المغامرة الجبرانية بين التمرد على الواقع وتقويض اللغة السائدة

بعد 90 عاماً على رحيل صاحب «النبي»

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران
TT

المغامرة الجبرانية بين التمرد على الواقع وتقويض اللغة السائدة

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران

قلّ أن احتل كاتب من الكتّاب المكانة المرموقة والمتفردة التي احتلها جبران خليل جبران في الوجدان العربي، بل العالمي في الوقت ذاته. وهي مكانة لم يتراجع منسوبها بعد رحيل الكاتب اللبناني عن هذا العالم، كما يحدث لكثير من الكتّاب الذين لا يتغذى بريق أسمائهم من فرادة منجزهم الإبداعي نفسه، بل من الضجيج الزائف للآيديولوجيا أو المكانة الاجتماعية أو الترويج الإعلامي. وإذا كان لتحالف الصدف والحظوظ أن يلعب في بعض الأحيان أدواراً غير قليلة في إعلاء هذا الاسم الأدبي أو طمس مكانة ذاك، لفترات محدودة من الوقت، فإن للزمن قواعده ومعاييره المختلفة التي تعيد الأمور إلى نصابها، ولو بعد حين. ولم يكن لصاحب «النبي» أن يحتفظ بكل ذلك الوهج وتلك الأصداء، لولا اجتراحه الجريء للغة طازجة ومشحونة بالصدق وملفوحة بلهب الشعر.
ومع أننا لا نستطيع التقليل من أهمية الصرخة العاتية التي أطلقها جبران في برية الجهل والخنوع العربيين، ولا من أهمية دعوته الجريئة إلى التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، فإن علينا الإقرار بالمقابل بأن مثل هذه الدعوة لم تكن امتيازاً جبرانياً خالصاً، بل كان قد سبقه إليها، رواد نهضويون، من أمثال رفاعة الطهطاوي والكواكبي والأفغاني والشدياق ومارون النقاش وشبلي الشميل واليازجيين والبستانيين، سليمان وبطرس، وكثر غيرهم. لكن ما ميّز صاحب «رمل وزبد» عن سواه، هو انتقاله، كما ورد آنفاً، بلغة الضاد من طور إلى طور، بعد أن تسببت بفقرها المدقع إشاحة الدولة العثمانية المتداعية بوجهها عن كل ما يتصل بإنشاء المدارس والجامعات والصروح التربوية والثقافية، ما أطفأ في متون القصائد والنصوص كل أثر للإبداع، وحوّلها إلى منصات للفراغ والحذلقة واللعب الشكلاني.
قد يكون النص الركيك والمليء بالأخطاء الذي صيغت من خلاله «وثيقة أنطلياس» الموقعة عام 1840 من قبل زعماء الطوائف اللبنانية، المتعاهدين يومها على التآزر في مواجهة قوى الهيمنة الخارجية، ليس سوى الترجمة الفعلية للحالة البائسة التي بلغتها اللغة الفصحى؛ حيث نقرأ في مطلع الوثيقة: «إنه يوم تاريخه قد حضرنا إلى مار إلياس أنطلياس نحن المذكورة أسماؤنا به بوجه العموم من دروز ونصارى ومتوله وإسلام المعروفين بجبل لبنان من كافة القرى وقسمنا يمين على مذبح القديس المرقوم وبأننا لا نخون ولا نطابق بضرر واحد منا كلياً بل يكون القول واحد والري (الرأي) واحد». ويكفي أن يتناول المرء أياً من نصوص جبران اللاحقة، ليتبين له أن ما أضافه جبران إلى العربية، على مستويات الحساسية والمعجم والتخييل المجازي والتركيب النحوي، يحملنا على الاعتقاد بأن لغة أخرى، يانعةً ورشيقة وموصولةً بالشرايين، قد وُلدت على يدي الكاتب اللبناني المهجري. إنها لغة تتوهج في كنف الحياة، لا في كنف التقعر والافتعال والتصحر الروحي. وهي لغة تتفتح في داخلها ضروب الفنون كافة، وبخاصة الموسيقى التي أولاها جبران كل عنايته، والتي خاطبها بالقول: «يا خيالات القلب البشري. يا ثمرة الحزن وزهرة الفرح. يا رائحة متصاعدة من طاقة زهور الشعائر المضمومة. يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة. يا موحيةَ الشعراء ومنظمةَ عقود الأوزان».
