الجوائز الأدبية... هل أشاعت نوعاً من الفوضى الروائية؟

كتاب عراقيون من أجيال مختلفة يتحدثون عن انعكاساتها الإيجابية والسلبية

عبد الخالق الركابي - لطفية الدليمي - جهاد مجيد - محسن الرملي - شاكر الأنباري
عبد الخالق الركابي - لطفية الدليمي - جهاد مجيد - محسن الرملي - شاكر الأنباري
TT

الجوائز الأدبية... هل أشاعت نوعاً من الفوضى الروائية؟

عبد الخالق الركابي - لطفية الدليمي - جهاد مجيد - محسن الرملي - شاكر الأنباري
عبد الخالق الركابي - لطفية الدليمي - جهاد مجيد - محسن الرملي - شاكر الأنباري

مع شيوع كتابة الرواية، وتصدرها مشهد الاشتغال الأدبي في العراق، منذ عقدين من الزمن، درجة أزاحت فيها الشعر من عرشه في بلد عرف بهيمنة الشعر في مشهده الثقافي طوال القرن العشرين، هل ساهمت الجوائز المكرسة للرواية في نمو هذا الاتجاه أم إنه نتيجة موضوعية للتغيرات الاجتماعية والأدبية التي عرفتها البلدان العربية، ومنها العراق؟ ثم، هل أثرت الجوائز الأدبية على القيمة الفنية والفكرية للأثر الروائي؟ بمعنى، هل يكتب الروائي بحرية كاملة أم بمواصفات تتناسب مع معايير معينة تتناسب مع معايير الجائزة، أي جائزة؟
هنا آراء عدد من روائيي العراق من أجيال مختلفة:

لطفية الدليمي: لا طهرانية مطلقة

كلما جرى تناول موضوع الجوائز الروائية العربية، والإشكاليات المرتبطة بها، أميل من جانبي إلى تغليب حسن الظن والمروءة، لكن حسن الظن والمروءة المفترضة في أعضاء لجان التحكيم لا يمنعان من تأشير بعض المواضعات التي قد ترقى لمستوى «البديهيات»:
أولاً: للمال سطوة على الأفراد -روائيين ومحكمين- وليس من الحكمة افتراض الطهرانية المطلقة فيهم، ولنا في إشكالية نوبل للأدب مثالٌ صارخٌ في هذا الشأن.
ثانياً: الجوائز الأدبية تُعدُّ ذراعاً إضافياً يعمل على تدعيم الرؤى الجيو-سياسية لكل دولة داعمة لهذه الجوائز، حتى لو تسربلت هذه الرؤية في شكل قوة ثقافية ناعمة.
لو وضعنا في حسابنا هاتين المواضعتين نقطة شروع، سيسهل علينا كثيراً تفكيك ظاهرة الجوائز الروائية العربية.
لم تساهم هذه الجوائز -كما أرى- في تدعيم الوعي الروائي العربي، بل أشاعت نوعاً من الكتابة الروائية السريعة، حتى بات المشهد الروائي العربي مصداقاً واقعياً للحقيقة القائلة إن الأعمال الجيدة أكلتها الأعمال الرديئة في زحمة التنافس والمغالبة.

عبد الخالق الركابي: نصوص استشراقية

ما يعزز هذا الأمر أن الجهة التي تقيم النصوص الجديرة بالفوز تكون عادة محايدة موضوعية مستقلة عن أي تأثير جانبي خارج السياق الإبداعي. هذا على المستوى العالمي، فكيف هو الأمر مع الجوائز العربية التي يكون المبدعون العرب أحوج من غيرهم إليها بسبب أمور معروفة لا مسوغ لذكرها؟ هذا الجانب بات موضع شك لدى كثيرين عقب انكشاف فضائح كثيرة رافقت منح تلك الجوائز، وهي فضائح يبقى المحكمون بتلك الجوائز أجدر مني على كشفها. وهناك جانب سلبي ظهر خلال الأعوام الأخيرة، تمثل بتهافت كثير من الأدباء -لا سيما الشباب منهم- على تلك الجوائز، بعد «تدبيج» نصوص مفتعلة يغازلون بها النهج الذي يتوهمون أن المشرفين على تلك الجوائز ينتهجونها حتى بتنا نقرأ روايات تذكرنا بالنصوص الاستشراقية التي سبق لإدوارد سعيد أن كشفها في كتابه الرائد.

وارد بدر السالم: قيمة اعتبارية

لا يكفي المال العربي وحده لصناعة جوائز أدبية في الرواية أو غيرها من الأجناس الأدبية. فإن كان المال وسيلة اعتبارية استحقاقية، فإن تكريس الثقافة الروائية ليس بالضرورة أن يكون عبر المال. ففي أحيانٍ كثيرة لا تكرس الجوائز الثقافة الروائية، بل ربما تشيع الفوضى الروائية، وتفتح السبل المتواطئة لتغليف الجانب الفني والجمالي بالمناطقية والحساسيات السياسية والطائفية التي تكون كالحاجز بين الإبداع المجرد والإبداع الخاضع لـ«شروط» الجوائز السرية.
ومَن يعول على الجوائز الأدبية العربية فثمة نقص في بياناته الأدبية. ويحتاج إلى «حشو» من هذا النوع الذي أفرزته كثير من الجوائز العربية حتى الآن. وسلفاً، يمكن الاعتراف الاضطراري بأن مثل هذه الجوائز ذات قيمة اعتبارية أكثر من قيمتها المادية. ولدينا جوائز كثيرة في هذا المجال، لكن ليس من العدل أن نصفها بالتحيز للمناطقية والسياسية وغيرها من الاتهامات الواردة الممكنة.

