إيمان يحيى: الرواية وسيلتي للاتصال والتواصل مع المجتمع والناس

الفائز بجائزة «ساويرس» يرى أن الجوائز تمثل حافزاً تسويقياً للنشر

إيمان يحيى
إيمان يحيى
TT

إيمان يحيى: الرواية وسيلتي للاتصال والتواصل مع المجتمع والناس

إيمان يحيى
إيمان يحيى

فازت أخيراً رواية «الزوجة المكسيكية» لإيمان يحيى بجائزة «ساويرس» الأدبية. وكانت الرواية قد أثارت اهتمام المتابعين منذ صدورها. هنا حوار مع الروائي يحيى عن روايته الفائزة، وتناصها مع رواية «البيضاء» ليوسف إدريس، وتجربته الروائية عموماً، وتأثير الجوائز على عمل الكاتب وإبداعه:
> إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الجوائز على توجهات الكاتب الأدبية والفنية؟
- الحصول على جائزة يجذب نظر القراء إلى الكتاب والكاتب، ولعل هذا أهم هدف من الجوائز. لا أنفي الحافز التشجيعي للكاتب لحصوله على جائزة، لذا سعادتي بالغة بحصولي على جائزة معترف بنزاهتها واستقلالية لجنة تحكيمها وعدم وجود ضغوط عليها. الجوائز تمثل حافزاً تسويقياً للنشر، لكنني لا أعتقد أنها تؤثر على آلية وفنية عمل الكاتب بشكل مباشر أو مؤثر، ربما عندما يحوز شكل روائي مستحدث جائزة ما، ويحدث انتشار لتقنيته يصبح ذلك حافزاً ينسج الكتاب على منواله.
> قلت عن رواية «البيضاء» ليوسف إدريس التي قمت بعمل تناصّ معها في روايتك، إن الخيال فيها واقع حقيقي... ما الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال في «الزوجة المكسيكية»؟ وكيف أفاد كل منهما الآخر؟
- رواية «البيضاء» رواية طليعية بامتياز، لم يتعاطف معها النقاد للظروف السياسية التي أحاطت بوقت نشرها. لم يستطع يوسف إدريس نشرها في كتاب سوى في بداية السبعينات. عندما قرأتها بعين محايدة رأيت فيها قفزة كبيرة في عالم الرواية المصرية لأنها تتعامل مع العوامل الداخلية النفسية للبطل عبر مونولوج طويل من أولها إلى آخرها، ناهيك بفكرة وجود بطل مهزوم، ليس إيجابياً كل الوقت. كل هذا جديد على الرواية المصرية والعربية. شاءت الظروف أن أصل إلى القصة الحقيقية المثيرة التي كانت وراء هذه الرواية، وشخوصها الحقيقيين، فانتهزت الفرصة وعبر تعدد الأصوات والظروف السياسية والاجتماعية نسجتُ رواية «الزوجة المكسيكية». إن الواقع أصيل في نسيج الرواية، ومليء بالتفاصيل التي تعقبتُها بدأب لسنوات طوال، لكن الخيال كما قلت أنت ممزوج بالواقع. وكم كنت مندهشاً عندما قابلت بعد صدور الرواية شهوداً على الأحداث أكدوا أن ما تصورته بخيالي حدث بالفعل شبيه له في الواقع. إنه حدس الروائي ومنطقية تطور المسار الروائي.
> من «سامنثا ديفيز» و«سامي جميل» إلى «يحيي» و«روث ريفيرا»، تراوحت الأحداث في «الزوجة المكسيكية»... ما الذي سعيت لتحقيقه؟
- الرواية عبارة عن روايتين: رواية إطار، ورواية متن! يتبادل فيهما الأبطال الأدوار. رواية الإطار تحكي ما لا يمكن أن يحكيه الأبطال المعاصرون للأحداث لأنهم لا يحيطون بالأسرار السياسية ولا بالأزمنة المستقبلية. قصة الأستاذ الجامعي و«سامنثا» بمثابة مرآة عاكسة للقصة الأصلية تأخذ فيها «سامنثا» صورة لشخصية «يحيى» القلقة، ولكن بشكل عصري، بينما يكون وجود الأستاذ الجامعي المتردد ضرورياً لشرح القصة الأصلية، والرواية أيضا تعكس الاختلاف بين الثقافات سواء بين الأستاذ والأميركية، أو ما بين «يحيى» و«روث». هي قيم تتصادم، وصراعات وتجاذبات. لعلها الحياة.
> أيضا في «الزوجة المكسيكية» حديث عن جماعة «كفاية» وشخصيات معروفة ورموز عالميين... كيف فكرت في وجود مثل هؤلاء وأنت تكتب عن قصة حب يسعى ناقد وتلميذته لكشف أسرارها وإثراء عالم الرواية؟
