلاً، يعانون من السرطان.
وخلال اليومين الماضيين، أتيحت للدبيبة مقابلة كبار المسؤولين الفرنسيين، وأن يشارك أمس في اجتماع أعدّ له منتدى الأعمال في فرنسا. وفي كل محطاته، أعرب رئيس الحكومة الليبية عن رغبته في توثيق التعاون مع فرنسا على المستويات كافة. وقال لماكرون إن «هناك الكثير الذي يمكن استثماره من أجل مصالحنا المشتركة ولمواجهة التحديات، ونحن نأمل أن تلعب فرنسا دوراً مهماً لدعم أولوياتنا». كما يأمل الدبيبة دعم فرنسا في مؤتمر برلين المقبل، وفي مجلس الأمن الذي ستتولى باريس رئاسته في يوليو (تموز) المقبل، وذلك «في إطار أجندة عودة الاستقرار إلى ليبيا، وتعزيز قرارها السياسي».
وكال الدبيبة المديح لباريس بقوله إنها «لعبت دوماً دوراً في توحيد الجهود الدولية لصالح ليبيا، وتعزيز الشرعية، والمساعدة على فرض سيادة الدولة على أراضيها، ووضع حد لوجود المرتزقة وتوحيد المؤسسة العسكرية». داعياً إلى العمل على تطبيق الاتفاقيات السابقة، المبرمة بين الطرفين في قطاعات الأمن والطاقة والبنى التحتية والاستثمارات، وإعادة إطلاق المشروعات التي توقفت، وتفعيل عمل اللجنة المشتركة الفرنسية - الليبية، التي لم تجتمع منذ العام 2002. وأعرب عن أمله في رؤية الرئيس ماكرون في ليبيا «في أقرب وقت».
وكانت باريس المحطة الأخيرة في جولة الدبيبة، التي انطلقت من الجزائر، مروراً بإيطاليا، ثم فرنسا. بيد أن صحيفة «لو موند» المستقلة اعتبرت أن الدبيبة «تأخر» في زيارة باريس، بعكس ما فعله مباشرة بعد تثبيته في منصبه في 10 مارس (آذار) الماضي؛ حيث سارع إلى زيارة مصر، ثم بلدان الخليج، قبل أن يتوجه إلى تركيا وبعدها إلى روسيا. وفي رأي الصحيفة الفرنسية، فإن التسلسل الزمني يعكس التغيرات التي طرأت بالنسبة للملف الليبي؛ حيث همش الجانب الأوروبي لمصلحة لاعبين جديدين، هما تركيا وروسيا. ومن هنا، فإن جولة الدبيبة تعيد «تأهيل» باريس وروما، اللتين ترغبان في استعادة الدور الذي كان لهما في هذا البلد سابقاً.
ماكرون يرسم «خريطة طريق» للوضع الليبي
باريس تعلن استعدادها لمواكبة المرحلة الانتقالية في «جميع أوجهها ومحطاتها»
ماكرون يرسم «خريطة طريق» للوضع الليبي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة