حكايات تشيكية شبيهة بقصص نساء العالم الثالث

تظهر رواية «حكاية غرام» للكاتبة التشيكية أليكسندرا بيركوفا وكأنها مونولوج طويل في عقل وذاكرة امرأة، يتخذ شكل اعتراف تطهري، لبطلتها «كارولينا» التي تسيطر وحدها على الأحداث، حيث تتكون الرواية من مقاطع سردية وحُلمية، تتجاور فيها الخيالات والذكريات القديمة والمشاهد السريالية لحياة امرأة عانت من كل أشكال الإنكار والاضطهاد واستلاب حقها في أن تمتلك زمام نفسها.
وخلال حركة المد والجزر بإيقاعها السردي اللاهث في هذه الرواية، التي قدم نسختها العربية المترجم الدكتور خالد البلتاجي، وصدرت عن دار الكتب خان المصرية، تستفيض البطلة في بسط مشاعرها وهواجسها كامرأة عجوز، تحكي لطبيبتها، وتستدعي ذكرياتها منذ كانت طفلة، عبر ثلاثة مونولوجات طويلة تُشكل متن الرواية، وترسم الكاتبة خلالها لوحة لشخصية «كارولينا» وزمنها، بل لزمننا نحن أيضاً، حيث تتقاطع فيها خيالاتها وتهويماتها واسترسالاتها في الحكي مع ملامح عصرنا الراهن ورموزه السلطوية سواء كانت أسرية، أم مجتمعية، أم حكومية.

دوامة العبث

تتواتر الحكايات على لسان البطلة معبرة عن آلام تعيشها ولا تنتهي، ودوامات من العبث واللاجدوى والضياع تلفها، ويتشكل منها عالم الرواية في فصولها الثلاثة، وعبر موجات من السرد والتداعي والحكايات والشخصيات الباهتة التي لا تحضر بذاتها، بل تظهر فقط كأنها خيالات. ومن خلال ذلك، تقدم الكاتبة شهادتها على واقع مأساوي خبرت تفاصيله وعرفت فضائحه وأسراره.
وهكذا تتحدث البطلة طوال فصول الرواية، وتسيطر على الأحداث، وتقدم جوانب مأساوية من تاريخ مجتمع تتراكم في دروبه ومؤسساته الحكومية وباراته وشوارعه ومدارسه وبيوته أمواج عاتية من البؤس المتوارث الذي لا قدرة لأحد على مواجهته. وتتناول بيركوفا من خلال بطلتها التي تخضع لجلسات تحليل نفسي، تفاصيل يومية من حياة امرأة، تبدو شبيهة بحكايات كل النساء في مجتمعات العالم الثالث، الغارقات في دوامات من القهر لا تنتهي.

أصفاد وأغلال

يرسم الفصل الأول وهو بعنوان «في القفص»، صوراً من الأغلال التي تحكم النساء والرجال معاً، وتكبل أرواحهم في مجتمعات يحكمها التواطؤ واللامبالاة وفساد الذمم، وهي صورة معبرة عن حياة البشر جميعاً حينما تسقط مجتمعاتهم في القوانين المتضاربة واختلاط القيم والتحلل والسيولة. عبر الحكايات المحكومة بمنطق التداعي الحر، تحاول «كارولينا» الإفلات والتحرر مما يثقل روحها، وتستدعي عبر بوحها المتواصل ذكرياتها منذ كانت طفلة غير مرغوب فيها، داخل أسرة مُفككة، يتغيب الأب عنها طويلاً، بينما تتحمل الأم كارهة كل مشاق الحياة والتربية والعمل، فيما تأتيها رسائل الأب قليلة كأنها قادمة من عالم آخر، عالم فلسفي يعيشه بأفكار مجردة غارقاً في همومه الذاتية، غير عابئ بالأسرة ومشكلاتها الحياتية. كل ما يعنيه في الحياة أن تحتفظ زوجته بخطاباته التي يبعث بها إليها ليضمها إلى سيرته الذاتية التي سوف يشرع في كتابتها عندما يعود إلى البيت.

