حرب الـ11 يوماً... التي أعادت «حل الدولتين» إلى الطاولة

العالم يتحرّك من أجل خلاص شامل بينما تستعد تل أبيب وغزة لجولة قتال أخرى

حرب الـ11 يوماً... التي أعادت «حل الدولتين» إلى الطاولة
TT

حرب الـ11 يوماً... التي أعادت «حل الدولتين» إلى الطاولة

حرب الـ11 يوماً... التي أعادت «حل الدولتين» إلى الطاولة

عندما قصفت «كتائب القسام» التابعة لـ«حركة حماس» مدينة القدس الساعة السادسة مساءً في 10 مايو (أيار) الحالي، بعد تهديد لم يستمر سوى ساعات قليلة، دشنت الحركة ما يمكن أن نسميه عهداً جديداً في فلسطين وإسرائيل، واتضح لاحقاً أنه يؤسس لمرحلة جديدة، كان كثيرون يتوقون لها. لم يكن الأمر متعلقاً فقط بتحدي إسرائيل وكسب الجولة إعلامياً ومعنوياً، في وقت كان يعتقد فيه الفلسطينيون أنفسهم أنهم خسروا كثيراً وتراجعوا وتقهقروا وفقدوا زمام المبادرة.
لم تعرف «حماس»، وربما إسرائيل، أن حرب الـ11 يوماً المدمرة بينهما، وأخرجت السلطة الفلسطينية خارج السبق الشعبي، ستعود بالفائدة أكثر من أي كيان أو أحد على الرئيس الفلسطيني محمود عباس وسلطته التي لجأ إليها العالم من أجل حل أوسع وشامل، وليس مجرد حل جزئي في غزة سيقود حتماً إلى حرب أخرى واتفاق تهدئة جديدة، وهكذا، ضمن لعبة الدوران في حلقة مفرغة. إذ يمكن القول إن فكرة «صنع السلام» وفق «حل الدولتين» أصبحت ملحة أكثر ومخرجاً معقولاً لكثيرين بعدما طواها النسيان والتجاهل.
قبل أن تنتهي الحرب على قطاع غزة يوم 21 مايو الحالي، تحرّكت الولايات المتحدة، ومعها مصر وقطر والأمم المتحدة ودول في الاتحاد الأوروبي، من أجل وقف إطلاق النار، الذي جرى تثبيته، على قاعدة أن صنع السلام الدائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو الحل الوحيد، عبر هدنة طويلة في غزة والضفة، بما فيها القدس، وليس مجرد عقد اتفاق هش جديد في غزة.
كان العالم كله قد تعلم الدرس، بأن الحرب ستجرّ هدنة ثم حرباً ثم هدنة وهكذا، من دون أن يتحقق شيء على الأرض... لا إعمار ولا رفع حصار ولا تنمية ولا هدوء في المنطقة التي تشهد أكبر كثافة سكانية في العالم، وستظل تشكل بالنسبة لإسرائيل عقدة تستعصي على الحل.
ليس العالم فقط، بل أيضاً إسرائيل - التي بدا في هذه الحرب أنها ضيّعت عمل 70 سنة، بعد مواجهات دامية في الداخل رآها القادة الإسرائيليون أشبه بحرب أهلية، وعمليات في الضفة، وصواريخ من غزة، التي كانت تصبو أيضاً إلى حل وتنمية وحياة عادية.
ومثلها، السلطة الفلسطينية - التي خرجت من فترة رئاسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مثخنة بالجراح، ومعزولة ومهمشة، تكاد تصل إلى طريق مسدودة في مشروعها السياسي - كانت تبحث عن استعادة الدور من جديد وإنعاش مشروعها الممدّد في غرفة العناية...
لقد منحت الحرب الأخيرة طوق نجاة للجميع إلا للذين قضوا تحت ركامها.
