وثائق جديدة عن جبران خليل جبران مع ترجمة «هذا الرجل من لبنان»

هدية ثمينة في الذكرى التسعين لغيابه

شبان لبنانيون في بوسطن يحملون نعش جبران خارجين من محطة القطار الجنوبية لدى وصوله من نيويورك
شبان لبنانيون في بوسطن يحملون نعش جبران خارجين من محطة القطار الجنوبية لدى وصوله من نيويورك
TT

وثائق جديدة عن جبران خليل جبران مع ترجمة «هذا الرجل من لبنان»

شبان لبنانيون في بوسطن يحملون نعش جبران خارجين من محطة القطار الجنوبية لدى وصوله من نيويورك
شبان لبنانيون في بوسطن يحملون نعش جبران خارجين من محطة القطار الجنوبية لدى وصوله من نيويورك

كان لا بد من مرور تسعين سنة على وفاة جبران خليل جبران، لنرى كتاب «هذا الرجل من لبنان» الذي كتبته باربره يونغ بالإنجليزية، وقد ترجم إلى العربية في نسخة أنيقة وترجمة بلغة ممتازة وسلسة أنجزها الشاعر اللبناني هنري زغيب. ويونغ هي الشاعرة الأميركية التي رافقت جبران في السنوات السبع الأخيرة من حياته، وكان يملي عليها، ويروي لها، ويسر، حتى باتت تعرف دقائق وتفاصيل حياته. وهي التي رافقت جثمانه من أميركا إلى لبنان، ليرتاح في بلدته بشري كما أحب، ويتحول المكان الذي وُري فيه، وهو دير مار سركيس إلى متحف وقبلة للزائرين. وفي لبنان وضعت يونغ هذا الكتاب الذي أصبح بين أيدينا اليوم.
وقد قام «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، بمبادرة تثمن حين أجرى اتصالاته قبل سنوات مع دار النشر الأميركية «كنوف»، وحصل على الحقوق، ليصدر النص بالعربية، غنياً بالحواشي، والمعلومات، مضافة إليه عدد من النصوص التي كتبت حول جبران، ووثائق جديدة أميركية ولبنانية، بعضها يطلع عليها القارئ للمرة الأولى.
الكتاب كان قد ترجم في ستينات القرن الماضي، دون إذن أو شراء حقوق، وتاهت تلك الترجمة، ولم يعد يسمع بها أحد. لذلك فإن الترجمة الحالية مع الإضافات والإيضاحات والشروحات التي زود بها الكتاب، تقدم للباحث مادة دقيقة ودسمة حول أدب جبران وحياته، وما رافق إصدار العديد من كتبه التي أملاها على الشاعرة باربره يونغ، «رمل وزبد»، و«يسوع ابن الإنسان»، و«آلهة الأرض»، و«حديقة النبي». هذا الكتاب الأخير توفي جبران قبل أن ينهي إملاءه عليها، لهذا يقال إنها أضافت من عندياتها. على هذا يجيب الشاعر هنري زغيب «أن ملازمة يونغ للشاعر طوال سنوات، جعلها ماهرة في التماهي مع أسلوبه، وقادرة على جمع نثار أوراقه وسد ثغراتها».
كتاب «هذا الرجل من لبنان» مؤلف من ثلاثة أجزاء، الأول منه هو نص باربره يونغ، أما الثاني فهو مجموعة نصوص متفرقة عن جبران صدرت في نيويورك بعد وفاته، تحكي عن: مأتمه في بوسطن ونقل رفاته إِلى لبنان، وندوات لاحقة حول كتاباته ولوحاته، وذكريات رفاقه عنه في «الرابطة القلمية»، ووصْف «صومعته» في نيويورك، وانكشاف رسائل الحب بينه وبين ماري هاسكل، وقصائد لجبران بالإنجليزية غير منشورة (مع ترجمتها). وفي هذا الجزء معلومات موثقة عن دير مار سركيس وكيفية تحويله متحفاً وضريحاً، إضافة إلى مسرحيتين بالإنجليزية غير معروفتين لجبران، ومعلومات جديدة عن فرجينيا حلو مكتشفة رسائل جبران وماري هاسكل في جامعة نورث كارولاينا، ومقال جديد غير معروف لميخائيل نعيمة سنة 1964 عن «النبي»، وكتابات ونصوص أخرى بالإنجليزية والعربية غير معروفة لجبران وعنه. وعدد مهم من هذه النصوص جمعت من مجلات في المهجر. أما الجزء الثالث من الكتاب فيضم مجموعة من نحو 100 صورة ووثيقة جديدة عن جبران تصدر للمرة الأُولى، منها طبعات كتبه العربية الأُولى، وبطاقة أميركية رسمية تثبت أنه لم يطلب الجنسية الأميركية، وصور فوتوغرافية وثائقية غير معروفة.
ومن خلال النصوص المنشورة عن جبران التي جمعت في القسم الثاني، نعرف أن جثمان جبران وصل إلى مرفأ بيروت، صباح الجمعة 21 أغسطس (آب) من عام 1931، مغطى بعلم لبنان، وكان في استقباله وفد رسمي. وعند وصول النعش أرض الميناء، «تقدم وزير المعارف جبران تويني وعلق على صدر الشاعر وسام الفنون الجميلة الذي منحته إياه الحكومة بمرسوم خاص بعد وفاته، ثم تهيأ ليدخل عاصمة بلاده». ومن المرفأ نقل الجثمان إلى الكاتدرائية المارونية في بيروت، وتلاقت الجموع لاستقبال جبران العائد، في تقدير يصفه الكتاب بأنه «لم يسبق له مثيل». وأقيم له إضافة إلى الاحتفال الديني، احتفال آخر في «التياترو الكبير»، قبل أن ينتقل النعش إلى بشري وسط حشود اجتمعت لوداعه في كل بلدة مر بها.
وكان جبران قد دفن مؤقتاً في بوسطن، قبل أن يتم نقل جثمانه إلى لبنان على متن الباخرة بروفيدنس. تفاصيل التفاصيل في الكتاب، صورة للسفينة، وأخرى لأعضاء لجنة التكريم عند وصول الجثمان، وكذلك صورة من الاحتفال في التياترو الكبير. ومن لطيف ما نقرأه، برنامج كل حفل تأبين أقيم للراحل في بيروت وبشري وأسماء المتحدثين ووفق أي ترتيب.
وبالعودة إلى نص يونغ الذي يستغرق أكثر من 200 صفحة من أصل ما يقارب 600 يتكون منها المؤلف، فهو حقاً عن حياة جبران، وحميمات كثيرة عايشتها يونغ مع كاتبها الذي نظرت إليه كصاحب عبقرية استثنائية. وهي لا تكتب فقط عن الفترة التي عايشته خلالها بل عن طفولته وعائلته، ووطنيته، ومزاجه، وكيف كان يكتب، وعلاقته بالأديان.
ويصف هنري زغيب نص يونغ بأنه عبارة عن «هاجيوغرافيا» لا «بيوغرافيا»، ويقصد بذلك أنها كتبت عن جبران كما يكتب عن القديسين، وأحاطته بهالة من التعظيم والتسامي والرفعة. ويشرح ذلك بالقول إنها «من هيبته أمامها ورهبتها أمامه، رأت فيه متفوقاً أعلى من إنسان عادي ونبوياً أبعد من رجل بشري، فقاربته هاجيوغرافياً».
تحكي يونغ عن صدور «الأرواح المتمردة»، عندما كان جبران لا يزال في مطلع العمر. وتصف الكتاب بأنه كان «أول قبضة حرية» رفعها الشاب في وجه الدولة العثمانية، وكانت النتيجة أنه أحرق في بيروت، وهذا لم يعن له شيئاً، باستثناء «أنه سبب ممتاز ليصار إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب». وغضبت الكنيسة أيضاً، وعاقبت جبران بالحرم الكنسي، وأصدرت الدولة أمراً بنفيه، سقط تلقائياً عام 1908 مع تشكيل حكومة جديدة في تركيا. وتلك لم تكن الحملات الوحيدة التي تعرض لها جبران فقد انفلتت تكراراً حملات قاسية ضده حتى في أميركا، وسئل ذات مرة: «ما الذي أنت محاولاً إنشاءه؟ طقس عبادة جديد؟»، وكانت الإجابة دائماً هي قناعة بوحدة الطريق إلى الإيمان.
أما أول كتاب صدر له بالإنجليزية فكان «المجنون» سنة 1918، وهو في 70 صفحة جزء منه كتبه بالعربية أولاَ قبل أن يترجمه إلى الإنجليزية، وفيه نصوص وقصص، كتبها في مطلع شبابه، لذا فإن روح الشرق هي الغالبة على الكتاب.
