إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

يتولى السلطة في جيبوتي منذ 22 سنة... ويبدأ ولاية خامسة «أخيرة»

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب
TT

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

وسط محيط إقليمي مضطرب للغاية، يقف رئيس جيبوتي إسماعيل عمر غيلة، مستعرضاً إنجازه الأبرز المتمثل بخلق حالة استقرار في بلاده، تبدو غريبة إذا ما قورنت بجواره المشتعل في القرن الأفريقي.
فعلى مدار 22 سنة أمضاها في السلطة، نجح غيلة في بسط سيطرته على هذا البلد الساحلي الصغير بـ«قبضة من حديد»، مستغلاً موقعه الاستراتيجي على حدود أفريقيا الشرقية وشبه الجزيرة العربية، وعلاقاته المتشعبة والمتنوعة، لكسب دعم دولي واسع، ساعده في الفوز بولاية رئاسية جديدة وأخيرة تمتد حتى عام 2026. فلقد أعيد انتخاب غيلة (73 سنة)، مطلع أبريل (نيسان) الماضي، رئيساً لجيبوتي لولاية خامسة، بعد حصوله على 97.44 في المائة من الأصوات، محققاً أعلى نسبة تأييد منذ دخوله المعترك الرئاسي عام 1999. عندما تولى المنصب، ثاني رئيس للبلاد، خلفاً لسلفه حسن غوليد أبتيدون، أول رئيس بعد إنهاء الاحتلال الفرنسي.
ووفق مراقبين، فإن دور غيلة مهم في رفع مكانة جيبوتي في منطقة القرن الأفريقي، ووجود تأييد دولي يريد الحفاظ على استقرارها، لما لها من موقع استراتيجي مهم؛ أسهم بجانب ضعف المعارضة الداخلية في استمراره بالحكم طوال تلك المدة، حتى غدا أحد أطول الحكام حكماً في القارة الأفريقية. ومعلومٌ أن جيبوتي، التي يجاورها أكثر بؤر العالم اشتعالاً، بينها اليمن والصومال، تستضيف قواعد عسكرية أجنبية للولايات المتحدة وفرنسا واليابان، وأخيراً الصين.

يتميز الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيلة بخلفية تنوع ثقافي واسع، إذ ولد يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 في ديره داوا، إحدى كبرى مدن إثيوبيا؛ حيث كان والده يعمل في شركة السكك الحديدية الفرنسية - الإثيوبية (CFE)، وهي الشركة التي بنت خطاً يربط بين جيبوتي وأديس أبابا، وكان مكتبها الرئيس في ديره داوا.
ومن ثم، تلقى غيلة تعليمه في المعهد الديني في إثيوبيا، وعام 1960 انتقل إلى جيبوتي قبل أن ينهي دراسته الثانوية. بعدها، في عام 1964 بدأ العمل في دائرة الإعلام العام لإقليم العفر والعيسى الفرنسي، كونه يتكلّم اللغات الأمهرية والصومالية والعربية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، قبل أن يلتحق بالشرطة الفرنسية حيث وصل إلى رتبة مفتش.
ومع اتساع أفقه السياسي، ترك غيلة الشرطة الفرنسية، وانخرط في حزب «الرابطة الشعبية الأفريقية من أجل الاستقلال» (LPAI) برئاسة قريبه حسن غوليد أبتيدون، الذي يناضل من أجل الاستقلال. وبعد استقلال جيبوتي، أصبح رئيساً للشرطة السرية ورئيساً لمجلس الوزراء في حكومة غوليد.
وفي أعقاب اندماج «حركة استقلال الشعب الأفريقي» مع أحزاب أخرى، ولد حزب «التجمع الشعبي للتقدم» عام 1979. وخلال العام 1983 انتخب للجنة المركزية للحزب وترأس اللجنة الثقافية للحزب في باريس، وعام 1996 انتخب للمرة الثالثة نائباً لرئيس الحزب. وما يُذكر هنا، أنه مُنح «وسام بادما فيبهوشان»، ثاني أعلى جائزة مدنية في الهند في 25 يناير (كانون الثاني) 2019 لدوره في الإجلاء الآمن للمواطنين الهنود من اليمن.

