المواطن بترايوس.. من الاستخبارات إلى البورصة والطبقة الراقية

قنوات الاتصال بين الجنرال الأميركي السابق والبيت الأبيض مفتوحة على الرغم من التحقيقات الحالية

الجنرال ديفيد بترايوس بين النخب الراقية في واشنطن (نيويورك تايمز)
الجنرال ديفيد بترايوس بين النخب الراقية في واشنطن (نيويورك تايمز)
TT

المواطن بترايوس.. من الاستخبارات إلى البورصة والطبقة الراقية

الجنرال ديفيد بترايوس بين النخب الراقية في واشنطن (نيويورك تايمز)
الجنرال ديفيد بترايوس بين النخب الراقية في واشنطن (نيويورك تايمز)

بذل الجنرال ديفيد إتش بترايوس، بوصفه أعلى قائد عسكري أميركي كان يشرف على منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، جهودا مضنية للتودد إلى النخبة السياسية الحاكمة في دولة كازاخستان. ومن بين ذلك كان إلقاؤه لمزحة خلال لقائه مع الرئيس نور سلطان نزارباييف في محاولة منه لتبديد المخاوف حيال خطط الولايات المتحدة الأميركية تجاه مخزون النفط في تلك المنطقة.
قال الجنرال بترايوس: «كان يمكننا شراء كل النفط الموجود في تلك المنطقة ولمائة عام قادمة بما أنفقنا فقط على حرب العراق».
واليوم، صار الجنرال بترايوس المواطن بترايوس، وشريكا جديدا لدى مؤسسة كي كي آر وشركاه، وهي شركة خاصة لإدارة الأوراق المالية والأسهم تتخذ من نيويورك مقرا لها. وعاد السيد بترايوس إلى زيارة كازاخستان خلال الشهر الماضي، ولكن هذه المرة متوددا إلى صفوة رجال الأعمال لدى جامعة نزارباييف، التي أسسها الزعيم الكازاخستاني.
تأتي الزيارة، التي كانت برفقة الملياردير هنري كرافيس، المؤسس المشارك لمؤسسة كي كي آر، كنافذة جديدة على الحياة الراقية التي باتت تنسحب من تحت أقدام الجنرال السابق إثر لائحة اتهامات جنائية قد تناله خلال عامين بسبب علاقة غرامية خاصة خارج نطاق الزواج كلفته فقدان منصب رفيع كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وهو يحاول هذه الأيام البقاء خارج الأضواء في العاصمة الأميركية التي كانت تحتفي به لكونه من أعظم الجنرالات العسكريين بين بني جيله.
يقول السيناتور جون ماكين، النائب الجمهوري عن ولاية أريزونا ورئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي وأحد حلفاء السيد بترايوس: إنه «يقوم بالكثير من العمل لأجل كرافيس، غير أنه من الواضح أن لائحة الاتهامات المذكورة حالت دون قيامه بالمزيد. لقد صار صوته خفيضا للغاية الآن».
أوصى عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية مع المدعوين من وزارة العدل الأميركية، بأن السيد بترايوس قد يواجه اتهامات جنائية بشأن الإفصاح على معلومات سرية إلى عشيقته ومؤلفة سيرته الذاتية، السيدة باولا برودويل. ولقد نفى السيد بترايوس تلك الاتهامات بالكامل. ولكن إذا استمر المدعي العام إريك هولدر، أو خليفته، في مواصلة تقديم لائحة الاتهام، فقد ينتهي الأمر فعليا بالسيد بترايوس البالغ من العمر (62 سنة) إلى السجن.
وعلى الرغم من التحقيقات الحالية، لا تزال هناك قناة من المحادثات الهادئة موصولة بينه وبين البيت الأبيض؛ حيث تواصل مجلس الأمن القومي الأميركي مرارا وتكرارا مع المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية منذ الصيف الماضي، على حد تصريح أحد المسؤولين بالإدارة الأميركية، وقد استجاب السيد بترايوس موفرا المشورة والرأي حيال السياسات العراقية وكيفية مواجهة تنظيم داعش.
ظل الجنرال السابق أكثر نشاطا خارج العاصمة واشنطن. فالسيد بترايوس الذي يرفض إجراء المقابلات الشخصية، قد ظهر في يونيو (حزيران) في احتفالية معهد آسبن للأفكار، حيث أخبر بوب شيفر، المذيع لدى وكالة «سي بي إس» أن وظيفته لدى مؤسسة كي كي آر «بمثابة عمله مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية، ولكن لصالح مؤسسة مالية عالمية ذات عدد قليل للغاية من الموظفين». ولقد ظهر في الشارع 92 بحي مانهاتن الشهير في نيويورك في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، معاونا لرفيق قديم من رفاق السلاح، السيد جون إيه. ناغل، في الترويج لكتابه الجديد حول العراق. وقضى أسبوعا من نوفمبر (تشرين الثاني) لدى جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث التقى هناك مع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وقاد تدريبات مجموعة ضباط الاحتياط في الركض بالصباح الباكر.