ومن بين ما تخبرنا به يونغ، كيف كتب جبران مؤلفه «النبي»، معتبرة أن كتابي «المجنون» و«السابق»، كانا تمهيداً له. تقول يونغ بأن «النبي» يختلف عن سابقاته لأنه لم يبدأه باللغة العربية. «كتبه وهو يذرع محترفه، خطوات ساهمة، متوقفاً أحياناً ليدون على ورقة بيضاء، ثم مواصلاً ذرعه، ومتمشياً ليالي كاملة وسط غابات سنترال بارك في رياح الشمال القاسية، أو صيفاً وسط غابات الشاطئ في منتجع كوهاسيت، محولاً سحر عربية جبران إلى سحر إنجليزيته، ولم يصدر مطبوعاً هذا الكتاب المدهش إلا بعدما خطته يد جبران خمس مرات في خمس سنوات».
وحسبما تشرح الشاعرة، فإن الكتابة بالنسبة لجبران بالإنجليزية مباشرة، كانت أمراً شاقاً، لكنه كان يتغلب على ذلك، بأن يفكر بالعربية ماشياً، ويملي كلماته من دون أن يقطع تفكيره بالجلوس إلى الطاولة.
كتاب «النبي» لم يجد ذاك الصدى الكبير عند صدوره، بل أخذ ينتشر تدريجياً، وبفعل الترويج والجهد المستمرين. ومما ترويه يونغ أيضاً أن مقاطع من الكتاب كانت تقرأ في كنيسة القديس مرقص (الباوري، أسفل مانهاتن) وهي إحدى أقدم الكنائس في المدينة، وكان ذلك يتم في طقس شبه ديني. وفي هذه الكنيسة تحديداً كانت أول قراءة علنية أو جهورية من الكتاب بعيد صدوره. وهناك وعلى صوت موسيقى الأرغن كانت تقام قراءات طقسية مسائية، لما أطلق عليه «أناشيد خليل، شاعرٌ، نبي من لبنان». وهي احتفالات كان ينظمها الدكتور وليم نورمان غثري، الذي تشكل لديه إيمان راسخ بجبران.
ويونغ كشاعرة لا ترى أي وجه شبه بين جبران ووليم بلايك، باستثناء أنهما شاعران ورسامان صوفيان. رغم أن رودان كان قد قال «إن جبران هو وليم بلايك القرن العشرين».
كذلك تتحدث يونغ طويلاً في كتابها، عن جبران الرسام، عن لوحاته، وتتلمذه في باريس، وكواليس رسمه لبعض اللوحات، منها لوحة «الأعمى» التي أراد من خلالها أن يقول بأن الناس في العالم يعانون من فقر مادي وروحي، وما يعنيه هو عميان القلوب والعقول. كانت رغبته «أن يبدع بالكلمات والصور معاً، معنى الجمال، والحقيقة، وجوهر الحياة». وكي يعيش حياة فنية كاملة، حين انتقل من بوسطن إلى نيويورك، اتخذ لها محترفاً في شارع مخصص بأكمله لسكنى وعمل الرسامين والنحاتين.
نادراً ما نقرأ عن علاقة جبران باللغة العربية، وهو ما خصصت له يونغ صفحات حملت عنوان «سحر اللغة العربية» التي لم ينقطع عن الكتابة بها منذ وضع كتابه الأول بالعربية «الموسيقى» حتى وفاته، لكنه أيضاً لم ينقطع عن القراءة بها. «ظل جبران حتى آخر حياته يكتب بلغته الأم الغالية على قلبه ومشاعره. ومع مرور الأشهر كان يحب أن يقرأ بها جهورياً ويلتذ بسماع رنة كلماتها». ومما كان يحلو له فعله أن يقرأ في الكتاب المقدس بالعربية، ويترجم بعض آياته ليقارنها بالترجمة الإنجليزية المتوفرة. وتضيف: «ومما آسف له بكل ندم، أنني لم أدون لحظتئذ ترجمته تلك الآيات من العربية إلى إنجليزية مصقولة، وأحياناً بارعة، كم كنت أود حفظها». فهو بحسب ما تشرح كان يرى أن الترجمة الإنجليزية المتوفرة «تبتعد عن المعاني الأساسية التي كانت ماثلة في باله وهو يؤلف (يسوع ابن الإنسان)».
كتاب غاية في الأهمية، وهدية استثنائية لجبران ومحبيه بعد عشرة عقود على رحيله.



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».