على أن المشروع النهضوي الجبراني لم يكن له أن يتحقق من خلال الموهبة وحدها، حتى لو تغذت مخيلته الشاهقة من الجذور الينبوعية الموغلة في قِدمها لغابة الأرز، وللمنحدرات السيفية السحيقة لوادي قاديشا، بل من ذلك التكامل الخلاق بين الإقامة والرحيل، بين أمومة الجذور وأنوثة الأمواج ؛ حيث تمكن صاحب «الأرواح المتمردة»، متنقلاً بين بوسطن ونيويورك وباريس وغيرها من المدن، أن يحقق للغة العربية قيامتها الموعودة، وأن يوائم بنجاح بين روحانية الشرق وعقلانية الغرب وكشوفه الثقافية المختلفة. هكذا بدت التجربة الجبرانية، بمثابة دحض تلقائي لمقولة كيبلينغ الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان»، مؤكدة بذلك على أنه يمكن لشجرة المعرفة الإنسانية أن تعطي أفضل الثمار، في ظل تنوع التربة وتعدد مصادر الغذاء والمناخ والضوء، تماماً كما حدث من قبل مع التجربتين الهيلينية والأندلسية، وما كرسته زمن جبران تجربة الأدب المهجري، وما أكدته في وقت لاحق المغامرة الرائدة لشعر الحداثة العربي.
أما الذين يأخذون على جبران عدم التفاته الكافي إلى موجبات البلاغة العربية التقليدية، وصولاً إلى وقوعه في بعض الأخطاء النحوية والصرفية، فهم يجانبون الحقيقة تماماً، لأن اللغة عند جبران لم تعد معادلاً للتصنيم النحوي والقواعد الجامدة والمحسنات المتعسفة والتنقيط اللفظي البهلواني، بل باتت معادلاً للحياة نفسها في تألقها أو انطفائها، في اكتظاظها بالعتمة والألم، كما في تحالفها مع الفرح والفتنة وبراعم الجمال. وهؤلاء أيضاً ينسون أو يتناسون، أن تجديد اللغات المختلفة لا يتم بالقطع على أيدي النحاة وحراس التنميط البلاغي ومفتي التقعر اللفظي والأسلوبي، بل كان دائماً وما يزال مهمة الشعراء والمبدعين، الذين يختبرون اللغة بالقلب والحدس والحساسية المرهفة. والأدل على هذا الرأي هو ذهاب جبران نفسه في مقالة له إلى الاعتراف بأنه «لم يلجأ إلى القواميس العربية أكثر من مرات ست في حياته، وأنه لم يدرك استخدامه للغة العربية بشكل يختلف عن الآخرين، قبل أن يخبره الآخرون عن ذلك».
لقد عرف جبران كيف يصغى بانتباه شديد إلى تحولات عصره وإيقاعاته وأسئلته المؤرقة. فهو لم يتوانَ، في الشطر المشرقي من التأثرات، عن النهل من ينابيع الكتاب المقدس، وخاصة «نشيد الأناشيد» وبعض أسفار العهد القديم، ومن الصيغ الإنجيلية ومناخات القرآن الكريم. كما لم يتوانَ عن التفاعل، في الجانب الغربي، مع رسوم وليم بلايك وأدبه المناهض لبلادة العقل، والقائم على البصيرة وحدوسها الكاشفة، أو مع الهندسة الجمالية والروحية لمنحوتات رودان، أو مع أدب نيتشه ذي النزوع الديونيزي المعتمد على قوة العصب والانبثاق الفطري للرؤى والأشكال، والمنادي بالنزوع الشهواني ومبدأ الإنسان المتفوق. وهو ما بدت تمثلاته واضحة في كثير من مؤلفات جبران، وخاصة في «العواصف» و«الأرواح المتمردة» و«المجنون». ومع ذلك فجبران الكاره للجمود والباحث عن التحول، لم يكن ليستكين في كنف أحد، حتى كنف منجزه الشخصي السابق. وهو ما يفسر افتراق «النبي» عن «زرادشت» حين قرر النزول عن ظهر الأعاصير، لكي يؤسس مملكة الرجاء الوادع ومدن الهدوء الحكيم. كما أن نقمة جبران على نظام الإكليروس المسيحي وما يستتبعه من مظاهر البذخ والبطش والفساد، لم تجعله بأي حال مناوئاً للمسيح نفسه، كما فعل نيتشه.