- الشخصيات التي تتحدث عنها جزء من صورة الواقع التي تجري به الأحداث، ولا يمكن اجتزاء قصة حب دون خلفياتها. قد يتراءى للبعض أن الحب وحده يكفي و لكنه يجري في مجتمع يموج بالتغيرات. كل الشخصيات التي ذكرتها كانت مؤثرة في الأحداث وكان العثور على خبايا وقائعها وتشابكها مع «يحيى» و«روث» مجهوداً إضافياً كبيراً على الروائي. مصر كانت في ذلك الوقت ثرية جداً بالرموز والشخصيات والصراع الاجتماعي والسياسي.
> تبدو تقنية الراوي العليم مسيطرة في فضاء الرواية، وهناك أيضاً تقنية استراتيجية تعدُّد الأصوات، حيث يتحدث يحيي بطل «البيضاء»، وغيره من الشخصيات... كيف ترى هذه المزاوجة بين التقنيتين؟
- بدايةً أتحفظ على سيطرة الراوي العليم، الرواية يرويها ثلاثة أشخاص أي إنها متعددة الأصوات، حتى الصور التي استخدمتها كانت من خلال رؤية تلك الأصوات لها. في أحد الفصول استخدمت رسالة دييغو ريفيرا إلى ابنته، وهذا طبعاً خيالي، ولكنه ممكن لأنه يعد رواية من جهة شخصية «روث». تقنية تعدد الأصوات تجعل الرواية أقرب إلى الواقع، وأكثر تركيبية وتعقيداً، وتُبرز الصراعات بشكل موضوعي. فالواقع معقّد، والحياة أكثر تركيباً وثراءً مما يظن البعض.
> في روايتك «الكتابة بالمشرط» أعطيت بعض شخصياتها أسماء ترمز لطريقة تفكيرها وتصرفاتها مثل «عامر النقلي» الطبيب الإخواني الفاسد و«علي شعارات»، ألا ترى أن هذه الطريقة في كتابة الأسماء يمكن أن تسطّح الشخصيات وتكشف مساراتها في الأحداث مسبقاً؟
- إعطاء أسماء معبّرة عن أشخاص أو مناقضة لجوهرهم تقنية استخدمها كثيراً أستاذنا نجيب محفوظ... رواية «الكتابة بالمشرط» عشتها بكل جوارحي، أنا بطل من أبطالها، وهي مرآة لطبيعة عملي كطبيب جراح وأكاديمي وكانت سلاحاً لي في صراع جامعي، وفي لحظة وجدت نفسي أعيش في رواية فعلاً، وتساءلت: لماذا لا أكتبها؟ وقد تعرضت لمواضيع لم تطرقها الرواية العربية. لأول مرة تدخل الرواية عالم المستشفيات الحقيقي، وغرف العمليات، وتفضح ما يجري في الواقع خلف الستار خصوصاً في مجالَي الصحة والتعليم الجامعي.
> في كتابتك احتشاد ورغبة في فضح الإرهاب ومنبعه الإخواني، ومحاربة التمييز ضد المرأة والأقباط، ومناقشة قضايا عديدة أخرى... ألم تخشَ من تأثيرها على فنية الرواية وتحويلها لمنشور سياسي؟
- الرواية بالنسبة لي وسيلة للاتصال والتواصل مع المجتمع والناس. ولا بد أن تهتم بهمومهم وهواجسهم الحقيقية. كلمة (احتشاد) تعبير عسكري تعبوي ينفر منه أي فن، المسألة هي كيف تستطيع بميزان من ذهب أن تمرر ما تريده من أفكار وقناعات دون أن تقع في خطابية أو تنفّر القارئ. جوهر المسألة ألا تجبر القارئ على تبني موقفك تحت تهديد السكين، ولكن كي تقنعه بسلاسة وبحرفية وعَبْر فن روائي، وإذا لم تقنعه فيكفيك تفهمه لما تكتبه. أعتقد أنني في الروايتين لم أقع في مطب الإنشائية والشعارات الفارغة. استخدمت تقنيات عديدة، تعدُّد الأصوات، والصورة واللوحة والملصق داخل النص، والخطابات المرسلة للأبطال، وكذلك الأمثلة الشعبية والأغاني العربية والأجنبية، حتى الروائح تستطيع أن تحسها في مواقف في النص. أيضاً التيمات الشعبية في مطعم الفول وعند بائع العرقسوس، كل تلك التقنيات واللمسات تعطي مذاقاً خاصاً ونكهة للرواية وتعصمها من الوقوع في الإنشائية.
> قارن بعض النقاد في «الكتابة بالمشرط» بين حالة «سعاد» الطبيبة الشابة بطلة الرواية التي تتعرض للاضطهاد من بعض زملائها وبين مصر كرمز... برأيك هل ثمة ما يدعم ذلك في الرواية؟
