طرابلس القديمة... التاريخ يعانق الجغرافيا على حافة البحر

فيما يبدو كأنه سوار يلتف حول عنقها تغفو منذ مئات السنين المدينة القديمة بالعاصمة الليبية طرابلس، لكن هذه المدينة التي تقبع بكل هدوء ودعة على أحد أطراف البحر الأبيض المتوسط لا بد لها أن تستيقظ كل صباح على أصوات اعتلاج الأمواج، الممزوجة بحركة العمل في الميناء، وتجار الذهب والدولار، إضافة لنشاط الزائرين من خارج العاصمة، التي حاصرتها الحرب لأكثر 13 شهراً.
وأنت تتجول بين المباني الأثرية التي يعود تاريخ إنشاء بعضها إلى القرن السابع قبل الميلاد، على أيدي الفينيقيين، حتماً ستستنشق عبق التاريخ، كما لن تغفل عينك عن رصد عدة ظواهر من أهمها كرم التسامح والطيبة التي عرف بها سكان هذه المدينة، ولربما تتدافع الأسئلة إلى ذهنك عن مستوى تأثير التاريخ والجغرافيا في تشكيل شخصية هؤلاء الناس.
ومن داخل ما يشبه السوار المرتفع المحاط بالمقاهي والمحال تقف المدينة مزهوة بما تحتويه من مبان تراثية شاهدة على حقبة الحضارة الرومانية واليونانية، إضافة لفترتي الاحتلال العثماني والإيطالي للبلاد، وبجانب مقرات القنصليات الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والأميركية التي لا تزال باقية على حالها، في حين تسارع الدولة منذ نهاية العام الماضي لإعادة ترميم ما تهدم من هذا التراث المعماري.
رائف، وهو أحد سكان المدينة، (50 عاماً) الذي امتهن تجارة تبادل العملات في سوق المشير لتجارة «العملة الصعبة»، يقول «أعيش هنا مع أسرتي من سنوات طويلة، فقد رحل أبي وترك لنا منزلاً كبيراً على أطراف المدينة».
ويضيف رائف، الذي يعتز بكون أمه من مدينة الإسكندرية المصرية، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، «لدي متجر صغير بالمدينة القديمة، وآتي يومياً لسوق المشير لشراء وبيع الدولار، هذا هو عملي اليومي، ومنه أطعم أسرتي وأتربح أيضاً».
وإذا كانت «سوق المشير» لتجارة العملة الصعبة، هي الأكثر رواجاً وإقبالاً من المواطنين الباحثين عن الدولار، فإن هناك أسواقاً أصبحت أثراً بعد عين، وأخرى تصارع من أجل البقاء، منها سوق الرباع القديم، واللفة، والكتب، والرقريق، والحرير، والصاغة، والعطارة. غير أن ما يميز المدينة، التي كان لسورها القديم ثمانية أبواب، أنها تضم معالم سياحية أثرية، لعل من أشهرها السراي الحمراء أو «قلعة طرابلس»، وبرج الساعة، وقوس ماركوس أوريليوس، بالإضافة إلى حوش القرة مانلي وزنقة الفرنسيس وفندق زميط، وغيرها.
كما تطل السرايا الحمراء، التي كان بعض أجزائها مطلياً باللون الأحمر، على شارعي عمر المختار والفتح، وميدان الشهداء أو (الساحة الخضراء)، حيث يؤكد الباحثون أن هذه السرايا البالغ مساحتها قرابة 1300 متر مربع، لعبت دوراً كبيراً في حماية المدينة من الهجمات البحرية والبرية، لكنها لم تسلم من التغيرات التي تتزامن مع مراحل تغير السلطة التي مرت على ليبيا من إنشائها.
هذا ويرجح الباحثون أنها ربما شيدت على أحد المعابد الرومانية، معللين ذلك بعد العثور أسفلها على بعض الأعمدة الرخامية الضخمة التي تعود إلى القرن الأول أو الثاني الميلاديين.
ومن الجدير بالذكر أن قوس ماركوس أوريليوس لا يقل أهمية عن السرايا الحمراء، فهو القوس الذي شيد تخليداً لذكرى الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، الذي حكم عام 161.
يعد هذا القوس المُشيد عام 163 الواقع في حي باب البحر، شمال المدينة القديمة، مقابل شارع الفرنسيس بجوار جامع قرجي القديم عنصر جذب السائحين القادمين إلى ليبيا، لكنه الآن يقف وحيداً شاهداً على ما آلت إليه البلاد، وما عاشته العاصمة من اشتباكات وحروب على مدار عشرة أعوام؛ كما تحتوي المدينة آثاراً تاريخية، فهي تضم أيضاً عشرات الجوامع العتيقة، منها جامع درغوت، والناقة، وقرجي وأحمد باشا القرملي. كما أنه لا يزال يتمتع بقدر كبير من الأهمية لسكان المدينة الذين يحفظون في ذاكرتهم ملامح المدينة القديمة، قبل أن تطالها يد الإهمال والتغيير، من بين ذلك الأبواب الثمانية التي كانت تخترق السور المحيط بها ومنها الباب الواقع جنوب المدينة، وعرف بعد ذلك بأسماء عديدة منها باب الحرية، والعرب والنصر، لكنه اندثر تماماً.
إضافة إلى أبواب زناتة، والجديد، والبحر، والخندق، والمنشية، والأخير يفصل «سوق المشير» عن ميدان الشهداء، بالإضافة لباب الأخضر والعدالة، الذي عرف أيضاً بـ«باب الغدر» وكان يقع قبالة زنقة الدباغ.
وعلى مدار الحقب المتتالية طرأت على المدينة العتيقة بعض التغيرات، فتحولت بعض مقرات البنوك الإيطالية إلى مقرات للمصارف المحلية، وأطلقت العديد من المبادرات بقصد المسارعة في إنقاذ المدينة، لكن رئيس لجنة إدارة جهاز المدينة القديمة في طرابلس محمود النعاس، أوضح أن هناك عملية ترميم منذ نهاية العام الماضي، تهدف للمحافظة على المدينة وتاريخها، وذهب في تصريح سابق إلى أن «هذا التراث المعماري يعد واجهة لليبيا ويعبر عما في تاريخها من تجانس وتنوع وأصالة».