مأزق السلطة في الجزائر!

وضع اقتصادي صعب ورفض شعبي للانتخابات

مأزق السلطة في الجزائر!
TT

مأزق السلطة في الجزائر!

مأزق السلطة في الجزائر!

تنظم الجزائر، في 12 يونيو (حزيران) المقبل، انتخابات برلمانية مبكّرة، في أعقاب حل البرلمان في فبراير (شباط) 2021، وسط رفض شعبي لافت؛ إذ توجد قناعة راسخة لدى الملايين، بأن النظام يسعى من خلال الانتخابات إلى فرض غالبية موالية للرئيس عبد المجيد تبون، لتسهيل تنفيذ خريطة الطريق التي وضعها رئيس أركان الجيش سابقاً الماريشال أحمد قايد صالح، المتوفي بسكتة قلبية نهاية 2019. وتتمثل هذه الخطة في الحفاظ على مكانة الجيش في دواليب الدولة، وإبقاء سيطرة جهاز الأمن الداخلي القوي على الحياة العامة. في المقابل، يصار إلى إطلاق بعض العمليات التي تبدو في ظاهرها أنها تلبي مطالب الحراك، كحلّ البرلمان الذي كان قد شاب انتخابه التزوير إبان فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
هذا، ويُعدّ سجن رموز حكم بوتفليقة، بالنسبة للسلطة، بمثابة تجاوب مع مطالب الشعب الذي ثار ضد الفساد؛ إذ أنزل القضاء، بإيعاز من جهات نافذة في السلطة، عقوبات شديدة برئيسي الوزراء سابقاً أحمد أويحيى وعبد المالك سلال (السجن 12 سنة لكل منهما). وعدد كبير من الوزراء السابقين ورجال الأعمال، تعرضوا للسجن بتهم اختلاس مال عام وسوء تسيير الاقتصاد والاستثمارات. ويطلق على هذه المجموعة وصف «العصابة».
«دولة مدنية لا عسكرية»... شعار جرى ترديده كل يوم جمعة على مدى أكثر من سنتين، من طرف آلاف الجزائريين في شوارع الجزائر العاصمة وأهم المدن الكبيرة، تأكيداً على أن أهم المطالب التي رفعوها عند اندلاع الحراك الشعبي في 22 فبراير 2019 ما زالت قائمة، لأن الجيش وأذرعه الأمنية المسيطرة على الحكم المدني يرفضون التجاوب معها.
واليوم، تبدو السلطة عازمة على إكمال خطتها بتنظيم الانتخابات التشريعية، غير أنها تواجه وضعاً مقلقاً جداً بالنسبة لها، وعلى جميع الأصعدة؛ فعلى الصعيد السياسي، هناك رئيس منتخب بيد أنه يفتقر إلى الشرعية، بحسب منتقدين، إذ لم تكن الانتخابات التي أُجريت يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) 2019 مقبولة من العديد من الجزائريين، وأظهرت نسبة المشاركة المتدنية في هذه الانتخابات ذلك؛ إذ تجنّب ستة من كل عشرة جزائريين صناديق الاقتراع، بل قاطَعَ سكان منطقة القبائل (شرق الجزائر) الناطقين بالأمازيغية الاقتراع بشكل كامل. كذلك شهد استفتاء تعديل الدستور في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 غياباً كبيراً للناخبين، وكان ذلك دالاً على رفض شعبي لمشاريع السلطة.
وفي إجراء تصعيدي مقابل، هددت الحكومة بعقوبة تصل إلى 20 سنة سجناً، ضد أي شخص تثبت ضده تهمة «إتلاف أو نزع صندوق الاقتراع أو الإخلال بالاقتراع أو بتعكير صفو عمليات التصويت»، وذلك تحسباً للاستحقاق التشريعي المقبل. ويبدو هذا الوعيد موجهاً أساسا إلى منطقة القبائل (شرق العاصمة)، حيث أظهر قطاع من سكانها، خصوصاً نشطاء تنظيم انفصالي يسمى «حركة استقلال القبائل»، عزمهم على «إفشال عرس السلطة» المتمثل في الانتخابات التي اعتبروها «غير شرعية وحيلة للالتفاف على مطلب الحراك الشعبي الأساسي، وهو تغيير النظام جذرياً».
الجيش... اللاعب البارز في السياسة
الدكتورة داليا غانم، الباحثة الجزائرية في «مركز كارنيغي للسلام في الشرق الأوسط»، تذكر في إحدى دراساتها حول الوضع في الجزائر: «يبدو النظام بواجهتيه العسكرية والمدنية منسجماً في مواجهة الحراك الشعبي. هناك فصائل وتوترات داخل أجنحة الحكم، وكان هذا هو الحال طوال تاريخ الجزائر الحديث. لكن إذا عدنا إلى أحداث سياسية عاشتها البلاد سنرى أنه حتى لو كانت هناك تشنّجات بين فصيل في الجيش والمؤسسة السياسية، يبقى الجيش الوطني الشعبي المؤسسة الأقوى في البلاد، ولاعباً بارزاً في المشهد السياسي الجزائري لطالما فرض سلطته على البلاد، إنما من دون أن يحكمها بشكل مباشر، وسيستمر الوضع على هذا المنوال. ورغم الصراع الداخلي في صفوف المؤسسة العسكرية، يدرك الجيش كيف يتصرف بتماسك دفاعاً عن مصالحه وعن استقرار منظومة الحكم التي يعد عمودها الفقري».
وبجانب هذه المعطيات، تقول الباحثة غانم: «هناك الحالة الصحية للرئيس؛ فالسرّيّة المحيطة بمرضه جعلت الجزائريين لا يثقون به، ولا يؤمنون بأن أي تغيير حصل منذ عزل بوتفليقة يوم 2 أبريل (نيسان) 2019. فقد أمضى تبون، العام الماضي، 3 أشهر في المصحات بألمانيا للعلاج من إصابة بفيروس (كوفيد - 19). وأعاد ذلك إلى الأذهان حالة بوتفليقة في عام 2013، وغياباته المتتالية بسبب مرضه. ولقد تسبب هذا وسيستمر في تعميق الهوة بين الجزائريين في رئيسهم وقادتهم».
وضع اقتصادي مأزوم
على الصعيد الاقتصادي أيضاً، الوضع سيئ للغاية؛ فالجزائريون يواجهون تحديات خطيرة، أولاً بسبب النمو السكاني السريع، وثانياً بسبب الفقر المتزايد، وثالثاً بسبب انتشار البطالة بين الشباب... حيث ليس لدى القوة العاملة المتزايدة أي منظور في قطاع عام مشبع وقطاع خاص لم يولد بعد. وحقاً، تعيش الجزائر حالياً على صفيح ساخن بنتيجة إضرابات عمال قطاعات الصحة والبريد والتعليم والدفاع المدني، الذين يطالبون برفع الأجور، إثر ارتفاع فاحش لأسعار السلع والخدمات، في ظل غياب خطة اقتصادية ناجعة لحل المشاكل المتراكمة.
وبالتالي، يتوقع الخبراء تفاقم الأزمة الاقتصادية للبلاد وزيادة التضخم وانخفاض قيمة الدينار. وفي ظل الافتقار إلى الشرعية سيكون من الصعب على القيادة الجزائرية الحصول على موافقة المواطنين، وإقناعهم بتحملهم الإجراءات التقشفية من أجل إصلاح القطاع الاقتصادي.
ثم إن إدمان الجزائر للهيدروكربونات سيئ ولا بدائل؛ إذ بينما كان الرئيس تبّون يتحدث عن الغاز الصخري في الجنوب، يرجح مراقبون أن يؤدي ذلك إلى صراع، لأن سكان الجنوب لديهم مخاوف بيئية بشأن هذا الاستغلال. ومن ثم هذا ما يعتبره المراقبون نهاية الدولة الريعية، مع أن القيادة السياسية لم تفكر في ذلك، ولا بدائل لديها. أما قضية تنويع الاقتصاد التي يتحدث عنها تبّون، فهي بالنسبة لمنتقديه مجرد بلاغات لا أكثر.
بالإضافة إلى كل ذلك، في هذا الوضع الصعب، ومع ذوبان مخزون العملة الصعبة، ثمة حاجة متزايدة للإنفاق لمواجهة جائحة «كوفيد - 19». ومع أكثر من 3500 حالة وفاة ونحو 130 ألف حالة مؤكدة، الجزائر تعاني من تحدٍ صحّي خطير. وراهناً، تعتمد الحكومة في إدارة الأزمة الصحية وتعويض الانخفاض الحاد في عائدات تصدير النفط، على احتياطاتها الأجنبية، ومن المرجح أن تستمر في فعل ذلك مع استمرار الجائحة. وما يُذكر أنه على مدى السنوات الست الماضية استنفدت الاحتياطيات بشكل كبير وخطير، إذ انخفضت بمقدار 132 مليار دولار أميركي من 194 مليار دولار في عام 2013 إلى 62 مليار دولار فقط في عام 2020. وحسب الخبراء الاقتصاديين، فستختفي احتياطيات الجزائر بمنتصف عام 2021.
الدكتورة غانم توضح أنه «على مدى عقدين من الزمن، ومنذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1999، كان الجزائريون يأملون في النجاة من الأعمال الإرهابية، لكنهم اليوم يطالبون بالديمقراطية. لم يعودوا مستعدين للتسامح مع الواجهة الديمقراطية المتميزة بانتخاباتها المُنظّم والهيمنة العسكرية على السياسة. ولا يمكن اليوم الحفاظ على العقد الاجتماعي الذي استمر خلال سنوات طويلة، بفضل الخوف وشراء السلم. إن الانتقال إلى نظام يضمن السيادة الشعبية بالجزائر، سيستغرق وقتاً أطول، وسيتطلب إقامة علاقة جديدة بين المدنيين والعسكريين».
إضافة إلى هذا، هناك تحديات إقليمية كبيرة. فالجزائر لا تزال نقطة ساخنة محتملة في موقع استراتيجي للغاية؛ إذ إنها محاطة بليبيا ومالي، وعبر البحر الأبيض المتوسط من أوروبا. وكثيراً ما لوّحت السلطة بـ«المخاطر الخارجية» لتبرير رفضها أي تغيير داخلي، ولا تتردد في اتهام المطالبين بالتغيير بأنهم «عملاء لليد الأجنبية التي تسعى للعبث بالجزائر»، وجعلت من ذلك غطاء لسجن عدد كبير من خصومها، خاصة نشطاء الحراك.

مراقبة آليات حقوق الإنسان الدولية

وبالإضافة إلى الوضع الاقتصادي الذي يزداد صعوبة، تواجه الجزائر انتقادات شديدة من طرف تنظيمات حقوق الإنسان الدولية، خصوصاً المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، بسبب حدّة تعاملها مع المظاهرات؛ إذ أكد المتحدث باسم المفوضية روبرت كولفيل يوم 11 مايو (أيار) الحالي، أنه منذ استئناف مسيرات الحراك الأسبوعية المناهضة للنظام في الجزائر في 13 فبراير (شباط) الماضي، تلقت الأمم المتحدة تقارير «عن استخدام مفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين، فضلاً عن استمرار الاعتقالات». وأردف: «إننا نحث السلطات الجزائرية على الكف عن استخدام العنف لتفريق المظاهرات السلمية، ووضع حد للاعتقالات التعسفية واحتجاز الأشخاص الذين مارسوا حقهم في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي».
كذلك أوضح المتحدث أنه «في أربع مناسبات في أبريل ومايو، مُنعت المسيرات الطالبية؛ فواصلت السلطات منع الوصول إلى نقاط التجمع في المظاهرات واعتُقل تعسفياً مئات المتظاهرين أو أي شخص تشتبه فيه الشرطة بأنه متظاهر». وأضاف أن «بعض المتظاهرين اعتقلوا، ثم أفرج عنهم بعد إجبارهم على التوقيع على وثيقة تعهد بعدم المشاركة في المظاهرات».
ثم أكد كولفيل أنه «على مدى شهري مارس وأبريل استمرت الملاحقات القضائية ضد النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والطلاب والصحافيين والمدونين والمواطنين العاديين... وتجري مقاضاتهم على أساس قوانين فضفاضة للغاية، حتى بعد الإعلان عن عفو رئاسي في فبراير من هذا العام».
وحقاً، وفق «اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين»، وهي جمعية تساعد معتقلي الحراك، فإن أكثر من 800 شخص اعتُقِلوا في الأسبوعين الماضيين، خلال مظاهرات الحراك. وجرى اتهام وسجن العديد منهم، وفيما أُفرج عن آخرين، فقد أبقتهم النيابة قيد الملاحقة القضائية.
وعلى مدى الأسابيع الماضية، تعرّض أعضاء الحراك لقمع شديد في العاصمة والمدن الكبرى. ونقلت الفضائيات الأجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي، مشاهد الهراوات التي تنهال على رؤوس المتظاهرين، وتعنيف صحافيين واعتقالهم لمنعهم من نقل أخبار الحراك وصوره. وبات رجال الشرطة محل سخط كبير من طرف المتظاهرين، بعدما «رافقوا» مسيرات الحراك شهوراً طويلة بشكل سلمي. وكتب المحلل السياسي محمد هناد، حول «التشدد الأمني» تجاه الحراك: «رغم تواصل المسيرات منذ أكثر من سنتين، وما قد يسمعه أعوان الأمن تارة من عبارات طائشة نتيجة سخط دفين، من المفروض أن يتصرفوا بحسب ما تمليه عليهم الوظيفة والقَسَم الذي أدوه وشعار (الشرطة في خدمتكم)، وكذا روح المواطنة، لأن الشرطة تعمل، أصلاً، بتفويض من الجماعة الوطنية وليس ضدها. معنى ذلك أن قيادات قوات الشرطة بقدر ما تركز على العمل الأمني، يجب أن تركز أيضاً على هذا الجانب، أي من دون قسوة ومع وجوب تفادي إعطاء الانطباع وكأنهم مجرد ميليشيا للسلطة الحالية. هنا، لا بد من لفت انتباه أعوان الشرطة بالزي المدني بوجه خاص: الحق أحقّ بأن يقال، عندما نرى تصرفات بعض أفرادكم تجاه المتظاهرين السلميين يخال لنا وكأننا أمام (بلطجية)»!
قمع المظاهرات السلمية
وبحسب هناد «مع مرور الزمن وتواصل الحراك، ظهر أن قيادة قوات الأمن بدأت تنسى أنها تتعامل مع متظاهرين سلميين يرفضون المواجهة، وأننا في عصر صار التظاهر السلمي من الخصائص الأساسية للمواطنة. لقد ولّى ذلك العهد الذي كان المواطن، أحياناً، يُصفع فيه أمام الملأ، بل وأمام زوجته وأولاده لأتفه الأسباب. من المفروض أن يدرك قادة الشرطة بوصفهم مواطنين أن الحراك عندما يطالب بدولة (مدنية ماشي عسكرية) معناه أنه يرفض دولة القهر مهما كان الشكل الذي قد تتخذه. لذلك، لو استمرت الأمور على هذا الحال، من المحتمل أن يظهر شعار آخر يطالب بدولة (مدنية ماشي بوليسية). بطبيعة الحال، مطلب التعامل مع المتظاهرين باحترافية وإنسانية ووطنية أيضاً، لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان جهاز الشرطة مستقلاً في اتخاذ تدابيره وليس خاضعاً، بشكل ما، إلى أجهزة أمنية أخرى».
ثم أضاف هناد: «مؤكد أن مسيرات الحراك المتواصلة بعزم قد أعيت أعوان الأمن كثيراً؛ فهم بشر. ومع ذلك، يجب أن يدرك هؤلاء جيداً أن هذه المسيرات ليست هي سبب معاناتهم، بل تعنّت السلطة ومُضيُّها في فرض أجندتها من دون اعتبار جادٍّ لمطالب الحراك الشعبي السلمي. لذلك، عوض أن يصبَّ أعوان الشرطة جام غضبهم على الحراك الشعبي، الأحرى بهم أن يتصرّفوا بوصفهم مهنيين ومواطنين أيضاً، ويطالبوا قيادتهم بإيصال معاناتهم إلى السلطة. هذا، وسيكون من شأن مثل هذه المبادرة أن تسهم، هي الأخرى، في ممارسة الضغط على هذه السلطة كي تجد حلاً حقيقياً للأزمة التي ستكون عواقبها وخيمة على الجميع، إن هي طالت».
واختتم بالقول: «مشكلة السلطة الحالية أنها تأبى أن ترى في الحراك الشعبي منعطفاً تاريخياً حاسماً في حياة الأمة الجزائرية، غايته إصلاح منظومة الحكم عندنا في العمق، بعدما استشرى الفساد في جميع أوصالها».

أرقام حول انتخابات البرلمان

> يخوض 25416 مرشحاً انتخابات البرلمان المقررة في 12 يونيو (حزيران) المقبل، ضمن 1500 لائحة ترشيح، منهم 12854 ينتمون لأحزاب و12562 مستقلون، سيتنافسون على 407 مقاعد نيابية، وهو عدد أقل من مقاعد البرلمان السابق، البالغ 462 مقعداً.
هذا، وبلغ عدد اللوائح المترشحة في البداية 2490، رفضت «السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات» عدداً كبيراً منها، على أساس أن المبعدين محل شبهة «ارتباط بأوساط المال الفاسد». وهذه تهمة تضمنتها فقرة في المادة 200 من القانون العضوي للانتخابات المعدّل في مارس الماضي، بعد أقل من شهر من حلّ «المجلس الشعبي الوطني» (الغرفة البرلمانية الأولى).
وطال الإقصاء من الترشح، عدداً كبيراً من كوادر أحزاب شديدة الولاء للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، أشهرها «جبهة التحرير الوطني» و«التجمع الوطني الديمقراطي» اللذان كان يملكان الأغلبية في البرلمان السابق.
وبين أبرز من رُفض ترشحهم: أبو الفضل بعجي الأمين العام لـ«جبهة التحرير»، بسبب «عدم أدائه الخدمة العسكرية». ولقد درس القضاء طعوناً تقدمت بها 700 لائحة، وفصل في معظمها لصالح الجهة التي رفضت الترشحات، وهي «سلطة الانتخابات» التي تطعن المعارضة في مصداقيتها، بحجة أنها «خاضعة لإملاءات وزارة الداخلية».
ويتضمن قانون الانتخابات إلزامية المناصفة بين النساء والرجال في اللوائح الانتخابية، مع ضرورة أن يكون سن نصف عدد المرشحين أقل من 40 سنة. وما يلفت في الترشحات كثرة عدد الصحافيين في اللوائح. كما يتضمن القانون حق المعارضة في تشكيل حكومة إذا فازت بالغالبية، من دون أن يتدخل رئيس الدولة في اختيار الشخصية التي تقودها.
وفي المقابل، يشهد الاستحقاق الانتخابي، مقاطعة أحزاب بارزة في المعارضة، هي: «جبهة القوى الاشتراكية» (أقدم حزب معارض أسسه رجل الثورة الراحل حسين آيت أحمد)، و«حزب العمال» بزعامة مرشحة الرئاسة سابقاً لويزة حنون، و«التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية» برئاسة محسن بلعباس.
وترى هذه الأحزاب أن شروط المشاركة في الانتخابات غير متوافرة، وأنها «لا تشكل حلاً للأزمة السياسية».
في المقابل، تشارك الأحزاب الإسلامية بقوة في المنافسة، أهمها «حركة مجتمع السلم» بقيادة عبد الرزاق مقري، و«جبهة العدالة والتنمية» برئاسة الشيخ عبد الله جاب الله.



«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)
ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)
TT

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)
ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)

مرحلتا «التعايش» أو «المساكنة» الأولى والثانية في فرنسا كانتا في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران الاشتراكي مع رئيسيْ حكومة من اليمين الديغولي هما جاك شيراك (بين عاميْ 1986 و1988) وإدوار بالادور (بين 1993 و1995)، ثم في زمن الرئيس شيراك، حين شغل الاشتراكي ليونيل جوسبان منصب رئاسة الحكومة طيلة خمس سنوات (1997 و2002). وانتهت المرحلة الأخيرة بإعادة انتخاب شيراك لولاية ثانية من خمس سنوات.

الحكم العامودي

رغم تعاقب العهود والتغيّرات في الآيديولوجيا والأولويات وبرامج الحكم، لم تعرف حقاً أزمات خطيرة؛ بفضل صلابة المؤسسات التي أرساها الجنرال شارل ديغول التي وفرت التعاقب السلمي والسلس على السلطة.

أما اليوم، فإن قراري الرئيس إيمانويل ماكرون، مساء 9 يونيو (حزيران) الماضي، حل البرلمان بعد الهزيمة التي ضربت تحالف الأحزاب الثلاثة المؤيدة له في الانتخابات الأوروبية، والدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة، أدخلا فرنسا في أزمة عميقة لا أحد يعرف كيف الخروج منها ولا الحدود التي ستقف عندها.

لوبن ومعها بارديلا (آ ب)

ويوماً بعد يوم، تتكشف الظروف، التي أحاطت بقرار ماكرون الفجائي، الذي اتخذه بمعزل عن الحكومة ومن دون القيام بالمشاورات التي يُلزمه بها الدستور، وتحديداً مع رئيسيْ مجلسي الشيوخ والنواب ورئيس الحكومة. ولم يعد سراً أن الأخير، غابرييل أتال (35 سنة)، كان معارضاً بقوة لقرار ماكرون الذي يدين له بكل شيء، ولكونه أصغر رئيس حكومة في تاريخ البلاد منذ عام 1802، حين وصل الجنرال نابوليون بونابرت - ولاحقاً الإمبراطور - إلى منصب «القنصل الأول» ما يساوي منصب رئيس الحكومة.

كذلك اعتبر إدوار فيليب، رئيس الحكومة الأسبق، والرئيس الحالي لحزب «هورايزون» المتحالف مع ماكرون، أن الأخير «قتل الأكثرية الرئاسية»، لذا «يتوجب الذهاب إلى أكثرية مختلفة لن تكون كسابقتها». أما فرنسوا بايرو، الحليف الرئيس لماكرون ورئيس حزب «الحركة الديمقراطية» المنضوية تحت لواء التحالف الداعم له، فرأى أن المعركة الانتخابية التي تلي حل البرلمان «ليست معركة سياسية بل صراع من أجل البقاء».

ماكرون ومجموعته الضيقة

بناءً عليه، صار واضحاً، اليوم، أن ماكرون اتخذ قراره مع مجموعة ضيقة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وفي اجتماع دُعيت إليه في قصر الإليزيه يائيل بيفيه ـ براون، رئيسة مجلس النواب، ليس للتشاور، بل لإبلاغها قراره، طلبت منه الأخيرة اجتماعاً على انفراد لتبلغه رفضها حل البرلمان الذي ترأسه منذ سنتين، مذكّرة إياه بالمادة الدستورية التي تُلزم رئيس الجمهورية بالتشاور معها. ولقد وافق ماكرون على طلبها، إلا أن الاجتماع، في غرفة جانبية، لم يدُم سوى دقيقتين.

ما حصل مع بيفيه ـ براون، جرى أيضاً مع جيرار لارشيه، رئيس مجلس الشيوخ، المنتمي إلى اليمين التقليدي - حزب «الجمهوريون» - والرجل الثاني في الدولة الذي يشغل هذا المنصب، من غير انقطاع، منذ عام 2014.

إذ نقلت صحيفة «لوموند» أن لارشيه، الذي لم يكن حاضراً الاجتماع الطارئ في الإليزيه، تلقى اتصالاً هاتفياً من ماكرون، في الثامنة والربع من مساء التاسع من يونيو (حزيران) الماضي، وأن الاتصال دام دقيقة ونصف الدقيقة.

وتابعت الصحيفة أن لارشيه، الطبيب البيطري السابق، انتقد ماكرون؛ لعدم احترامه المادة 12 من الدستور، الأمر الذي عدَّه «انتقاصاً من دور المؤسسة التي يرأسها»، وبالتالي من منصبه ومنه شخصياً. وسأل لارشيه، ماكرون: «هل فكّرت ملياً بما قرّرت فعله؟»، وجاء ردّ رئيس الجمهورية: «نعم، أنا أتحمل كامل المسؤولية ومستعد للتعايش» مع حكومة من غير معسكره السياسي.

التعايش مع اليمين المتطرف!

بالنظر لنتائج الانتخابات الأوروبية، التي شهدت احتلال حزب «التجمع الوطني»، اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن، وترؤس الشاب جوردان بارديلا لائحتها، المرتبة الأولى وحصوله على 34 في المائة من الأصوات، كان ماكرون يعني التعايش مع حكومة من اليمين المتطرف. وهذا ما كان سيُدخل فرنسا نادي الدول التي سيطر عليها هذا اليمين؛ أكان بالكامل كما في إيطاليا وهولندا، أم جزئياً كما في المجر والدنمارك والسويد.

إلا أن لارشيه، المعروف باعتداله ووسطيته، انتقد نهج الحكم الماكروني قائلاً له أن «عمودية حكمه - أي إمساكه بالقرار السياسي وحرمان حكومته من هامش من التصرف - قادته إلى العزلة التي يعاني منها راهناً». وخلاصة القول إن قلة اكتراث ماكرون بالمؤسسات وبدور رئيس الحكومة والنقابات، وما يسمى الهيئات الوسيطة، كالنقابات مثلاً، أدت إلى «القطيعة مع الرئيس»، بمن في ذلك المرشحون للانتخابات التي أُجريت دورتاها يوميْ 30 يونيو، و7 يوليو (تموز) الحالي. وكان من أبرز معالم هذه القطيعة أن أحداً من المرشحين لم يطلب دعم ماكرون في حملته الانتخابية؛ لأنه اعتبر أن حضوره سيؤدي إلى نتائج عكسية. كذلك كان اللافت أن أياً من المرشحين لم يضع صورته إلى جانب صورة ماكرون على ملصقاته الانتخابية.