العودة إلى الحل القديم
لم تتلكأ واشنطن طويلاً، قبل أن ترسل وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى المنطقة من أجل دفع مسار سياسي جديد. ولم يحتَج بلينكن سوى ليوم واحد في تل أبيب ورام الله من أجل الإعلان أن الأطراف متفقة على الحاجة إلى حل سياسي.
قال بلينكن، بعد لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله هذا الأسبوع، إن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي أقرّا بضرورة معالجة الأسباب الأساسية التي تشعل الصراع بينهما. وأضاف: «القادة على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بحاجة إلى إجراء تحسينات حقيقية في حياة الناس». ومن ثم، رحّب بلينكن باتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بعد موجة المواجهات الأخيرة بين الطرفين، مضيفاً أنه «يجب البناء على تلك التفاهمات للمضي قدماً لتتحرك الأمور بإيجابية».
وأقرّ الوزير الأميركي بأن «دوامة العنف الأخيرة هي انعكاس لقضايا مختلفة، ونرحب بوقف إطلاق النار، ولكن يجب أن نبني عليه لتتحرّك الأمور بطريقة إيجابية»، مضيفاً: «في النهاية، من الممكن استئناف الجهود لتحقيق حل الدولتين، والذي ما زلنا نراه السبيل الوحيد لتأمين مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وبالطبع منح الفلسطينيين دولتهم حيث لديهم الحق في ذلك».
كان بلينكن يشير إلى هدف المهمة التي بدأها في تل أبيب ورام الله وعمان ومصر وفي مناطق أخرى مستعجلاً، بسبب الحرب التي دكّت تل أبيب ومناطق واسعة. في حين أكدت مصادر فلسطينية سياسية في رام الله لـ«الشرق الأوسط» أن الحرب على قطاع غزة «سرّعت من جهود دفع عملية سياسية جديدة في المنطقة»، وذكرت أن «الاتصالات ومباحثات وقف النار في قطاع غزة وفرض تهدئة طويلة الأمد، كانت جزءاً من خطة أوسع لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية والوصول إلى اتفاق سلام».
وتابعت المصادر: «بوجود إدارة أميركية جديدة تريد استئناف عملية السلام، وبدعم دولي وإقليمي، كان يفترض أن تنطلق مثل هذه العملية، لكن ما حدث في القدس والحرب على غزة جعلا الأمر ملحاً أكثر، بل حتمياً». ومن ثم، أكّدت المصادر أن الاتصالات التي أجرتها واشنطن مع الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل مباشر، تركزت على وجوب «إطلاق عملية سلام للوصول إلى اتفاق شامل فلسطيني إسرائيلي... وليس مجرد الوصول إلى اتفاق مؤقت لوقف النار في غزة».
موقف محمود عباس
من جانبه، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد قال وسط الجهود المبذولة لوقف النار، إنه يريد «وقف العدوان، ثم الدخول في عملية سياسية جدية، وبمرجعية دولية واضحة، تفضي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، بما فيها القدس الشرقية عاصمتنا المقدسة». وجدّد عباس تمسكه بـ«مبادرة السلام العربية» التي أقرتها القمم العربية المتعاقبة منذ قمة بيروت عام 2002، نصاً وروحاً. أي تطبيق المبادرة من الألف إلى الياء، وليس العكس، ما يعني الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967 أولاً، ثم البحث في أي قضايا تخص العلاقة مع إسرائيل بعد ذلك، وليس العكس.
قال عباس: «نحن طلاب سلام، لا طلاب حرب»، ولكن لأول مرة لم يواجَه عباس بمعارضة (حمساوية) من أجل إطلاق مسار سياسي. إذ قال يحيى السنوار، قائد (حركة حماس) في غزة، الذي خرج متحدياً وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس في شوارع غزة بعد نهاية الحرب بعدما هدّد بأنه سيغتاله؛ إننا نفضل مقاومة الاحتلال بالوسائل السلمية، لكن إذا لم يتجاوب أو تمادى في إجرامه، فإن المقاومة ستردعه».
وشدّد السنوار على أن لدى العالم الآن الفرصة لإلزام الاحتلال بالقانون الدولي والاتفاقيات الدولية، لتصبح الفرصة مهيأة لهدنة طويلة الأمد. وأضاف: «إذا انسحب الاحتلال من الضفة الغربية وشرق القدس، وأقمنا دولتنا على جزء من أرضنا، فستكون الفرصة متاحة لتوقيع هدنة طويلة الأمد».
قطار جوي للمنطقة
وحقاً، من أجل الوصول إلى حل نهائي، لم تتحرك فقط الولايات المتحدة، بل تحركت أيضاً المنطقة العربية برمتها. ففي غضون 48 ساعة فقط وصل وزير الخارجية الأميركي ووزيرا الخارجية المصري والأردني للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ثم لحق بهما وزير الخارجية البريطاني. ودعت مصر السلطة و«حماس» إلى القاهرة «من أجل بلورة شيء ما»، كما قال بلينكن: «بعدما وصلنا إلى حيث يريد الجميع أن يكون، ألا وهو إنهاء العنف». وأردف: «أعتقد أنه من واجبنا جميعاً أن نحاول أن نبدأ في بناء شيء أكثر إيجابية. نحن ندعو إلى بذل مزيد من الجهود لتهيئة الظروف بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لإعادة إطلاق عملية سلام حقيقية».
مطلوب أكثر من الرغبة
ليس سراً أن إطلاق هذه العملية يحتاج إلى ما هو أكثر من رغبة الولايات المتحدة. ولذا يعمل الفلسطينيون مع مصر والأردن على وضع خطة تحظى بدعم عربي، ثم أميركي وموافقة إسرائيلية، من أجل إطلاق عملية سياسية جديدة في المنطقة تقود إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، ويجري خلالها فرض تهدئة واسعة في كل المناطق، الضفة والقدس وقطاع غزة، بما يشمل بدء إعمار القطاع.
هذا التنسيق بدأ فعلياً قبل وصول إدارة الرئيس جو بايدن إلى الحكم، واستمر بعد ذلك. غير أنه تكثف وأخذ منحى متسارعاً بعد الحرب على قطاع غزة، وإبداء الإدارة الأميركية رغبة في حل شامل يقوم على «حل الدولتين» لا مجرد حل جزئي في قطاع غزة. ولأجل هذا يجري تنسيق مكثف بين رام الله وعمّان والقاهرة يشمل كل شيء، ويقوم على وضع خطة لإطلاق عملية سياسية جديدة.
وفعلاً، أكد عباس هذا التوجه أثناء استقباله وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي ووزير الخارجية المصري سامح شكري، قائلاً إن «القيادة الفلسطينية مستعدة فوراً للانخراط في مسار سياسي تحت إشراف اللجنة الرباعية الدولية، ينهي الاحتلال الإسرائيلي عن شعبنا وأرضنا، ويؤدي لنيل شعبنا الفلسطيني حريته واستقلاله في دولة ذات سيادة، بعاصمتها القدس الشرقية، على أساس قرارات الشرعية الدولية». واختصر الصفدي وشكري المسألة بقولهما إن «الوقت الآن هو وقت التنسيق والعمل وبذل كل جهد ممكن حتى إقامة دولة فلسطين المستقلة على كامل التراب، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية».
وقال شكري إن الجميع يعمل الآن «من أجل تحقيق الغاية بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67. وعاصمتها القدس الشرقية... هذا هو الهدف المشترك للدول العربية الشقيقة كافة، العمل بتنسيق كامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية لتحقيق ذلك».
وتابع: «نحن عملنا بكل جهد لاحتواء هذا الأمر مراعاة للشعب الفلسطيني، ولإعفائه من ويلات العمليات العسكرية»، مشدداً على ضرورة إيجاد الأفق السياسي الملائم للتوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية: «نحن شهدنها هذه الدوائر المفرغة من العنف ومن التصعيد واستمرار الاحتلال دون آفاق سياسية لا تبشر بالاستقرار والأمن ليس فقط لفلسطين، ولكن للمنطقة بأكملها».