- في «الكتابة بالمشرط» هذه الرمزية موجودة، لاحظ أن في الرواية (سعادين): سعاد الشابة الطبية التي تقاوم اضطهاداً لاختيارها فرعاً مقتصراً على الرجال، وتعاني أيضاً من الأساتذة الكبار لأنها ما زالت مبتدئة. أما سعاد الأخرى، فهي طفلة اعتدى عليها جنسياً زوج الأم وسط سلبية من الأم، سعاد الطفلة ضحية المجتمع الذكوري أيضاً... وفي مشهد في الرواية تتوحد الاثنتان في المشاعر.
> استخدمتَ في «الزوجة المكسيكية»، كما في «الكتابة بالمشرط»، تقنية القطع والمونتاج السينمائي... تُرى متى يلجأ كاتب لهذه التقنيات؟ وما الشروط التي فرضتها في الكتابة الروائية لديك؟
- بالفعل استخدمت تقنية القطع والمونتاج السينمائي في الروايتين. لعل ولعي بالسينما في طفولتي وشبابي كان سبباً في ذلك. ربما لا تعلم أنني بعد تخرجي في كلية الطب تقدمت إلى معهد السينما لأصبح مخرجاً. ونجحت في الاختبارات وحال الموقف التجنيدي من التحاقي بالمعهد. التقنية السينمائية ملهمة للقارئ لأنها تعتمد على مشهدية مزدوجة، أن يرى القارئ أمامه مشهداً ويقوم بنفسه بتأويله، ربما ظهرت تلك التقنية بشكل ظاهر جداً في «الكتابة بالمشرط» لاستخدامها تقنية «الراوي العليم». هنا يستبطن القارئ المشاعر الداخلية للأبطال وما يدور في أذهانهم، أي إنه يخلق واقعاً موازياً خاصاً به للواقع المكتوب، وقد لجأت إلى هذه التقنية في «الكتابة بالمشرط» لأجعل الرواية أكثر موضوعية، خصوصاً أنني في الحياة العملية أحد أبطالها المتصارعين.
> تحكي «الزوجة المكسيكية» قصة حب وزواج غير معروفة بين يوسف إدريس وروث ريفيرا، كما تروي عن سنوات الخمسينات... إلى أي مدى يمكن أن تصلح الكتابة الروائية وسيلة لكشف خفايا تاريخ ما؟
- التاريخ نفسه راوٍ للأحداث، كلٌّ يروي من وجهة نظره، وإذا وضعت وجهات النظر بعضها إلى جانب بعض ستصل إلى الحقيقة التاريخية. أحد أنواع الرواية هي «الرواية التاريخية»، وأنا مولع بكتابة هذا النوع. وفي الحقيقة التاريخ دائماً يلقي بظلاله على الواقع المعيش والحاضر. من ضمن اهتماماتي كتابة الدراسات التاريخية، لذلك كنت عضواً لمجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية لدورتين متعاقبتين، ولي أصدقاء كثيرون من المؤرخين وأساتذة التاريخ. ولعل أقرب أصدقائي الذين أثروا في تكويني عالم التاريخ المصري البارز الراحل الدكتور رؤوف عباس.
> نتقل الرواية ما بين القاهرة وفيينا والمكسيك؛ وتروي عن أماكن وحياة لم يعد لها وجود... ما الذي قمت به لتستحضر هذه الأجواء؟
- بالفعل «الزوجة المكسيكية» تنتقل بين القاهرة والإسكندرية وفيينا والمكسيك، ولكي أنقل أجواء تلك الأمكنة، كان عليّ قراءة مئات الصفحات عنها، ورؤية صور عديدة لها في زمن الخمسينات، والأكثر من ذلك الغوص في الإنترنت لمحاول فهم الزمان وأبعاد المكان. المكان ليس أحادي الأبعاد، لكنه ذو أبعاد زمنية وثقافية ودرامية.
> لجأتَ في «الزوجة المكسيكية» لتقنية كتابة رواية على رواية... ألم تخشَ من سيطرة «البيضاء» على عالم السرد لديك؟
- أنا مغرم برواية «البيضاء» وأرى أنها لم تأخذ حقها. ولم أخشَ منها لسبب بسيط، أن روايتي تعتمد على تعدد الأصوات، و«البيضاء» تعتمد على صوت «يحيى». أحداث «الزوجة المكسيكية» مختلفة جداً عن أحداث «البيضاء»، تستطيع أن تقول إنها الأحداث الحقيقية، بطلة «البيضاء» اختفت وراء مونولوج «يحيى». وفيها نشعر بـ«يحيى» كشخص أناني لا يرى إلا نفسه بعد ارتباطه بسانتا، وفي «الزوجة المكسيكية» نرى «يحيى» في أنانية حبه وغيرته، وأيضاً نرى «روث» وكفاح المكسيك، والأهم نضال الشعب المصري من أجل الاستقلال والديمقراطية. هذا هو البحر الواسع التي تجري فيه قصة الزواج وقصة الأستاذ الجامعي وتلميذته.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي