الشاعر و«لعنة» تفسير الشعر

حوارية لشعراء في الفضاء الإلكتروني

الشاعر و«لعنة» تفسير الشعر
TT

الشاعر و«لعنة» تفسير الشعر

الشاعر و«لعنة» تفسير الشعر

نقاشات الفضاء الإلكتروني ليست كلها عبثية، أو مشحونة بالمزايدات والمشاحنات والكراهيات المتبادلة.
فهناك مناقشات ثرية بين المثقفين؛ أدباء وشعراء، وطلاب المعرفة، تجعل لوسائل التواصل قيمة إضافية، وتربط حلقات المبدعين مهما تنوعت وتباعدت مشاربهم وأماكنهم.
في واحدة من هذه المناقشات، فتح الشاعر السعودي جاسم الصحيّح باب النقاش حول قضية أدبية، في موقع التدوين «تويتر»، بشأن فتنة تفسير الشعر. فانهالت المشاركات لتثري المحتوى. أنقلها هنا بإيجاز، بوصفها واحدة من التجارب الجميلة والمفيدة في التبادل الثقافي والمعرفي.
القضية هي: هل يخضع النصّ الشعري للتفسير، أم إن شرحه يفقده جمالياته وخصوصياته؟ هل يتحول تفسير الشعر إلى لعنة؟ وهل يفقد الشعر ماهيته حين يتم تشريحه بالشروحات؟
الرأي الأكثر شيوعاً أن الشاعر لا يفسر نصوصه حتى لا تموت...! أحدهم ذكّر بقول أبو الطيب المتنبي: «ابن جني أعلم بشعري مني»، وآخر ساق قول الشاعر العراقي الراحل مصطفى جمال الدين: «إن أَقْسَى مَا يُحَملُ القَلْب أَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ لِنَبْضِهِ تَفْسِيْرُ». مشارك آخر قال: «شعر الإنسان كظله، إذا وجه إليه نوراً بغية كشفه اختفى».

بيت الشعر وبيت السكن
وكان جاسم الصحيّح قد قال في البدء مفتتحاً النقاش: «يتمُ بناءُ البيت الشعري كأي بيتٍ سكني حيث تشيده العبارات، وتشدُه الإشارات، وتسكنه الفكرة والمشاعر. وحين نطلب من الشاعر شرحاً مفصلاً للبيت، فكأننا نطلب منه أن يهدمه بعد البناء، ويعيده مبعثراً إلى عناصره الأولى».
وفي الردود المؤيدة لهذه الفكرة، أوردت الشاعرة اللبنانية سارة الزين قول أدونيس: «الشعرُ هو نقيضُ الوضوحِ الذي يجعلُ من القصيدة سطحاً بلا عمق، والشعرُ كذلك نقيضُ الإبهامِ الذي يجعل من القصيدة كهفاً مُغلقاً».
في حين أورد الشاعر هادي رسول قول الناقد التونسي عبد السلام المسدي: «التفسير يقدّم معاني ناجزة، بينما التأويل هو حوار جدلي مع النص... ولعلّ المقررات المدرسية روّجت لشرح الشعر وتفسير معانيه، فجعلت الفكرة العامة الرائجة أن الشعر يُشرح، ومن مشكلات التلقي الخلط بين التفسير والتأويل».
أما الكاتب والمذيع الفلسطيني عارف حجاوي، فقد ذكر أن عبارة الصحيّح «تزن مقدمة المرزوقي لشرح الحماسة التي ظلت خير وصف لمبنى الشعر».
وأبدى الشاعر السعودي حسين آل دهامر بدوره وجه نظره قائلاً: «انظر دائماً لبيت الشعر أو القصيدة كلوحة فنية. تَخَيّل: حينما يُطلب من الرسام تفسيره لاختيار الألوان والزوايا، أو يُطلب منه توضيح وتفصيل الرموز والدلالات في لوحاته؛ أيعقل ذلك؟ قطعاً لا! ولكن من أسباب المحافظة على سلامة الشعر شرحه وتناوله من قبل المختصين والنقاد لا من قِبل الشاعر نفسه».
وكتبت الشاعرة سمية عادل: «البيت أكبر من أن يفسر؛ لأن إحساس الشاعر أو شعوره جزء لا يتجزأ عن البيت حين الكتابة، لذلك يجب أن نترك ذلك الإحساس يصل للقارئ حسب حالته، ويفسر هو كما يحلو له، فمن الممكن أن تصادف بيتاً فتقرأه في حزنك بعمق فيصلك منه معنى غير الذي وصلك في حالة أخرى».
أما الشاعر إبراهيم الوافي، فقال: «الشاعر يفتح النوافذ، لكنه لا يمنح عينيه، هل الشعر يُكتب ليقول ما يشاء الشاعر وحده؟... أظن أن لكل متلقّ قصيدته حين يتلقّاها... لكن فكرة البناء والهدم مبسّطة ومدهشة، ولعلها تكفينا على الأقل مشقّة الاستجابة لها حين نعتذر عن الشرح». وشارك الشاعر علي بن محمد القرني بقوله: «الشعر جامع للصورة واللحن والنحت والرسم، فيه تنسيق للجُمل، ووزن هندسي للأبيات، وضبط للقوافي، وتحسّس للخروج من معنى والدخول في آخر بانسيابية لا تلحظ، ثم النفخ في كل ذلك من روح الشاعر ليعطيها بصمته التي تميزه عن غيره. فكيف إذا جمع الشاعرُ ذلك يُطلب منه تفكيكه؟!... الشاعر المتمكن لا يشرح شعره».
شاعر شاب، هو حمزة إسماعيل، ردّ قائلاً: «شرح الشعر يعني تجريده من مغزاه ومن أبعاده اللامتناهية، فالأصل أن يعيشه القارئ بما أحسّ به، وبما لامس شغاف قلبه منه، وفي شرحه قتله، والوقوف (به) عند صورة واحدة أو بُعد واحد».
وتدخل الكاتب السعودي؛ محمد علي المحمود مؤيداً الفكرة بقوله: «عندما يشرح الشاعر شعره، فإنه قد يقول كل شيء؛ إلا ما يكون به كلامه شعراً، أي عند الشرح، يسقط منه بالضرورة شعرية شعره، يسقط جوهره الفارق، ما يعني أن أي شرح هو إلغاء للشعر من الأساس».
الكاتبة، مارية السبيعي، كتبت: «بعض الكلمات لا تُفسر!، تظل مفتوحة كبحر لجي، تسبر غوره، وتغوص بأعماقه، لتُحدق بأنواره».

معارضون: مدخل لشعراء
يكتبون ما لا يُفهم

شعراء آخرون اعترضوا على الفكرة التي ساقها الصحيّح، قائلين إن البيت الشعري لا ينهدم بالتفسير. وأبرز القائلين بهذه الفكرة الشاعر جاسم عساكر، الذي عارض فكرة الصحيح متسائلاً: «لماذا ينهدم البيت الشعري لمجرد طلب الشرح؟ ثم إن كان البيت الشعري كالبيت السكني، فإن له خارطة واضحة المعالم. ما الضير في شرح بعض ما استعصى فهمه على بعض المتلقين؟ أليس هناك شراح للدواوين العربية؛ كشرح ديوان المتنبي، وشرح ديوان ابن الرومي، وشرح ديوان ذي الرمة... وغيرها؟».
أضاف ابن عساكر: «أعتقد أن فكرة أن البيت الشعري لا يُشرح، ساهمت في خلق جيل من الشعراء يكتب ما لا يُفهم. بدعوى: (عليّ أن أكتب وعليك أن تفهم)... فتكدس الغامض، وفاضت نصوص غارقة في العمى بذريعة: (عليّ نحت القوافي من مقاطعها... وما عليّ إذا لم يفهم البقر)!» وأيد فكرة ابن عساكر الكاتب أسامة فؤاد سراج الدين بقوله: «كمتذوق للفن المعماري عندما أسأل معمارياً عن مكونات بنائه وأحاسيسه ومشاعره التي أسكَنها فنه المعماري، فأنا لا أطلب منه هدم البيت... المشكلة تكمن (...) حيث يعتقد الكثير أن لغة الآلهة غير لغة البشر».
وردّاً على هذه الفكرة، قال الشاعر جاسم الصحيّح: «تذكّر أن العناصر الأولية للبناء المعماري هي عناصر ملموسة من حجارة وإسمنت، لذلك قد يشرح المعماري، ويبقى المعمار الحجري على حاله. ولكن العناصر الأولية في الشعر هي اللغة والكلام، وحينما نشرح؛ فإننا نفتت العناصر الأولية للمعمار الشعري، وهذا هو الفرق». وتعقيباً على ذلك، قالت الشاعرة السورية، ابتسام الصمادي: «على الشاعر أن يعطي مفاتيح الدخول لا أن يغرق بيته بالعتمة حتى يتعذر الدخول».
وشارك الشاعر أحمد الصيعري بقوله: «على الشعر ألا يخرج عن إبانته للشعور، وليس بالضرورة لتفصيلات الفكرة إلا لسابرِ غَور. والغموض، كما قال البردوني، نوعان: غموض (امتلاء) إذا دققت فيه سقاك، وغموض (فراغ) إذا دققت فيه لم تجد شيئاً».



«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!