تبعات المبادرة الماكرونية..

لقد أفادت نتائج الدورة الانتخابية الأولى الرسمية والنهائية، التي صدرت عن وزارة الداخلية، أن حزب «التجمع الوطني»، ومعه حليفه أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» المنشقّ والملتحق بـ«التجمع الوطني»، حصل على 33.15 في المائة من أصوات الناخبين، وعلى 10.7 مليون صوت، في تحوّل لم يعرفه سابقاً، كما تمكّن 37 من مرشحيه من الفوز منذ الجولة الأولى.

ثم حلّت «الجبهة الشعبية الجديدة»، التي تشكلت في وقت قياسي، والتي تضم ثلاثة أحزاب يسارية وحزب «الخضر»، في المرتبة الثانية بحصولها على 28 في المائة من الأصوات.

أما «ائتلاف الوسط»، الداعم لماكرون وعهده، فقد حلّ في المرتبة الثالثة، إذ رسا على ما دون عتَبة الـ21 في المائة. وللعلم، تمكّن اليسار من إيصال 32 نائباً منذ الدورة الأولى، مقابل نائبين فقط للائتلاف الأخير. وأصاب الانهيار أحزاب العهد الثلاثة في الصميم، وكذلك حزب «الجمهوريون» الذي تقلّص ناخبوه إلى 6.75 في المائة، بعدما هيمن، طيلة عقود، على الحياة السياسية في فرنسا.

نعم، جاءت نتائج الجولة الأولى صادمة وبمثابة قرع لجرس الإنذار محذِّرة من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة عبر الانتخابات البرلمانية. وطيلة الأسبوع الفاصل بين الجولتين الأولى والثانية، كان السؤال المحوَري يدور حول ما إذا كان اليمين المتطرف سيحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان أم لا.

وأخذ جوردان بارديلا، الذي رشحه «التجمع الوطني» لرئاسة الحكومة، بينما تتحضر مارين لوبن للعبور إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية لعام 2027، يتكلّم إلى الإعلام وكأنه واصل غداً إلى رئاسة الحكومة.

بيد أن هذه النتائج دفعت «الجبهة الشعبية الجديدة» و«ائتلاف الوسط»، رغم التباعد الآيديولوجي والسياسي بينهما والحملات السياسية والشخصية العنيفة المتبادلة طيلة ثلاثة أسابيع، إلى الاتفاق على سحب مرشحيهما من الدوائر التي حلّوا فيها في المرتبة الثالثة لكي تصب الأصوات كافة لصالح المرشح المناهض لليمين المتطرف، مهما كان لونه السياسي. والحقيقة أن «معجزة» تحقّقت، واتفق الطرفان على سحب 220 مرشحاً أكثريتهم من جبهة اليسار، الأمر الذي قلَب النتائج المرتقبة سلفاً رأساً على عقب.

ظواهر فرضت نفسها

في أي حال، ثمة أربع ظواهر فرضت نفسها:

الأولى أن «الجبهة الجمهورية» التي شكلت لوقف زحف اليمين المتطرف إلى السلطة نجحت في مهمتها. فبدل أن تثبت جولة الإعادة نتائج الجولة الأولى، ها هو اليمين المتطرف يحل في المرتبة الثالثة، ما وأد أحلامه السلطوية مع أنه نجح في إيصال 125 نائباً إلى البرلمان الجديد، مقابل 89 نائباً في البرلمان السابق.

والثانية أن جبهة اليسار، ومَن انضم إليها، حلّوا في المرتبة الأولى مع 195 نائباً، يتبعهم في ذلك ائتلاف الوسط الرئاسي (166 نائباً) الذي خسر 84 نائباً.

والثالثة أن أية مجموعة من المجموعات الرئيسة الثلاث لم تحصل على الأكثرية المطلقة (289 نائباً) أو لامستها، الأمر الذي أوجد وضعاً سياسياً بالغ التعقيد، وجعل تشكيل حكومة جديدة صعب المنال.

