قلّ أن احتل كاتب من الكتّاب المكانة المرموقة والمتفردة التي احتلها جبران خليل جبران في الوجدان العربي، بل العالمي في الوقت ذاته. وهي مكانة لم يتراجع منسوبها بعد رحيل الكاتب اللبناني عن هذا العالم، كما يحدث لكثير من الكتّاب الذين لا يتغذى بريق أسمائهم من فرادة منجزهم الإبداعي نفسه، بل من الضجيج الزائف للآيديولوجيا أو المكانة الاجتماعية أو الترويج الإعلامي. وإذا كان لتحالف الصدف والحظوظ أن يلعب في بعض الأحيان أدواراً غير قليلة في إعلاء هذا الاسم الأدبي أو طمس مكانة ذاك، لفترات محدودة من الوقت، فإن للزمن قواعده ومعاييره المختلفة التي تعيد الأمور إلى نصابها، ولو بعد حين. ولم يكن لصاحب «النبي» أن يحتفظ بكل ذلك الوهج وتلك الأصداء، لولا اجتراحه الجريء للغة طازجة ومشحونة بالصدق وملفوحة بلهب الشعر.
ومع أننا لا نستطيع التقليل من أهمية الصرخة العاتية التي أطلقها جبران في برية الجهل والخنوع العربيين، ولا من أهمية دعوته الجريئة إلى التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، فإن علينا الإقرار بالمقابل بأن مثل هذه الدعوة لم تكن امتيازاً جبرانياً خالصاً، بل كان قد سبقه إليها، رواد نهضويون، من أمثال رفاعة الطهطاوي والكواكبي والأفغاني والشدياق ومارون النقاش وشبلي الشميل واليازجيين والبستانيين، سليمان وبطرس، وكثر غيرهم. لكن ما ميّز صاحب «رمل وزبد» عن سواه، هو انتقاله، كما ورد آنفاً، بلغة الضاد من طور إلى طور، بعد أن تسببت بفقرها المدقع إشاحة الدولة العثمانية المتداعية بوجهها عن كل ما يتصل بإنشاء المدارس والجامعات والصروح التربوية والثقافية، ما أطفأ في متون القصائد والنصوص كل أثر للإبداع، وحوّلها إلى منصات للفراغ والحذلقة واللعب الشكلاني.
قد يكون النص الركيك والمليء بالأخطاء الذي صيغت من خلاله «وثيقة أنطلياس» الموقعة عام 1840 من قبل زعماء الطوائف اللبنانية، المتعاهدين يومها على التآزر في مواجهة قوى الهيمنة الخارجية، ليس سوى الترجمة الفعلية للحالة البائسة التي بلغتها اللغة الفصحى؛ حيث نقرأ في مطلع الوثيقة: «إنه يوم تاريخه قد حضرنا إلى مار إلياس أنطلياس نحن المذكورة أسماؤنا به بوجه العموم من دروز ونصارى ومتوله وإسلام المعروفين بجبل لبنان من كافة القرى وقسمنا يمين على مذبح القديس المرقوم وبأننا لا نخون ولا نطابق بضرر واحد منا كلياً بل يكون القول واحد والري (الرأي) واحد». ويكفي أن يتناول المرء أياً من نصوص جبران اللاحقة، ليتبين له أن ما أضافه جبران إلى العربية، على مستويات الحساسية والمعجم والتخييل المجازي والتركيب النحوي، يحملنا على الاعتقاد بأن لغة أخرى، يانعةً ورشيقة وموصولةً بالشرايين، قد وُلدت على يدي الكاتب اللبناني المهجري. إنها لغة تتوهج في كنف الحياة، لا في كنف التقعر والافتعال والتصحر الروحي. وهي لغة تتفتح في داخلها ضروب الفنون كافة، وبخاصة الموسيقى التي أولاها جبران كل عنايته، والتي خاطبها بالقول: «يا خيالات القلب البشري. يا ثمرة الحزن وزهرة الفرح. يا رائحة متصاعدة من طاقة زهور الشعائر المضمومة. يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة. يا موحيةَ الشعراء ومنظمةَ عقود الأوزان».