الإعمار... أكثر من مجرد إعادة بناء
الاستقرار الذي يتحدث عنه شكري شرط أساسي لإطلاق عملية إعمار في قطاع غزة. ورغم الدعوات الكثيرة لإعادة إعمار القطاع، وتأكيد الولايات المتحدة على التعاون مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة لدعم جهود إعادة الإعمار، لا يبدو أن ذلك ممكناً من دون اتفاق سياسي طويل. ومعروف أن إعمار القطاع الذي تنخرط فيه الولايات المتحدة ومصر وقطر والمبعوث الأممي إلى الشرق الأوسط تور وينسلاند، والاتحاد الأوروبي كذلك، بحاجة إلى جهة «شرعية» يتعامل معها كل هؤلاء، وهي السلطة وليست «حماس» من وجهة نظرهم. ثم إن عملية الإعمار بحاجة إلى اتفاق طويل ومؤكد إلى حد كبير، ويفضل العالم أن يكون مع جهة يتعامل معها.
وفوق ذلك، تسعى إسرائيل ضمن تغيير سياستها تجاه «حركة حماس» أن تتسلم السلطة الفلسطينية أي أموال ستذهب إلى غزة. ووفق وسائل إعلام إسرائيلية، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الجيش بيني غانتس، ووزير الخارجية غابي أشكنازي، أبلغوا وزير الخارجية الأميركي أن إسرائيل ستوافق على إعادة إعمار غزة فقط في حال تشكيل نظام دولي «يمنع تعاظم قوة (حماس) مجدداً». واستعرض أشكنازي أمام نظيره الأميركي خطة لإدخال مساعدات إلى قطاع غزة، بحيث يُفصل بين «مساعدات إنسانية أساسية، مثل تزويد الماء والكهرباء»، وبين إعادة الإعمار. وأردف أن إدخال المواد لإعادة الإعمار سيكون مشروطاً بإقامة نظام مراقبة بالتعاون مع الأمم المتحدة «للتأكد من الجهة التي يذهب إليها أي دولار وأي كيلو إسمنت».
وحقاً، تريد إسرائيل وجوداً مصرياً كاملاً في هذا النظام، وكذلك دور مباشر للسلطة الفلسطينية، باعتبارها ممثل الفلسطينيين، وليست «حماس».
التوجه الإسرائيلي هذا جزء من توجه أوسع أميركي ودولي، كذلك، باعتبار السلطة الجهة الشرعية التي يمكن للعالم أن يتعامل معها، ووجودها في غزة سيعطي ضمانات أكبر لهدنة طويلة. ويفترض أن تناقش القاهرة هذا الأمر مع «حماس» مباشرة، وبالفعل، ذكر المتحدث باسم «حركة حماس» حازم قاسم، أن رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» إسماعيل هنية سيصل إلى القاهرة خلال أيام بعد دعوة مصرية من أجل مناقشة وقف النار وجهود إعادة الإعمار.
مصادر فلسطينية مطلعة قالت لـ«الشرق الأوسط» إن «حماس» لم ترد أو تقرر فيما يخص موقف إسرائيل من تحويل أي أموال إلى قطاع غزة عبر السلطة، باعتبار أن الحركة قد تكون جزءاً من السلطة إذا ما تشكلت حكومة وحدة وطنية كما هو مخطط له. وأضافت المصادر: «في سياق اتفاق فلسطيني داخلي وشامل لن تمانع الحركة أن تكون السلطة عنواناً فلسطينياً ضمن آلية لإعادة إعمار القطاع... لكن ذلك ما زال مبكراً للاتفاق حوله». وهذا، رغم تأكيد المصادر أن هذا الملف كان جزءاً من النقاش بين الوفد الأمني المصري وقادة «حماس» في قطاع غزة.