ثمة بالطبع من يأخذ على جبران تشتته وترحّله المستمر بين الفنون، ورغبته في أن يكون الناثر والروائي والقاص والرسام والمفكر والفيلسوف والشاعر في آن واحد، الأمر الذي حرمه من التركيز على فن بعينه، وجعله غير قادر على الذهاب بكل منها إلى تخومها الأخيرة. ومع أن هذا التوصيف ليس بعيداً من حيث المبدأ عن الحقيقة، فإن على الآخذين به أن يدركوا بالمقابل، أن الفنون المختلفة التي قاربها جبران كان يحركها لهب واحد، وشغف غير محدود بالخروج من دوامة الانحطاط والتقوقع الظلامي، فضلاً عن أن مثقفاً ومبدعاً متعدد المواهب كجبران، يجب أن ينظر إليه كصاحب مشروع ثقافي وتنويري متعدد الوجوه والتجليات، وكمبتكر لغة وأسلوب جديدين، قبل أي شيء آخر. وهو ما يؤكده قوله عن نفسه في إحدى مقالاته: «أنا لست مفكراً، أنا خالق أشكال».
وككل «خالق أشكال» واجه جبران على امتداد حياته القصيرة كثيراً من العنت والغربة وسوء الفهم. وهو ما عكسه قول ماري هاسكل عنه بأنه «كان يقيم في ظل إله غريب». وإذا كانت الوحشة والمنفى والاغتراب الوجودي، هي من بين العلامات الفارقة لمغامرة الحداثة، فإن في سيرة جبران ونصوصه ومكابداته الروحية القاسية، ما يجعل منه أحد أبرز الرموز المؤسسة للحداثة العربية الأولى، ولاستتباعاتها اللاحقة فيما بعد. وهو ما تؤكده نصوص كثيرة، من بينها قوله في «العواصف»: «أنا غريب في هذا العالم. أنا غريب وقد جبتُ مشارق الأرض ومغاربه فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني ويسمع بي».
لقد كان جبران في المحصلة الأخيرة أقرب إلى روح الشاعر منه إلى الفيلسوف أو المفكر السياسي والمصلح الاجتماعي. على أن شاعريته العالية، في رأيي، تتبدى عبر نصوصه النثرية المختلفة، أكثر مما تتبدى في قصائده الموزونة التي رغم سلاستها الرشيقة لم تقدم أي إضافة حقيقية إلى شعرية أسلافه أو معاصريه. وهو أمر يمكن تفسيره بأن نثر جبران المفرط في موسيقاه وثرائه التخييلي، لم يترك لشعره المنظوم ما يفعله أو يضيفه إليه. ولا ينأون كثيراً عن الحقيقة أولئك الذين أطلقوا على بعض نصوص جبران النثرية تسمية «الشعر المنثور»، كما فعل جرجي زيدان وميخائيل نعيمة وتوفيق صايغ وآخرون. كما أن بعض الإشراقات الأدبية الجبرانية لم ترهص بقصيدة النثر وحدها، بل أرهصت كذلك بما أُطلق عليه فيما بعد تسمية «النص المفتوح» الذي يصهر الفنون، بقدر ما يصهر الأزمنة كلها، في بوتقة واحدة، كما في قوله مخاطباً الحرية بلسان خليل الكافر: «من منبع النيل إلى مصب الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس، متموجاً مع صراخ الهاوية. ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزع الموت. ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة. فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.