- رئاسة جيبوتي
في 4 فبراير (شباط) 1999، أعلن الرئيس غوليد أبتيدون، الذي حكم جيبوتي منذ استقلالها عام 1977، إحجامه عن خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، واختار المؤتمر الاستثنائي لحزبه «التجمع الشعبي من أجل التقدم» الحاكم، غيلة مرشحاً رئاسياً بديلاً، بصفته المرشح المشترك عن «حزب العمال التقدمي» والجناح المعتدل لـ«جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية» (FRUD). وبالفعل، فاز غيلة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 9 أبريل من العام نفسه جامعاً أكثر من 70 في المائة من الأصوات، ومتغلباً على منافسه الوحيد، المرشح المستقل موسى إدريس.
بعدها كان المرشح الوحيد في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 8 أبريل 2005، وفاز بنسبة 100 في المائة من الأصوات المدلى بها وأدى اليمين لولاية ثانية مدتها 6 سنوات، قال إنها ستكون الأخيرة له. إلا أنه مع ذلك، في عام 2010، أقنع غيلة الجمعية الوطنية في جيبوتي بتعديل دستور البلاد، ما يسمح له بالترشح أكثر من مرتين. وقوبلت هذه الخطوة باحتجاجات كبيرة عام 2010 على غرار «الربيع العربي»، ولكن أمكن إخمادها بسرعة. ولاحقاً، بعد التعديل قاطعت أحزاب المعارضة انتخابات 2011. ولم يتبق سوى مرشح واحد غير معروف ضد غيلة في الاقتراع، ما سمح له بالفوز بولاية ثالثة بما يقرب من 80 في المائة من الأصوات.
كذلك، عام 2016، كان غيلة الفائز أيضاً في الانتخابات الرئاسية حاصلاً على نحو 87 في المائة من الأصوات الشعبية، قبل أن يعاد انتخابه لولاية خامسة، العام الحالي.
وبموجب الدستور، الذي لا يسمح لمن تجاوز الخامسة والسبعين من العمر الترشح للانتخابات، يُفترض أن يكون هذا الاقتراع الأخير للرئيس غيلة الذي سيكون قد تجاوز هذا السن بحلول العام 2026.
ولكن، في أي حال، تقول منظمات حقوقية إن الولايات الأربع الأولى للرئيس غيلة لم يفسح فيها أي مجال للاحتجاج أو حرية الصحافة. إلا أنها في المقابل، تميّزت بتحسن الاقتصاد مع تطوير الموانئ والبنى اللوجستية. ثم إن غيلة ساهم في جعل هذه المنطقة شبه الصحراوية، مفترق طرق تجارياً يمرّ من خلاله معظم البضائع المستوردة من قبل «الجارة» الكبيرة إثيوبيا التي لا تملك أي منفذ على البحر. وهذا، بينما تقع جيبوتي على أحد أكثر طرق التجارة ازدحاماً في العالم، وهو خليج عدن، مما يعطيها موقعاً استراتيجياً.

- انتخابات أخيرة محسومة
كما سبقت الإشارة، لم يواجه الرئيس إسماعيل غيلة خلال انتخابات 2021 سوى منافس واحد فقط، هو الوافد الجديد نسبياً رجل الأعمال زكريا إسماعيل فرح (56 سنة). وهذا المنافس رجل أعمال ضعيف الشعبية بدأ العمل السياسي متأخراً، في ظل مقاطعة معظم قوى المعارضة، على رأسها «تحالف الإنقاذ الوطني» (USN)، و«التجمع من أجل العمل والديمقراطية والتنمية البيئية» (RADDE). إذ أعلنت هذه القوى في فبراير الماضي أنها لن تقدّم مرشحاً للانتخابات الرئاسية، مدعية أن العملية الانتخابات لا تلبِّي الشروط والمعايير التي تريدها المعارضة. لكنها مع ذلك لم تَدْعُ الشعب إلى مقاطعة التصويت.
البيانات الانتخابية الرسمية بيّنت حصول فرح على نسبة 2.48 في المائة فقط من أصوات 215 ألف ناخب جيبوتي صوتوا في الانتخابات. هنا نشير إلى أن تعداد سكان جيبوتي يبلغ 900 ألف نسمة. وأجريت العملية الانتخابية تحت رقابة عدد من البعثات الدولية؛ بينها بعثات للاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيجاد)، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي.
وفي حين رحّب غيلة بهذه النتيجة، وألقى خطاب شكر للشعب على تجديد الثقة له، شكّك فرح في صدقية النتائج، ووصف الانتخابات بـ«غير الحقيقية»، مدّعياً أن «مندوبيه لم يكونوا حاضرين في مراكز الاقتراع».
فوز غيلة قوبل بترحيب إقليمي دولي، إذ تلقى برقيات التهنئة من قادة الدول المجاورة، رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ورئيس الصومال محمد عبد الله فرماجو، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بجانب عدد من الرؤساء والملوك العرب، بينهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل المغربي الملك محمد السادس، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. كذلك أعربت الولايات المتحدة عن تطلعها إلى العمل مع حكومة الرئيس غيلة وشعب جيبوتي لتعزيز مصالحهما المشتركة بعد الانتخابات الرئاسية، وتقديرها لعمل بعثات مراقبة الانتخابات.
سياسياً، ثمة مجموعة من العوامل سهَّلت فوز الرئيس غيلة بالانتخابات، تتمثل وفق الباحث في الشؤون الأفريقية، محمد الجزّار، في الدعم القوي من تحالف «الاتحاد من أجل الغالبية الرئاسية»، إذ إنه ما يزال محافظاً على وحدته حتى الآن منذ تأسيسه، وتولّى اختيار الرئيس ليكون مرشحاً له في الانتخابات. وهذا إضافة إلى مقاطعة المعارضة للانتخابات، وانقسامها، وتبنّيها استراتيجيات غير فاعلة.
على صعيد متصل، فإن العامل الأهم، هو حالة الاستقرار السياسي التي تعيشها جيبوتي في ظل محيط إقليمي مضطرب، ذلك أن دول جوار جيبوتي تشهد صراعات وحروباً داخلية. فلو نظرنا إلى إثيوبيا نجد أنها تشهد أزمات داخلية وصراعات إثنية في إقليم التيغراي وإقليم بني شنقول، وأزمات خارجية تتمثل في أزمة «سد النهضة» مع مصر والسودان، والحرب على الحدود مع السودان. وبينما تواجه الصومال أزمة انتخابات رئاسية، ونشاطات الجماعات الإرهابية، تعيش إريتريا في أزمات اقتصادية، وتوترات بسبب الحرب في إقليم التيغراي الإثيوبي. ثم على الساحل الآخر من البحر الأحمر، نجد الأزمة اليمنية أنهكت البلاد وما زالت مستمرة حتى الآن.
فضلاً عن كل ذلك، فإن غيلة يحظى بتأييد دولي يريد الحفاظ على استقرار جيبوتي، لما لها من موقع استراتيجي مهم. إذ يهم القوى الدولية استقرار البلاد لضمان حماية مضيق باب المندب وخليج عدن، الذي يمر عبره 40 في المائة من الحركة البحرية العالمية، بما في ذلك 6.2 مليون برميل من النفط الخام يومياً، والحفاظ على حركة التجارة العالمية وحمايتها من القراصنة من خلال القواعد العسكرية الموجودة في جيبوتي.
ثم إن جيبوتي تبنَّت «نموذج التنمية بالعسكرة» من خلال استضافة قواعد عسكرية أجنبية توفّر لها موارد مالية تساعدها على تنفيذ المشروعات التي تطمح إليها في ظل ندرة الموارد الاقتصادية الكبير. إذ تعد إيرادات هذه القواعد العسكرية جنباً إلى جنب مع إيرادات ميناء جيبوتي هي المصادر الرئيسة للدخل، وبالتالي، تنظر القوى الدولية إلى استمرارية الرئيس غيلة على أنها إحدى طرق ضمان الاستقرار في المنطقة.

- رؤية منفتحة
من ناحية أخرى، يتمتع الرئيس غيلة برؤية منفتحة على العالم، معتمداً على سياسة فتح مجال التعاون العربي والأفريقي والدولي على الصعيد الاقتصادي والأمني والعسكري. ويقول الرئيس الجيبوتي إن بلاده لا تخشى من تنافس عسكري بين الدول الكبرى فوق الأراضي الجيبوتية، لأن وجودها موجه في المقام الأول لمكافحة الإرهاب وضد القرصنة البحرية ولحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم.
أيضاً يعتبر غيلة الصراعات الدائرة من حوله في الصومال واليمن والقرصنة البحرية والإرهاب من التحديات الرئيسة التي تعاني منها منطقة القرن الأفريقي على الصعيدين الأمني والتنموي. وكان في حوار سابق مع «الشرق الأوسط» قد قال إن جيبوتي «تضطلع بدور طليعي في الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، لينعكس ذلك إيجاباً على التكامل والتضامن الاقتصادي وتعزيز فرص العيش الكريم لشعوبها».
وهو يرى أن الوجود العسكري للدول الكبرى في جيبوتي هو «مصالح مشتركة... فهو ليس استقطاباً أو تنافساً بين هذه الدول على مصالح اقتصادية واستراتيجية في المنطقة، بل هو موجه في المقام الأول لمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية وحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم من العالم». وعليه، فإنه يسعى إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار والتنمية في بلاده على وجه الخصوص وفي المنطقة على وجه العموم.
وبالفعل، نجح غيلة في رفع مكانة جيبوتي من خلال سعيه لجعلها دولة محورية في منطقة القرن الأفريقي. ويتضح هذا من تدخل جيبوتي لتسوية الأزمة الأخيرة بين كينيا والصومال، واستضافة المباحثات بين الصومال وأرض الصومال، ومحاولة تسوية الأزمة الحدودية بين إثيوبيا والسودان.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد استطاع غيلة قيادة جيبوتي لتحقيق نجاح لافت على المستوى الاقتصادي. إذ نما الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي 7 مرات، ليصل إلى ما يقرب من 3.3 مليار دولار عام 2020. كما أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في جيبوتي يبلغ نحو 3500 دولار، وهو معدل أعلى من معدلات معظم دول أفريقيا، جنوب الصحراء، وفقاً لتقارير البنك الدولي. وفضلاً عن ذلك، أُطلقت مجموعة من المشروعات في البلاد بتمويل أجنبي، وخاصة من الصين، بينها بناء خط سكة حديدية يربط جيبوتي بأديس أبابا دشّن عام 2017. كما أطلقت البلاد المرحلة الأولى من مشروع أكبر منطقة تجارة حرة في أفريقيا.
وأخيراً، على الصعيد الأمني، نجح في الحفاظ على أمن البلاد ووقايتها من خطر انتشار الحركات والتيارات الإرهابية المنتشرة في المنطقة، خاصة الصومال.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.