جهاد مجيد: الخروج على التقاليد

منطوق الاستطلاع ينطوي على كل عناصر الموضوع، كما ينطوي على احتمالية الإجابة بالسلب أو الإيجاب، ولا غرابة ولا تجني في الأمر، فما يرشح من السؤال مطابق لما يرشح من ظاهرة الجوائز الروائية عموما، فكان الأقرب إلى النظرة السلبية التي وسمت أغلب الإجابات عن السؤال نفسه من لدن المعنيين بالرواية، وقد يكون في بعضها شيء من الغلو، لكن ما يدعم السلبية بارز في كياناتها وطرائق عملها وما آلت إليه نتائج تلك الظاهرة.
من الغريب أن يقول المرء بسلبية الجوائز الأدبية أو أي جوائز، فهي لا شك من «المفترض» أن تشكل حافزاً للإبداع، وتشجيعاً مهماً لتحسينه وثرائه، ولكن ما شاب إجراءات لجان هذه الجوائز أو الترشيح لها أحال الأمر إلى معكوسه. فعلى الصعيد الأول، بعض أعضاء لجان التحكيم لا يملكون الأهلية لكي يكونوا فيها؛ والخروج على القواعد والأعراف في منح الجوائز، مما دعا الروائية إنعام كجه جي لوصف حفل توزيع إحدى الجوائز بـ«عرس واوية»، فعزز ذلك الريبة وعدم الاطمئنان لنتائج لجانها.

محسن الرملي: غياب المعايير الواضحة

لا أعتقد أن الجوائز هي تكريس للثقافة الروائية لأن الفن الروائي مكرَّس أصلاً، وهو فن هذا العصر بامتياز، سواء أكانت الجوائز الخاصة به موجودة أو لم تكن، وهنا ربما تكون الجوائز هي التي تسعى لتكريس نفسها استناداً إلى سيادة الفن الروائي اليوم. أما عن المقاصد من كل جائزة، بشكل عام، فالمعلَن منها هو الدعم وتسليط الضوء، والمضمر لا نعرفه كله، لكن أبسطه هو الدعاية لراعي الجائزة بشكل ما. وهذا من حقه، ما دام أنه، مقابل ذلك، يقوم بمزيد من الدعاية للرواية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أننا لا نجد جوائزاً بشهرة وأهمية جوائز الرواية تخص مياديناً معرفية وثقافية أخرى، كجوائز تخص علم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة والجغرافية والتاريخ وكتب السيرة والموسيقى وغيرها، مما يدل على أن أغلب الجوائز لا تهدف إلى الدعم الخالص لوجه المعرفة والثقافة. وبالنسبة للشروط، فمن حق صاحب أي جائزة أن يضع الشروط التي يريدها، ومن حق أي كاتب أن يستجيب أو لا يستجيب، يشارك أو لا يشارك فيها. أما عن التحكيم في الجوائز، فهو نسبي، وليس معياراً للقيم الفنية والفكرية، ومن المؤسف أن أغلبها ليس لديه معايير واضحة أو ثابتة أصلاً، ويعتمد في تبريراته على ذائقة المحكمين وميولهم.

شاكر الأنباري: أهواء لجان التحكيم

الجوائز الأدبية عرف سائد في معظم دول العالم المتحضرة، وقد أسست له أكاديميات رفيعة ومؤسسات معترف بجدارتها في هذا الجانب. والهدف منها تشجيع المواهب الإبداعية، أو مكافأة البارعين المجددين في ابتداع أساليب أصيلة. ولعل جائزة نوبل خير مثال على ذلك، فهي لم تمنح جائزتها إلا لمن يستحقونها، رغم الاستثناءات القليلة الحاصلة نتيجة ظروف معينة. وفي عالمنا العربي، شجعت الجوائز الروائية جيلاً هائلاً من الكتاب على طموح الفوز، وما يجلبه للكاتب من مكافأة مادية، وسمعة أدبية، وقراء إضافيين. عدا عن إمكانية الترجمة للغات أخرى. فوجود عمل روائي في الواجهة، عبر نيل الجائزة، يسلط عليه الضوء، ويفتح أمامه طريق الترجمة إلى ثقافات مغايرة. ومثلما تقع مجمل نشاطاتنا الاجتماعية تحت تأثير العامل السياسي، والتجاذبات المناطقية والمذهبية والجهوية، فالجوائز الأدبية، ومنها الروائية، لم تنج من تلك التجاذبات. وخضعت في بعض الأحيان إلى أهواء اللجان التي تبت في مصير الفائزين، وذائقتهم الجمالية، وحساباتهم الفكرية. فيتباين مستوى الروايات الفائزة بـ«البوكر العربية» على سبيل المثال، بجودتها وأساليبها، وهي إشكالية معروف سببها ربما.



«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.