ولقد عاد إلى بلدته الشهر الماضي، مشاركا مع زمرة كبيرة من مؤيدي الحزب الجمهوري في حفل العشاء السنوي الكبير لنادي الفالفا، وهي احتفالية اجتماعية - سياسية صاخبة بالعاصمة واشنطن وأبعد ما تكون عن الرسميات.
يقول أصدقاء الجنرال السابق إنه أبعد ما يكون الآن عن حياته السابقة كقائد للقوات الأميركية في العراق وأفغانستان حينما كانت تلك الحروب في أوج زخمها واشتعالها، وكمشرف ومسير للأعمال العسكرية الأميركية بمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى حينما كان يترأس القيادة المركزية الأميركية.
يقول السيد ناغل: «ليس من شك أنه يفتقد كونه جزءا من الحياة العسكرية الشاقة والخشنة وتكريس حياته لقرارات الأمن القومي الأميركية الذكية. وفكرته الشخصية عن الاسترخاء تنبع من احتساء كأس من الشراب مع حديث لطيف حول نقاط الضعف الاستراتيجية لدى تنظيم داعش».
التحق السيد بترايوس بمؤسسة كي كي آر في عام 2013، بعد 6 أشهر من مغادرة منصبه في وكالة الاستخبارات المركزية، إثر إلحاح من السيد كرافيس صاحب المؤسسة. يدير السيد بترايوس، داخل المؤسسة الشهيرة، ما يعرف بأنه قسم صغير للأبحاث: «معهد كي كي أر العالمي»، الذي يعمل على تحليل السياسات العامة والمخاطر الاستراتيجية ويقدم المشورة للمؤسسة حيال قرارات الاستثمار، كما أفاد بذلك زملاؤه في العمل.
لكن خبراء الأسهم الخاصة يقولون إن قيمة الرجل الحقيقية تكمن في أنه يعمل بمثابة «مفكرة للأعمال».
يقول أحد أصدقاء السيد كرافيس الذي أصر على إخفاء هويته إن «بترايوس يفتح أمامك المجالات والأبواب. إذا ساعد بترايوس هنري في إيجاد وسيلة لاستثمار مائة مليون دولار في كازاخستان أو في غيرها، كن متأكدا أنها صفقة جيدة للغاية لكلا الرجلين».
أفسح السيد شينزو آبي، رئيس وزراء اليابان، المجال لاستقبال السيد بترايوس، أثناء مؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف عام 2013، وانخرط السيد بترايوس حينها في مقابلة مصورة وجيزة مع ديفيد سنو، مؤسس شركة برايف - كاب، التي تعمل على متابعة أعمال شركات الأسهم الخاصة عن كثب، حيث قال السيد بترايوس حينها: «إننا نتابع اقتصادات آبي بشكل وثيق وبمنتهى الوضوح».
عندما أراد السيد سيدني إي. غودفريند، المصرفي المخضرم لدى مجموعة ميريل لينش للاستثمار الذي أسس عقب تقاعده شركة لتوفير الخدمات التعليمية للمتقاعدين، من السيد كلينتون تصوير مادة دعائية للخدمة العامة لصالح شركته، انطلق في طريقه للاجتماع مع الرئيس السابق من واقع تعهده بإحضار السيد بترايوس برفقة السيد كلينتون في تصوير تلك المادة.
وقال السيد غودفريند: «ما كنا لنتمكن من تصوير تلك المادة لولا وجود ديفيد».
في كازاخستان، ترافق السيد بترايوس مع السيد كرافيس، الذي تحدث إلى طلاب الدراسات العليا لإدارة الأعمال في جامعة نزارباييف، وهي الفعالية التي وصفها موقع الكلية بأنها «حضرها علية القوم من دولة كازاخستان من نخبة الطبقة المالية والمصرفية وصناع القرار».
هذا وقد أحجمت مؤسسة «كي كي آر» عن التعليق على الشخصيات التي التقى بها السيدان كرافيس وبترايوس في كازاخستان. لكن كين ميلمان، الرئيس السابق للجنة الوطنية الجمهورية الذي يدير الشؤون العامة العالمية لدى مؤسسة كي كي آر، يقول عن السيد بترايوس «يتمتع ديفيد بشبكة ضخمة من العلاقات الشخصية. ولكن ما يثير الإعجاب بحق بالنسبة لي هو طريقة تفكيره الأصلية والمتباينة التي يطرحها في مجال الأعمال».
* خدمة «نيويورك تايمز»



رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية
TT

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

هل عادت رياح اليسار تهب من جديد على أميركا اللاتينية بعد موجة الانتصارات الأخيرة التي حصدتها القوى والأحزاب التقدمية في الانتخابات العامة والرئاسية؟
من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن تشيلي إلى هندوراس والبيرو، ومؤخراً كولومبيا، خمسة من أقوى الاقتصادات في أميركا اللاتينية أصبحت بيد هذه الأحزاب، فيما تتجه كل الأنظار إلى البرازيل حيث ترجح الاستطلاعات الأولى فوز الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإقفال الدائرة اليسارية في هذه المنطقة التي تتعاقب عليها منذ عقود شتى أنظمة الاستبداد العسكري والمدني، التي شهدت أبشع الديكتاتوريات اليسارية واليمينية.
بعض هذه الدول عاد إلى حكم اليسار، مثل الأرجنتين وهندوراس وبوليفيا، بعد أن جنح إلى الاعتدال، ودول أخرى لم تكن تتصور أنها ستقع يوماً في قبضة القوى التقدمية، مثل تشيلي وكولومبيا، فيما دول مثل المكسيك وبيرو ترفع لواء اليسار لكن اقتصادها يحتكم إلى أرسخ القواعد الليبرالية.
هذه الموجة تعيد إلى الأذهان تلك التي شهدتها المنطقة مطلع هذا القرن مع صعود هوغو تشافيز في فنزويلا، وتحت الظل الأبدي الوارف لفيديل كاسترو، فيما أطلق عليه يومها «اشتراكية القرن الحادي والعشرين». ومن المفارقة أن الدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الموجة، نجدها غالباً في تمايزها عن تلك الموجة السابقة التي كان لارتفاع أسعار المواد الأولية والصادرات النفطية الدور الأساسي في صمودها. فيما محرك التغيير اليوم يتغذى من تدهور الوضع الاجتماعي الذي فجر احتجاجات عام 2019 وتفاقم مع ظهور جائحة «كوفيد». يضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت على استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية.
ومن أوجه التباين الأخرى بين الموجتين، أنه لم يعد أي من زعماء الموجة الأولى تقريباً على قيد الحياة، وأن القيادات الجديدة تتميز ببراغماتية ساعدت على توسيع دائرة التحالفات الانتخابية نحو قوى الوسط والاعتدال كما حصل مؤخراً في تشيلي وكولومبيا.
حتى لولا في البرازيل بحث عن حليفه الانتخابي في وسط المشهد السياسي واختار كمرشح لمنصب نائب الرئيس جيرالدو آلكمين، أحد زعماء اليمين المعتدل، الذي سبق أن هزمه في انتخابات عام 2006.
ولى زمن زعماء اليسار التاريخيين مثل الأخوين كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين اعتنقوا أصفى المبادئ الاشتراكية وحاولوا تطويعها مع مقتضيات الظروف المحلية، وجاء عهد قيادات جديدة تحرص على احترام الإطار الدستوري للأنظمة الديمقراطية، وتمتنع عن تجديد الولاية، وتلتزم الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة.
لكن مع ذلك لا يستقيم الحديث عن كيان واحد مشترك تنضوي تحته كل القوى التقدمية الحاكمة حالياً في أميركا اللاتينية، إذ إن أوجه التباين بين طروحاتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد عن القواسم المشتركة بينها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول طبيعة العلاقات التي ستقيمها هذه القوى التقدمية مع محيطها، وأيضاً مع بقية دول العالم.
وتشير الدلائل الأولى إلى ظهور توتر يتنامى بين رؤية القوى التقدمية الواقعية والمتعددة الأطراف للعلاقات الدولية، والمنظور الجيوستراتيجي للمحور البوليفاري. ومن المرجح أن يشتد في حال فوز لولا في البرازيل، نظراً لتمايز نهجه الدبلوماسي عن خط كوبا وفنزويلا، في الحكم كما في المعارضة.
ويلاحظ أن جميع القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى صون، أو إحداث، تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة، أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. ولا شك في أن من الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى اعتماد هذا الأسلوب الدفاعي، أن القوى اليسارية والتقدمية الحاكمة غير قادرة على ممارسة الهيمنة السياسية والآيديولوجية في بلدانها، وهي تواجه صعوبات كبيرة في تنفيذ برامج تغييرية، أو حتى في الحفاظ على تماسكها الداخلي.
ويتبدى من التحركات والمواقف الأولى التي اتخذتها هذه الحكومات من بعض الأزمات والملفات الإقليمية الشائكة، أن العلاقات مع كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا ستكون مصدراً دائماً للتوتر. ومن الأمثلة على ذلك أن الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو، ونظيره التشيلي، اللذين كانا لأشهر قليلة خلت يؤيدان النظام الفنزويلي، اضطرا مؤخراً لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها نظام نيكولاس مادورو، علماً بأن ملايين الفنزويليين لجأوا في السنوات الأخيرة إلى كولومبيا وتشيلي.
وفي انتظار نتائج الانتخابات البرازيلية المقبلة، وبعد تراجع أسهم المكسيكي مانويل لوبيز لوبرادور والتشيلي بوريتش لقيادة الجبهة التقدمية الجديدة في أميركا اللاتينية، برزت مؤخراً صورة الرئيس الكولومبي المنتخب الذي يتولى مهامه الأحد المقبل، والذي كان وضع برنامجه الانتخابي حول محاور رئيسية ثلاثة تمهد لهذا الدور، وهي: الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتغير المناخ، والدور المركزي لمنطقة الكاريبي والسكان المتحدرين من أصول أفريقية، والميثاق الإقليمي الجديد الذي لا يقوم على التسليم بريادة الولايات المتحدة في المنطقة لكن يعترف بدورها الأساسي فيها.