صراعات متعددة

أما الفصل الثاني وهو بعنوان «صراع مع الملاك» فيكشف عن الصراع الذي تخوضه البطلة مع المثال الذي يصنعه المجتمع لها، حيث يطالبها الجميع أن تكون ملاكا وخادمة وعبدة لسيد وحيد هو الذكر. وخلال الحكايات التي تسردها كارولينا أمام الطبيبة، تظهر في حالة من الضعف واليأس، مستسلمة لما حولها، تتماهى تارة مع القهر وتبدو منسحقة أمام جبروته في عالم لا تقوى على مواجهته، وربما لا تريد أصلاً أن تقف أمامه، وتارة تبدو كأنها تستعذب آلامها وقيودها، حيث تعلن أمام طبيبتها أنها صارت جزءاً منها، وما عاد بمقدورها أن تحيا بدونها، أو تواجه المجتمع بغير جلجلة أصفادها، تقول: «إنها فقط تحملها وهي خارج البيت خوفاً من القيل والقال، خشية من أن يقول الناس: (انظروا، هناك امرأة بلا أصفاد)».
وخلال تداعيات حكاياتها تتحدث البطلة عن قهر العلاقات الأسرية وما تتعرض له النساء من قسوة الرجال وتخليهم عنهن، وانعدام الحماية. ورغم أن استراتيجية الكاتبة وخطوطها السردية تعتمد على صوت كارولينا الذي يسيطر على فضاء العمل، فإن هناك صوتاً يتسرب بين حكاياتها تتلقى منه النصائح، ويدعوها لرفض ما هي فيه، والتمرد عليه، ومقاومته، والبحث عن طريق الخلاص والسعادة، صوت يذكرها بما لديها من قوة، وبما تنعم به من مسؤولية وعقلية رشيدة، ويعدها بأن خلاصها سيأتي من تلقاء نفسه، وأن عليها فقط أن تلقي بأصفادها؛ وتفك قيودها، لكن أمام كل هذه النصائح يأتي الرد من داخلها، يتحدث عن «اليقين البارد الواهن، ومخاوف التحرر، وفك قيود السجان»، في إشارة واضحة إلى أن الجهل وعدم المعرفة هما عدوا الإنسان الحقيقيان، وأنهما وراء قهره وعذابه وبقائه رهيناً للعبودية والأسر، تتساءل البطلة: «أي أصفاد؟ أنا لا أعرف، أليس هذا أجمل من إعصار الحرية القاسي».

سجن الدمى

ومع توالي حالات البوح، ومن خلال مشاهد واقعية عاشتها البطلة وتخيلات وهمية لا وجود لها إلا في عقلها هي فقط، يستطيع القارئ أن يتعرف على معاناة البطلة مع زوجها الذي اتضح أنه يشبه أباها كثيراً، بصفاته نفسها حيث يبدو غارقاً في عالمه الخاص، مسجوناً داخل فنه، يقوم بصناعة الدمى والألعاب والتماثيل. نراه من خلال عيني البطلة محبوساً داخل أغلال روحه وعالمه تارة، ونراها هي السجينة تارة أخرى، وكأنهما يعيشان حالة من القهر المتبادل، وكأن لكل إنسان سجنه وأغلاله، التي يصنعها هو بنفسه أحياناً، أو ينسجها حوله المجتمع.
ومع تطور الحكايات وتصاعد وتيرتها في الفصل الثالث الذي يجيء بعنوان «النهاية»، تعمل «كارولينا» بنصيحة طبيبتها، وتبدأ في التحرر بفضل الحكي والسباحة والإبحار في الذاكرة والأفكار والتأملات، وتكتشف أنها أصبحت أكثر خفة وجمالاً، بعدما أدركت أن القهر لم يكن فقط واقعاً علي المرأة، ولكنه يجثم على البشر جميعاً، وأن علاقتها بالرجل لم تكن فقط علاقة سيد بعبد، لكنها كانت أكثر تعقيداً من ذلك، فقد اتضح لها أيضاً أنها استنامت لفكرة العبودية، وتخلت عن مسؤوليتها في التحرر والاختيار، كما فهمت أن الرجل أيضاً لم يكن ذلك السيد طوال الوقت، وأن «لعبة السيد والعبد» كانت دوماً متبادلة بين النساء والرجال، كما أنها متبادلة بين البشر جميعاً، حتى بين الإنسان ونفسه.
أما عن تكنيك الكتابة الذي اعتمدته «بيركوفا» فيتجلى في أنها لم تعتمد على المباشرة ولا التصريح بالأفكار، لكنها قدمت إبحاراً رمزياً داخل لا شعور أنثى، تحاول أن تكتشف طريقها، وتعرف هدفها في الحياة، فلا توجد هنا حكاية كلاسيكية، ولا شخصيات درامية، بقدر ما توجد دفقات لا شعورية، أشبه بلوحات ضبابية، تعبر عن أحوال البطلة كما تعبر أيضاً عن أحوال كل امرأة، وعن القهر الإنساني الذي يقع تحت طائلته النساء والرجال على حد سواء.