والرابعة قوامها أن القرار السياسي انتقل من قصر الإليزيه، حيث خرج ماكرون ضعيفاً في المنافسة الانتخابية بسبب ضعف مجموعته السياسية وفقدان سيطرته على المجموعات الأخرى، إلى البرلمان. وهو ما أعاد فرنسا - بمعنى ما - إلى عهود «الجمهورية الرابعة» عندما كان القرار بيد المشرّعين وليس بيد رئيس الجمهورية.

انتخابات بلا فائز

يعطي الدستور الفرنسي تسمية رئيس الحكومة لرئيس الجمهورية، كما أنه لا يُلزمه بمهلة محددة لاختياره. بيد أن العُرف يقول إنه يتوجب عليه أن يُوكل المهمة إلى شخصية من «التجمع»، أو الحزب الفائز بالانتخابات، أو الذي يحل في المرتبة الأولى؛ أي في حالة الانتخابات الأخيرة، إلى «الجبهة الشعبية الجديدة».

بيد أن ماكرون يتمهل وتجمعه (ائتلاف الوسط)، ومعهما اليمين التقليدي (حزب «الجمهوريون»)، الذي حصل على 65 نائباً. وهؤلاء يراوغون ويستمهلون ويسوّقون الأعذار لمنع اليسار من الوصول إلى السلطة بحجة هيمنة حزب «فرنسا الأبية»، والمرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون، عليه. ومنذ الأحد الماضي، يوجه هؤلاء سهامهم على ميلونشون؛ لأنهم يرون فيه نقطة الضعف الرئيسة، ويواظبون على نعته بـ«معاداة السامية»، وبالسعي لهدم النظام الديمقراطي، وإثارة الفوضى والطوائفية.

وتضاف إلى ما سبق حجتان: الأولى أن اليسار عاجز عن توفير أكثرية في مجلس النواب باعتبار أنه ليست ثمة مجموعة من المجموعتين الكبريين تقبل بالتحالف معه للوصول إلى العدد السحري (289 نائباً). والثانية أن «لا أحد فاز في الانتخابات الأخيرة»، كما أكد وزير الداخلية جيرالد درامانان... باعتبار أن المجموعات الثلاث نالت أعداداً متقاربة من النواب.

وبالفعل، سارع ماكرون إلى استخدام الحجة الأخيرة في «الرسالة» التي وجّهها إلى الفرنسيين، الأربعاء، عبر الصحافة الإقليمية - وهي الثانية من نوعها منذ حل البرلمان. وعمد الرئيس إلى استخلاص النتائج وطرح تصوّره للأيام المقبلة، فيما تجهد جبهة اليسار، بشِق النفس وبمفاوضات شاقة، إلى التوافق حول اسم مرشح تطرحه لرئاسة الحكومة وسط كمٍّ من الأسماء.

وهنا، لم يتردد أوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي، في طرح نفسه للمنصب، علماً بأن هناك صراعاً داخلياً قائماً بين الحزب الاشتراكي وحزب «فرنسا الأبية» على تزعّم تجمع اليسار و«الخضر». وحلم ماكرون ومجموعته إحداث شرخ داخل «جبهة اليسار» بحيث يبتعد الاشتراكيون و«الخضر» - وأيضاً الشيوعيون - عن ميلونشون و«فرنسا الأبية»، بحيث يتاح المجال لتشكيل حكومة «قوس قزح» من اليمين وائتلاف الوسط واليسار غير الميلونشوني؛ بمعنى إقصاء أقصى الطرفين خارجها، أي من جهة، اليمين المتطرف ممثلاً بـ«التجمع الوطني»، ومن جهة ثانية، اليسار المتشدد ممثلاً بـ«فرنسا الأبية».

وللتذكير، طلب ماكرون، في رسالته التي لقيت احتجاجات قوية، لا بل تنديداً شديداً بـ«مناورته» الجديدة، من «كل القوى السياسية التي ترى نفسها داخل المؤسسات الجمهورية، أن تنخرط في حوار صادق ونزيه من أجل بناء أكثرية صلبة تكون بطبيعة الحال متعددة». وأردف أنه يريد «التمهّل بعض الوقت من أجل التوصل إلى تسويات بهدوء واحترام للجميع»، مكرّراً من جديد أن «لا أحد فاز» في هذه الانتخابات.