هاجس الحرب الحاضر دائماً
> توجه العالم حول غزة، الذي عبّر عنه مفوض الأمن والسياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، بقوله إن الاتحاد لا يمكنه أن يواصل تمويل إعادة إعمار غزة، دون وجود احتمال إطلاق مسار سياسي بين إسرائيل والفلسطينيين - يعني بشكل أو بآخر تعزيز مكانة السلطة قبل أي شيء. في حين كشفت جهات إسرائيلية أن الولايات المتحدة طلبت من إسرائيل تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية عبر تعزيز التعاون الأمني والسماح بتحويل الأموال إلى غزة عبر السلطة. وعلى طريق تعزيز السلطة، أكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن عزم واشنطن على إعادة فتح القنصلية العامة الأميركية في القدس وتقديم 360 مليون دولار مساعدات للفلسطينيين. كما أكد بلينكن أن إدارة الرئيس بايدن ستقوم بتعزيز العلاقات الثنائية مع السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني.لكن أثناء هذا الحراك الكبير تستعد «القسام» وتنجز مزيداً من الصواريخ لجولة أخرى من القتال في مواجهة إسرائيل؛ حيث أمر رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال أفيف كوخافي، جيشه بأن يكون على أهبة الاستعداد التام للرد على أي تدهور أمني واسع من غزة. وقالت «القناة 12» العبرية إنه حتى صباح الخميس هناك تقدير في تل أبيب أنه إذا لم يتحقق تقدم من خلال فرق التفاوض، قد تجد إسرائيل نفسها في جولة أخرى من القتال خلال الأسبوع المقبل، ولذا وُضِع الجيش على أهبة الاستعداد التام.

قطاع غزة... إحدى أكثر مناطق العالم كثافة سكانية
> في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد عن 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كيلومتراً مربعاً، وعرض يتراوح بين 5 و15 كيلومتراً مربعاً، يعيش في قطاع غزة أكثر من 2.05 مليون نسمة، بحسب آخر إحصاء رسمي. وهذا ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.
القطاع ينسب إلى كبرى مدنه... غزة. وفيه تبلغ نسبة الكثافة السكانية وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً في الكيلومتر المربع. ويشكل القطاع مع الضفة الغربية، وهي الجزء الفلسطيني الأكبر من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 5 يونيو (حزيران) 1967، الأراضي التي تسعى السلطة الفلسطينية لإنشاء دولة ضمن حدودها.
حالياً، يوجد في القطاع 44 تجمعاً سكانياً. أهمها؛ غزة ورفح وخان يونس وبني سهيلة وخزاعة وعبسان الكبيرة وعبسان الجديدة ودير البلح وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا. ويقول البنك الدولي إن القطاع يمثل الآن أسوأ اقتصادات العالم أداء، وفيه أعلى معدل بطالة في العالم، إذ يبلغ أكثر من 50 في المائة.
وكانت إسرائيل تعتقد أن تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية عام 1994 سيحوّل السلطة إلى شرطي حدود، وكان هذا بمثابة وهم جديد. إذ اضطرت إسرائيل لشن أولى عملياتها العسكرية، ضمن سلسلة عمليات ضد غزة بعد تسليم السلطة لها بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001، وهي التالية...
- في مايو (أيار) 2004، عملية «قوس قزح».
- في سبتمبر (أيلول) 2004، عملية «أيام الندم».
- في 2005. انسحبت إسرائيل فعلاً من قطاع غزة ضمن خطة عُرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب»، ولكن في 25 سبتمبر 2005 شنت عملية «أول الغيث» وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين.
- في يونيو 2006 عملية «سيف جلعاد».
- في فبراير (شباط) 2008، عادت من جديد لتنفذ عملية «الشتاء الساخن». وفي نهاية العام، وتحديداً في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، شنت إحدى كبرى عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية، هي «الرصاص المصبوب».
- عام 2012. عملية «عمود السحاب».
- عام 2014. حرب «الجرف الصامد» التي طالت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1000 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.
- في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 خاضت إسرائيل جولة قاسية مع «حماس».
- هذا الشهر، مايو (أيار) دخلت «حماس» وإسرائيل أحدث الجولات القتالية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.