على أن المشروع النهضوي الجبراني لم يكن له أن يتحقق من خلال الموهبة وحدها، حتى لو تغذت مخيلته الشاهقة من الجذور الينبوعية الموغلة في قِدمها لغابة الأرز، وللمنحدرات السيفية السحيقة لوادي قاديشا، بل من ذلك التكامل الخلاق بين الإقامة والرحيل، بين أمومة الجذور وأنوثة الأمواج ؛ حيث تمكن صاحب «الأرواح المتمردة»، متنقلاً بين بوسطن ونيويورك وباريس وغيرها من المدن، أن يحقق للغة العربية قيامتها الموعودة، وأن يوائم بنجاح بين روحانية الشرق وعقلانية الغرب وكشوفه الثقافية المختلفة. هكذا بدت التجربة الجبرانية، بمثابة دحض تلقائي لمقولة كيبلينغ الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان»، مؤكدة بذلك على أنه يمكن لشجرة المعرفة الإنسانية أن تعطي أفضل الثمار، في ظل تنوع التربة وتعدد مصادر الغذاء والمناخ والضوء، تماماً كما حدث من قبل مع التجربتين الهيلينية والأندلسية، وما كرسته زمن جبران تجربة الأدب المهجري، وما أكدته في وقت لاحق المغامرة الرائدة لشعر الحداثة العربي.
أما الذين يأخذون على جبران عدم التفاته الكافي إلى موجبات البلاغة العربية التقليدية، وصولاً إلى وقوعه في بعض الأخطاء النحوية والصرفية، فهم يجانبون الحقيقة تماماً، لأن اللغة عند جبران لم تعد معادلاً للتصنيم النحوي والقواعد الجامدة والمحسنات المتعسفة والتنقيط اللفظي البهلواني، بل باتت معادلاً للحياة نفسها في تألقها أو انطفائها، في اكتظاظها بالعتمة والألم، كما في تحالفها مع الفرح والفتنة وبراعم الجمال. وهؤلاء أيضاً ينسون أو يتناسون، أن تجديد اللغات المختلفة لا يتم بالقطع على أيدي النحاة وحراس التنميط البلاغي ومفتي التقعر اللفظي والأسلوبي، بل كان دائماً وما يزال مهمة الشعراء والمبدعين، الذين يختبرون اللغة بالقلب والحدس والحساسية المرهفة. والأدل على هذا الرأي هو ذهاب جبران نفسه في مقالة له إلى الاعتراف بأنه «لم يلجأ إلى القواميس العربية أكثر من مرات ست في حياته، وأنه لم يدرك استخدامه للغة العربية بشكل يختلف عن الآخرين، قبل أن يخبره الآخرون عن ذلك».
لقد عرف جبران كيف يصغى بانتباه شديد إلى تحولات عصره وإيقاعاته وأسئلته المؤرقة. فهو لم يتوانَ، في الشطر المشرقي من التأثرات، عن النهل من ينابيع الكتاب المقدس، وخاصة «نشيد الأناشيد» وبعض أسفار العهد القديم، ومن الصيغ الإنجيلية ومناخات القرآن الكريم. كما لم يتوانَ عن التفاعل، في الجانب الغربي، مع رسوم وليم بلايك وأدبه المناهض لبلادة العقل، والقائم على البصيرة وحدوسها الكاشفة، أو مع الهندسة الجمالية والروحية لمنحوتات رودان، أو مع أدب نيتشه ذي النزوع الديونيزي المعتمد على قوة العصب والانبثاق الفطري للرؤى والأشكال، والمنادي بالنزوع الشهواني ومبدأ الإنسان المتفوق. وهو ما بدت تمثلاته واضحة في كثير من مؤلفات جبران، وخاصة في «العواصف» و«الأرواح المتمردة» و«المجنون». ومع ذلك فجبران الكاره للجمود والباحث عن التحول، لم يكن ليستكين في كنف أحد، حتى كنف منجزه الشخصي السابق. وهو ما يفسر افتراق «النبي» عن «زرادشت» حين قرر النزول عن ظهر الأعاصير، لكي يؤسس مملكة الرجاء الوادع ومدن الهدوء الحكيم. كما أن نقمة جبران على نظام الإكليروس المسيحي وما يستتبعه من مظاهر البذخ والبطش والفساد، لم تجعله بأي حال مناوئاً للمسيح نفسه، كما فعل نيتشه.
