عن الخيال المفرط في الكتابة... والطبخ!

نجوم عالميون يؤلفون روايات ضخمة لإشباع نهم تاريخي عند قراء جدد

كارلوس زافون
كارلوس زافون
TT

عن الخيال المفرط في الكتابة... والطبخ!

كارلوس زافون
كارلوس زافون

بنى الطباخ التركي بوراك شهرته على التصعيد الخيالي للدسم، محشي ورق العنب في جوف خروف، عجل مشوي بكامله، أكبر سمكة في العالم، وأطول إصبع كفتة. يستخدم أواني طبخ بالغة الضخامة، في اتكاء واضح على خيال ولائم السلاطين وألف ليلة. التركي الشهير الآخر نصرت غوكشيه لم يتخل عن فكرة الوفرة ذاتها، وأضاف ألعابه البهلوانية بالسكاكين عند تقطيع اللحم، لكنه صار معروفاً عبر العالم بـ«شيف الملح» بانياً شهرته على استعراض صغير يقوم به في صالة الطعام. يضع نصرت الطبق على المائدة، ثم يقوم برش حصى الملح عليه لحظة تقديمه على هيئة مطر يُفلته من بين أصابع يده المرفوعة، فيتساقط متحدراً على ذراعه، وهكذا يتمكن من تمليح الطبق ومفرش الطاولة والزبون!
هذه المزحة تلقى استهجان الممسوسين بالنظافة، وأصبحت محل انتقادات بوصفها سلوكاً غير صحي، لكن من يتقبلون هذا الذوق العامي أكثر عدداً، وإلا ما صار الفتى صاحب الطفولة الشقية نجماً يؤم مطعمه نجوم في كل مجال، ليس بوسعهم الابتعاد عن حياة الاستعراض حتى في لحظات تناول الطعام، توضع أمام الواحد منهم فخذ عجل، لإشباع نهم تاريخي ربما، ولنا أن نتصور شكل ما يتبقى على مائدة كتلك!
ينهض كتش الطعام على أعمدة ثلاثة للغش: المالح والحار والدهني. وتزداد الحاجة إلى تصعيد الغش في مطاعم الكتش الشعبي لإخفاء المستوى المتدني للمكونات.
بين كُتاب الرواية نجوم عالميون لمثل هذا البذخ يؤلفون روايات ضخمة، لإشباع نهم تاريخي لدى قراء اكتشفوا متعة القراءة متأخرين.
وأحب في الحقيقة الالتزام باللفظ الأجنبي «كتش» دون ترجمته إلى «العامي» للابتعاد عن الظلال الحسنة للعامية في الثقافة العربية.
يضرب الكِتش حصاراً محكماً حول الذوق ويخنقه. كتش في الأدب، في الموسيقى، في الرسم والنحت، في الطعام، في الملابس، وفي زينة البيوت. وقد تكفلت أميركا مبكراً بنشر عامية الطبخ، ولحقت بها الصين في ترسيخ الكِتشية في زينة البيوت: تماثيل بلاستيكية وجصية قبيحة وزهور بلاستيكية والكثير من الإساءات الكتشية وأقساها الإساءة إلى رقة الدانتيلا، بتقديم مفارش طاولات من البلاستيك في صورة الدانتيلا، مهيلة التراب على كامل تاريخ من الرقة.
في الشعر نبل يجعله محصناً ضد الكتشية، حيث تموت القصائد من هذا النوع لحظة ولادتها، لكن الرواية تقبل، وكان لكل ثقافة كتشها الروائي، لكن ظاهرة الأكثر مبيعاً كانت مقيدة بحدود بلادها.
وخلال العقود الأخيرة تكفلت العولمة برواج الكتش الروائي العابر للثقافات الذي يستخدم ثلاثية الكتش ذاتها مفرطاً في الغرابات والألغاز والمعلومات. وقد تمكنت المركزية الغربية من نشر كتشها في جميع أنحاء العالم، وكما تفعل المركزية الغربية دائماً، كان لا بد من الإفساح لنماذج من ثقافات أخرى، خصوصاً من بلاد شرق آسيا الناهضة، تتولى الترويج له، ويغزو بقية العالم بموجب هذا الاحتضان الغربي.
المؤسف أن الإقبال على الكتش لا ينبع من رغبة في القبح، بل من الرغبة في الجمال، دون معرفة الطريق إليه بسبب قصور في الإمكانات الثقافية والتربية الجمالية.
يمنح كُتاب «الكتش» العالميون قراءهم عجولاً مشوية وتلالاً من المحشي داخل الخراف. هناك من يعتمد على الوفرة من الخيال المحلق كما لدى هاروكي موراكامي، على نغمة واحدة دون أي تقدير للحظات الضعف الواقعي التي تساهم في جعل هذا الخيال مقنعاً. وهناك من يعتمد على الألغاز والرموز مع كمية ضخمة من المعلومات التاريخية والفنية كما لدى دان براون. يندر أن تجد في هذه الولائم الروائية شخصية عادية كالتي نراها في الحياة.
ويقبل ملايين القراء بشهية كبيرة على مثل تلك الروايات سميكة الكعب بغراباتها المتدافعة بلا رحمة، ويستقبلون رذاذ الملح على رؤوسهم بسعادة غامرة.
كانت تجاربي في قراءة هاروكي موراكامي، سبباً في إحجامي عن متابعة خطوط الإنتاج الشبيهة، لكن دون اطمئنان كامل: ماذا لو كان هذا الكاتب الجديد واسع الانتشار وأصيلاً في الوقت نفسه؟ راودني هذا السؤال بخصوص كارلوس زافون عندما ذاع اسمه، لكنني لم أقرأه إلا على وقع خبر رحيله المفجع متأثراً بوباء «كورونا»، في يونيو (حزيران) الماضي.
وجدت في طريقي روايته الشهيرة «ظل الريح» (ترجمة معاوية عبد المجيد، «مسكلياني»، تونس 2016). بطلها وراويها دانيال، يروي بصيغة الماضي عن نفسه عندما كان صبياً يتيم الأم لم يتم عامه الحادي عشر. والده تاجر كتب قديمة غامض وصامت وحزين لم يبرأ من موت زوجته. يصحب دانيال في غموض ساعة الفجر، إلى مكان لا ينقصه الغموض ويحذره من إفشاء سر ما سوف يراه لأي مخلوق.
ويجد الراوي نفسه في مقبرة الكتب المنسية، ويلتقط رواية ساحرة بعنوان «ظل الريح» لا أحد يعرف شيئاً عن مؤلفها خوليان كاراكاس، وتبدأ رحلة هذا الصبي الأعجوبة في البحث عن سر الرواية الأعجوبة عبر سرد لا يعترف إلا بالأعاجيب!
يعجز الأب عن مساعدة دانيال في بحثه حول الرواية ومؤلفها؛ فيأخذه للقاء شيخ المهنة جوستابو برسلوه وهو رجل غامض آخر. ثري يعمل في بيع الكتب القديمة للمتعة المحضة، يصفه الراوي هكذا: «ودائماً ما كان غليونه المطفأ، الذي تفوح منه أزكى النكهات الشرقية، يتدلى من شفتيه، ويفضل أن يعرف نفسه باسم الرومانسي الأخير، ويتباهى بأنه من نسل الشاعر اللورد بايرون، رغم أن أصوله تتحدر من نسل كالداس دي منونبوي. ولعله يرتدي زي الداندي الرائج في القرن التاسع عشر كي يبرر نسبه البريطاني: إذ كان يختال بشال من الحرير وحذاء ملمع بالطلاء الأبيض، ونظارة مفردة لا معنى لها، شاعت الأقاويل بأنه لا ينزعها حتى عندما يذهب إلى الخلاء». بورتريه باروكي مفعم بالمبالغات يرسمه الصبي المعجزة لرجل يجمع بين إثارة الشرق في تبغه وجاذبية المقتنيات الأثرية في ملابسه.
يُعجب جوستابو العجيب بالصبي الأعجوبة ويضرب له موعداً جديداً لمزيد من الحديث عن الرواية ومؤلفها، في ساحة الجامعة، ولا نعرف ضرورة المكان هنا؛ فالرجل ليس أستاذاً جامعياً!
وفي الموعد يصل جوستابو وفي يده أعجوبة أخرى، هي ربيبته وقريبته كلارا؛ عمياء في العشرين يقدمها للصبي بوصفها خبيرة في خوليان كاراكاس وآثاره البائدة!
تفتن بجمالها صبي الحادية عشرة فيعرض عليها أن يقرأ لها، وتوافق فيذهب في الموعد إلى بيت جوستابو. ونرى وصف البيت بعين الصبي على هذا النحو: «كانت الشقة التي تشغل الطابق الأول كله متعددة الممرات والصالات والشرفات الفسيحة التي بدت لي كنسخة مصغرة عن متحف الإيسكوريال. كما بدا واضحاً أن الدون جوستابو مولع بجمع التماثيل واللوحات الفنية والدينية وحتى النباتات والحيوانات، ناهيك عن الكتب والمخطوطات العريقة وأي نوع من المنشورات النادرة. تبعتُ برناردا (الخادمة التي قادته من الباب إلى حيث تجلس كلارا) مروراً بإيوان مليء بالنباتات المورقة والأزاهير الاستوائية يبدو كحقل زراعي حقيقي تتسلل من ثناياه أضواء مزركشة، وفي أجوائه تطوف أنغام بيانو واهنة الوقع. كانت الخادمة تتقدم بين الأوراق الكثيفة وتحرك ذراعيها كمنجل في يدي فلاح صبور. وأنا كنت أتبعها وأنظر حولي، رأيت نحو ست قطط وببغاوين كبيرين ألوانهما تخطف الأبصار، وقالت لي إن برسلوه أسماهما أورتيغا وغاسيت. وجدت معذبتي بانتظاري في صالة عند حدود تلك الغابة الاصطناعية، ترتدي فستاناً ضبابياً من قطن سماوي وتجلس قبالة بيانو تحت نور قنديل خافت. كان في أدائها شذوذ عن اللحن وخطأ في الوزن لكنني أعجبت حقاً بتلك السيريناد التي عزفتها» طال الاقتباس، لكنه ضروري لبيان عدد الأعاجيب التي يحتويها المشهد وقد رآها ابن الحادية عشرة بعين صقر لحظة دخوله البيت واعياً بقيمة التحف واللوحات ونفاسة الكتب وبالموسيقى وقواعدها!
تمضي الوقائع على هذا النحو في خلطة من مبالغات الحب الرومانسية ومبالغات الخوف القوطية، مع أعداد غفيرة من اليتامى، بسبب تساقط الآباء والأمهات، على وقع أقدار غريبة أو في ساحات القتال وظلام زنازين الأطراف المتنازعة في الحرب الأهلية الإسبانية.
عودة ظافرة إلى مبالغات روايات فروسية القرون الوسطى التي اعتقد ميلان كونديرا ذات يوم أن سرفانتس كتب نهايتها بروايته التهكمية الخالدة.
وكما يتعايش الكتش العولمي إلى جانب المحلي في الطعام، يتعايش الكتش الروائي المحلي والقومي إلى جانب العالمي. يهتدي المؤلف المحلي بالأجنبي ويزايد عليه في تصعيد الدهون والملح والحار.
في كل الأحوال «مؤلف الكتش» ماهر في صنعته، يعرف مقادير طبخته الباذخة التي تنهك قراءه ولا تدع لهم لحظة كي يتساءلوا عن الصدق الفني فيما يقرأون، وخطورته في استبداده بقرائه، يتحول إلى زعيم لمحفل مترابط، يتبعه قراؤه، ولا يمكن أن يسمحوا بانتقاده، ناهيك عن أن يجربوا شكلاً آخر من القراءة.
ومن هذا الباب يختلف «مؤلف» الكتش عن «الكاتب» الساذج الذي يكتب ما يعرفه؛ فتلاقي روايته العذبة قليلة القيمة رواجاً بالمصادفة، ويفاجأ هو نفسه بنجاحها الذي قد لا يكرر، وحتى لو استفاد كاتب ساذج من ملاحظات النقاد حول أسباب نجاح روايته وحاول تكرار الطبخة فلن ينجح، لأنه لا يمتلك ثقافة صانع الكتش ولا مهاراته الشريرة!
وتبقى فضيلة السذاجة أنها أقل استبداداً بمستهلكها، لا تتسبب في الإدمان، ويمكن لقراء الروايات الساذجة أن يتمردوا ذات يوم على سطحية الطعم ويبدأوا سعيهم نحو النص الحساس الذي يُضمر الكثير من ظلال المعاني والطعوم والروائح والألوان.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.