مخاوف عالمية من انتهاء صلاحية ملايين الجرعات

البلدان النامية تعاني من عجز حاد في اللقاحات

بعض الدول تتخوف من التبرع بلقاحاتها الفائضة إلى حين الانتهاء من حملاتها الداخلية للتطعيم (أ.ف.ب)
بعض الدول تتخوف من التبرع بلقاحاتها الفائضة إلى حين الانتهاء من حملاتها الداخلية للتطعيم (أ.ف.ب)
TT

مخاوف عالمية من انتهاء صلاحية ملايين الجرعات

بعض الدول تتخوف من التبرع بلقاحاتها الفائضة إلى حين الانتهاء من حملاتها الداخلية للتطعيم (أ.ف.ب)
بعض الدول تتخوف من التبرع بلقاحاتها الفائضة إلى حين الانتهاء من حملاتها الداخلية للتطعيم (أ.ف.ب)

بينما لا تزال الجهود الدولية تتسارع على جبهات عدة لحل مشكلة العجز الهائل في اللقاحات الموزعة على البلدان النامية، بدأت تطلّ في الأفق بوادر أزمة جديدة مع اقتراب ملايين الجرعات اللقاحية من نهاية فترة صلاحيتها قبل استخدامها في عدد من البلدان الغنية والنامية، كما أفادت أمس مصادر منظمة الصحة العالمية.
وكانت الحكومة الكندية حضّت السلطات الإقليمية على «منع إتلاف مئات آلاف الجرعات» من لقاح أسترازينيكا التي تنتهي صلاحيتها في الأيام المقبلة. وقالت وزيرة الصحة الكندية باتي هاجو إن إحجام عدد كبير من المواطنين عن تناول هذا اللقاح، والتوقف عن توزيعه خلال شهر مارس (آذار) الفائت بعد ظهور بعض حالات التخثّر الدموي لمن تناولوا الجرعة الأولى منه، تسبب في تراكم كميّات كبيرة من الجرعات أصبحت على وشك انتهاء صلاحيتها.
وفي أفريقيا التي تسجّل أدنى معدلات التغطية اللقاحية في العالم، أفاد برنامج «كوفاكس» الذي تشرف عليه منظمة الصحة بأن مالاوي اضطرت لإتلاف عشرين ألف جرعة وجنوب السودان ستين ألف جرعة من اللقاحات التي انتهت مدة صلاحيتها منتصف الشهر الماضي قبل أن تتمكّن الأجهزة الصحية من توزيعها على السكان. وهي جرعات من لقاح أسترازينيكا أنتجتها شركة «سيروم» الهندية، وسبق أن تبرّعت بها جنوب أفريقيا إلى هذين البلدين لاعتبارها غير فعّالة ضد الطفرة الفيروسية التي ظهرت هناك. وتقول ماريا آنجيلا سيماو المشرفة على برنامج الأدوية واللقاحات في منظمة الصحة العالمية إن الدول الغنية لجأت في المراحل الأولى إلى شراء كميات من اللقاحات تزيد بكثير على حاجتها، على أن تتبرّع لاحقاً بالفائض من الجرعات إلى الدول النامية، لكن هذه الخطة تواجه الآن مشكلات لوجيستية وتعترضها مخاطر كبيرة.
وتجدر الإشارة أن كندا هي البلد الذي اشترى أكبر كمية من اللقاحات مقارنة بعدد السكان: 400 مليون جرعة لأقل من 37 مليون نسمة. لكن إقبال المواطنين بنسبة عالية على اللقاحات المعتبرة أكثر فاعلية، مثل فايزر ومودرنا، أدى إلى «كساد» كميات كبيرة من لقاح أسترازينيكا الذي دلّ استطلاع مؤخراً أن 80 في المائة من السكان يفضلّون عدم تناوله.
وكانت هونغ كونغ أيضاً قد اشترت كميات من اللقاحات تكفي لتلقيح مواطنيها أربع مرات، لكنها تواجه الآن معضلة توزيع ملايين الجرعات من لقاحي فايزر ومودرنا قبل انتهاء صلاحيتها منتصف أغسطس (آب) المقبل. ولتشجيع السكان على تناول اللقاح قرّرت السلطات المحليّة تنظيم يانصيب للفوز بشقّة فاخرة يقدّر ثمنها بمليون دولار بين الذين يتلقّون اللقاح خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
ويقول ديميتري إينيكيل المسؤول عن المكتب الأوروبي لمنظمة «أطباء بلا حدود» إن استئثار الدول الغنية بكميات كبيرة من اللقاحات وضع البلدان الفقيرة في عجز كبير ومن غير هامش لتخطيط حملات التلقيح وتجهيز منظوماتها الصحية الضعيفة لاستقبال الجرعات من غير جدول زمني واضح. ويضيف «ما زال إنجاز حملات التلقيح بنجاح في أفريقيا ممكناً. هذا ما نقوم به منذ سنوات، وهو يحتاج إلى تنسيق مسبق وتأهيل الطواقم الصحية، ولا يكفي التبرّع بالجرعات بين ليلة وضحاها». وينبّه ماثيو هيردير مدير معهد الحق في الصحة من جامعة كيبيك الكندية «أن الدول الغنية أخفقت في توزيع اللقاحات بشكل عادل رغم معرفتها بأن الجائحة تشكّل خطراً وتهديداً شاملاً للصحة العالمية»، وانتقد بشدّة النزعة القومية المفرطة التي تمّيز بها سلوك هذه الدول، ودعا إلى استدراك الوضع بسرعة لأنه السبيل الوحيد للسيطرة بشكل نهائي على الوباء.
وتجدر الإشارة أن برنامج «كوفاكس» الذي تشرف عليه منظمة الصحة وتشارك فيه أكثر من 200 دولة ومؤسسة، من المفترض أن يوزّع ملياري جرعة على 92 من الدول النامية والفقيرة عن طريق الشراء والهبات العامة والخاصة، لكنه ما زال يواجه عجزاً كبيراً في ميزانيته وكميات اللقاح المتوافرة لديه، وهو ما زال بعيداً عن تحقيق هدفه الأول بتلقيح 20 في المائة من سكان أفقر البلدان التي لم تتجاوز التغطية اللقاحية في معظمها 0.1 في المائة من مجموع السكان، فيما لم يوزّع بعضها جرعة واحدة حتى الآن.
ومن المقرر أن يناقش المجلس العام لمنظمة التجارة العالمية في الثامن من الشهر المقبل الاقتراح الذي تقدمت به الهند وجنوب أفريقيا، وتؤيده أكثر من 60 دولة، لتعليق مفاعيل براءات اختراع اللقاحات والمستلزمات الصحية لمواجهة الجائحة، بهدف زيادة الإنتاج العالمي وتسريع حملات التلقيح في البلدان النامية.
ويخشى الخبراء أن يؤدي تفاقم الوضع الراهن إلى موجة غير منظمة من التبرعات باللقاحات من البلدان الغنية إلى الدول الفقيرة، قد تحمل مخاطر صحية من شأنها أن تشكّل ضربة قاسية بالنسبة للبرنامج من أساسه. وينبّهون أن التبرّع باللقاحات وتوزيعها على البلدان الفقيرة يشكّل تحدياً لوجيستياً ضخماً وتترتّب عنه تكاليف مالية باهظة.
ويقول المسؤولون عن برنامج اللقاحات في المفوضية الأوروبية إن الاتحاد الأوروبي حجز نسبة من مشترياته تصل إلى 100 مليون جرعة لتوزيعها على البلدان النامية، ووضع الآلية اللازمة لإيصالها إلى هذه البلدان والمساعدة على استخدامها. كما أن فرنسا تبرعت بمائة ألف جرعة إلى موريتانيا الشهر الماضي، فيما وزّعت النمسا 650 ألف جرعة على دول البلقان، وتعهدت إسبانيا بمنح 7.5 مليون جرعة إلى بلدان أميركا اللاتينية قبل نهاية هذا العام. لكن حسب تقديرات منظمة الصحة، فإن 85 دولة فقيرة لن تحصل على الجرعات التي تحتاجها قبل عام 2023 إذا لم يطرأ تغيير جذري وسريع على الوضع الراهن.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