ثمة بالطبع من يأخذ على جبران تشتته وترحّله المستمر بين الفنون، ورغبته في أن يكون الناثر والروائي والقاص والرسام والمفكر والفيلسوف والشاعر في آن واحد، الأمر الذي حرمه من التركيز على فن بعينه، وجعله غير قادر على الذهاب بكل منها إلى تخومها الأخيرة. ومع أن هذا التوصيف ليس بعيداً من حيث المبدأ عن الحقيقة، فإن على الآخذين به أن يدركوا بالمقابل، أن الفنون المختلفة التي قاربها جبران كان يحركها لهب واحد، وشغف غير محدود بالخروج من دوامة الانحطاط والتقوقع الظلامي، فضلاً عن أن مثقفاً ومبدعاً متعدد المواهب كجبران، يجب أن ينظر إليه كصاحب مشروع ثقافي وتنويري متعدد الوجوه والتجليات، وكمبتكر لغة وأسلوب جديدين، قبل أي شيء آخر. وهو ما يؤكده قوله عن نفسه في إحدى مقالاته: «أنا لست مفكراً، أنا خالق أشكال».
وككل «خالق أشكال» واجه جبران على امتداد حياته القصيرة كثيراً من العنت والغربة وسوء الفهم. وهو ما عكسه قول ماري هاسكل عنه بأنه «كان يقيم في ظل إله غريب». وإذا كانت الوحشة والمنفى والاغتراب الوجودي، هي من بين العلامات الفارقة لمغامرة الحداثة، فإن في سيرة جبران ونصوصه ومكابداته الروحية القاسية، ما يجعل منه أحد أبرز الرموز المؤسسة للحداثة العربية الأولى، ولاستتباعاتها اللاحقة فيما بعد. وهو ما تؤكده نصوص كثيرة، من بينها قوله في «العواصف»: «أنا غريب في هذا العالم. أنا غريب وقد جبتُ مشارق الأرض ومغاربه فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني ويسمع بي».
لقد كان جبران في المحصلة الأخيرة أقرب إلى روح الشاعر منه إلى الفيلسوف أو المفكر السياسي والمصلح الاجتماعي. على أن شاعريته العالية، في رأيي، تتبدى عبر نصوصه النثرية المختلفة، أكثر مما تتبدى في قصائده الموزونة التي رغم سلاستها الرشيقة لم تقدم أي إضافة حقيقية إلى شعرية أسلافه أو معاصريه. وهو أمر يمكن تفسيره بأن نثر جبران المفرط في موسيقاه وثرائه التخييلي، لم يترك لشعره المنظوم ما يفعله أو يضيفه إليه. ولا ينأون كثيراً عن الحقيقة أولئك الذين أطلقوا على بعض نصوص جبران النثرية تسمية «الشعر المنثور»، كما فعل جرجي زيدان وميخائيل نعيمة وتوفيق صايغ وآخرون. كما أن بعض الإشراقات الأدبية الجبرانية لم ترهص بقصيدة النثر وحدها، بل أرهصت كذلك بما أُطلق عليه فيما بعد تسمية «النص المفتوح» الذي يصهر الفنون، بقدر ما يصهر الأزمنة كلها، في بوتقة واحدة، كما في قوله مخاطباً الحرية بلسان خليل الكافر: «من منبع النيل إلى مصب الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس، متموجاً مع صراخ الهاوية. ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزع الموت. ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة. فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا».
المغامرة الجبرانية بين التمرد على الواقع وتقويض اللغة السائدة
بعد 90 عاماً على رحيل صاحب «النبي»
المغامرة الجبرانية بين التمرد على الواقع وتقويض اللغة السائدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة