إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

يتولى السلطة في جيبوتي منذ 22 سنة... ويبدأ ولاية خامسة «أخيرة»

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب
TT

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

وسط محيط إقليمي مضطرب للغاية، يقف رئيس جيبوتي إسماعيل عمر غيلة، مستعرضاً إنجازه الأبرز المتمثل بخلق حالة استقرار في بلاده، تبدو غريبة إذا ما قورنت بجواره المشتعل في القرن الأفريقي.
فعلى مدار 22 سنة أمضاها في السلطة، نجح غيلة في بسط سيطرته على هذا البلد الساحلي الصغير بـ«قبضة من حديد»، مستغلاً موقعه الاستراتيجي على حدود أفريقيا الشرقية وشبه الجزيرة العربية، وعلاقاته المتشعبة والمتنوعة، لكسب دعم دولي واسع، ساعده في الفوز بولاية رئاسية جديدة وأخيرة تمتد حتى عام 2026. فلقد أعيد انتخاب غيلة (73 سنة)، مطلع أبريل (نيسان) الماضي، رئيساً لجيبوتي لولاية خامسة، بعد حصوله على 97.44 في المائة من الأصوات، محققاً أعلى نسبة تأييد منذ دخوله المعترك الرئاسي عام 1999. عندما تولى المنصب، ثاني رئيس للبلاد، خلفاً لسلفه حسن غوليد أبتيدون، أول رئيس بعد إنهاء الاحتلال الفرنسي.
ووفق مراقبين، فإن دور غيلة مهم في رفع مكانة جيبوتي في منطقة القرن الأفريقي، ووجود تأييد دولي يريد الحفاظ على استقرارها، لما لها من موقع استراتيجي مهم؛ أسهم بجانب ضعف المعارضة الداخلية في استمراره بالحكم طوال تلك المدة، حتى غدا أحد أطول الحكام حكماً في القارة الأفريقية. ومعلومٌ أن جيبوتي، التي يجاورها أكثر بؤر العالم اشتعالاً، بينها اليمن والصومال، تستضيف قواعد عسكرية أجنبية للولايات المتحدة وفرنسا واليابان، وأخيراً الصين.

يتميز الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيلة بخلفية تنوع ثقافي واسع، إذ ولد يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 في ديره داوا، إحدى كبرى مدن إثيوبيا؛ حيث كان والده يعمل في شركة السكك الحديدية الفرنسية - الإثيوبية (CFE)، وهي الشركة التي بنت خطاً يربط بين جيبوتي وأديس أبابا، وكان مكتبها الرئيس في ديره داوا.
ومن ثم، تلقى غيلة تعليمه في المعهد الديني في إثيوبيا، وعام 1960 انتقل إلى جيبوتي قبل أن ينهي دراسته الثانوية. بعدها، في عام 1964 بدأ العمل في دائرة الإعلام العام لإقليم العفر والعيسى الفرنسي، كونه يتكلّم اللغات الأمهرية والصومالية والعربية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، قبل أن يلتحق بالشرطة الفرنسية حيث وصل إلى رتبة مفتش.
ومع اتساع أفقه السياسي، ترك غيلة الشرطة الفرنسية، وانخرط في حزب «الرابطة الشعبية الأفريقية من أجل الاستقلال» (LPAI) برئاسة قريبه حسن غوليد أبتيدون، الذي يناضل من أجل الاستقلال. وبعد استقلال جيبوتي، أصبح رئيساً للشرطة السرية ورئيساً لمجلس الوزراء في حكومة غوليد.
وفي أعقاب اندماج «حركة استقلال الشعب الأفريقي» مع أحزاب أخرى، ولد حزب «التجمع الشعبي للتقدم» عام 1979. وخلال العام 1983 انتخب للجنة المركزية للحزب وترأس اللجنة الثقافية للحزب في باريس، وعام 1996 انتخب للمرة الثالثة نائباً لرئيس الحزب. وما يُذكر هنا، أنه مُنح «وسام بادما فيبهوشان»، ثاني أعلى جائزة مدنية في الهند في 25 يناير (كانون الثاني) 2019 لدوره في الإجلاء الآمن للمواطنين الهنود من اليمن.

- رئاسة جيبوتي
في 4 فبراير (شباط) 1999، أعلن الرئيس غوليد أبتيدون، الذي حكم جيبوتي منذ استقلالها عام 1977، إحجامه عن خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، واختار المؤتمر الاستثنائي لحزبه «التجمع الشعبي من أجل التقدم» الحاكم، غيلة مرشحاً رئاسياً بديلاً، بصفته المرشح المشترك عن «حزب العمال التقدمي» والجناح المعتدل لـ«جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية» (FRUD). وبالفعل، فاز غيلة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 9 أبريل من العام نفسه جامعاً أكثر من 70 في المائة من الأصوات، ومتغلباً على منافسه الوحيد، المرشح المستقل موسى إدريس.
بعدها كان المرشح الوحيد في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 8 أبريل 2005، وفاز بنسبة 100 في المائة من الأصوات المدلى بها وأدى اليمين لولاية ثانية مدتها 6 سنوات، قال إنها ستكون الأخيرة له. إلا أنه مع ذلك، في عام 2010، أقنع غيلة الجمعية الوطنية في جيبوتي بتعديل دستور البلاد، ما يسمح له بالترشح أكثر من مرتين. وقوبلت هذه الخطوة باحتجاجات كبيرة عام 2010 على غرار «الربيع العربي»، ولكن أمكن إخمادها بسرعة. ولاحقاً، بعد التعديل قاطعت أحزاب المعارضة انتخابات 2011. ولم يتبق سوى مرشح واحد غير معروف ضد غيلة في الاقتراع، ما سمح له بالفوز بولاية ثالثة بما يقرب من 80 في المائة من الأصوات.
كذلك، عام 2016، كان غيلة الفائز أيضاً في الانتخابات الرئاسية حاصلاً على نحو 87 في المائة من الأصوات الشعبية، قبل أن يعاد انتخابه لولاية خامسة، العام الحالي.
وبموجب الدستور، الذي لا يسمح لمن تجاوز الخامسة والسبعين من العمر الترشح للانتخابات، يُفترض أن يكون هذا الاقتراع الأخير للرئيس غيلة الذي سيكون قد تجاوز هذا السن بحلول العام 2026.
ولكن، في أي حال، تقول منظمات حقوقية إن الولايات الأربع الأولى للرئيس غيلة لم يفسح فيها أي مجال للاحتجاج أو حرية الصحافة. إلا أنها في المقابل، تميّزت بتحسن الاقتصاد مع تطوير الموانئ والبنى اللوجستية. ثم إن غيلة ساهم في جعل هذه المنطقة شبه الصحراوية، مفترق طرق تجارياً يمرّ من خلاله معظم البضائع المستوردة من قبل «الجارة» الكبيرة إثيوبيا التي لا تملك أي منفذ على البحر. وهذا، بينما تقع جيبوتي على أحد أكثر طرق التجارة ازدحاماً في العالم، وهو خليج عدن، مما يعطيها موقعاً استراتيجياً.

- انتخابات أخيرة محسومة
كما سبقت الإشارة، لم يواجه الرئيس إسماعيل غيلة خلال انتخابات 2021 سوى منافس واحد فقط، هو الوافد الجديد نسبياً رجل الأعمال زكريا إسماعيل فرح (56 سنة). وهذا المنافس رجل أعمال ضعيف الشعبية بدأ العمل السياسي متأخراً، في ظل مقاطعة معظم قوى المعارضة، على رأسها «تحالف الإنقاذ الوطني» (USN)، و«التجمع من أجل العمل والديمقراطية والتنمية البيئية» (RADDE). إذ أعلنت هذه القوى في فبراير الماضي أنها لن تقدّم مرشحاً للانتخابات الرئاسية، مدعية أن العملية الانتخابات لا تلبِّي الشروط والمعايير التي تريدها المعارضة. لكنها مع ذلك لم تَدْعُ الشعب إلى مقاطعة التصويت.
البيانات الانتخابية الرسمية بيّنت حصول فرح على نسبة 2.48 في المائة فقط من أصوات 215 ألف ناخب جيبوتي صوتوا في الانتخابات. هنا نشير إلى أن تعداد سكان جيبوتي يبلغ 900 ألف نسمة. وأجريت العملية الانتخابية تحت رقابة عدد من البعثات الدولية؛ بينها بعثات للاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيجاد)، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي.
وفي حين رحّب غيلة بهذه النتيجة، وألقى خطاب شكر للشعب على تجديد الثقة له، شكّك فرح في صدقية النتائج، ووصف الانتخابات بـ«غير الحقيقية»، مدّعياً أن «مندوبيه لم يكونوا حاضرين في مراكز الاقتراع».
فوز غيلة قوبل بترحيب إقليمي دولي، إذ تلقى برقيات التهنئة من قادة الدول المجاورة، رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ورئيس الصومال محمد عبد الله فرماجو، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بجانب عدد من الرؤساء والملوك العرب، بينهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل المغربي الملك محمد السادس، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. كذلك أعربت الولايات المتحدة عن تطلعها إلى العمل مع حكومة الرئيس غيلة وشعب جيبوتي لتعزيز مصالحهما المشتركة بعد الانتخابات الرئاسية، وتقديرها لعمل بعثات مراقبة الانتخابات.
سياسياً، ثمة مجموعة من العوامل سهَّلت فوز الرئيس غيلة بالانتخابات، تتمثل وفق الباحث في الشؤون الأفريقية، محمد الجزّار، في الدعم القوي من تحالف «الاتحاد من أجل الغالبية الرئاسية»، إذ إنه ما يزال محافظاً على وحدته حتى الآن منذ تأسيسه، وتولّى اختيار الرئيس ليكون مرشحاً له في الانتخابات. وهذا إضافة إلى مقاطعة المعارضة للانتخابات، وانقسامها، وتبنّيها استراتيجيات غير فاعلة.
على صعيد متصل، فإن العامل الأهم، هو حالة الاستقرار السياسي التي تعيشها جيبوتي في ظل محيط إقليمي مضطرب، ذلك أن دول جوار جيبوتي تشهد صراعات وحروباً داخلية. فلو نظرنا إلى إثيوبيا نجد أنها تشهد أزمات داخلية وصراعات إثنية في إقليم التيغراي وإقليم بني شنقول، وأزمات خارجية تتمثل في أزمة «سد النهضة» مع مصر والسودان، والحرب على الحدود مع السودان. وبينما تواجه الصومال أزمة انتخابات رئاسية، ونشاطات الجماعات الإرهابية، تعيش إريتريا في أزمات اقتصادية، وتوترات بسبب الحرب في إقليم التيغراي الإثيوبي. ثم على الساحل الآخر من البحر الأحمر، نجد الأزمة اليمنية أنهكت البلاد وما زالت مستمرة حتى الآن.
فضلاً عن كل ذلك، فإن غيلة يحظى بتأييد دولي يريد الحفاظ على استقرار جيبوتي، لما لها من موقع استراتيجي مهم. إذ يهم القوى الدولية استقرار البلاد لضمان حماية مضيق باب المندب وخليج عدن، الذي يمر عبره 40 في المائة من الحركة البحرية العالمية، بما في ذلك 6.2 مليون برميل من النفط الخام يومياً، والحفاظ على حركة التجارة العالمية وحمايتها من القراصنة من خلال القواعد العسكرية الموجودة في جيبوتي.
ثم إن جيبوتي تبنَّت «نموذج التنمية بالعسكرة» من خلال استضافة قواعد عسكرية أجنبية توفّر لها موارد مالية تساعدها على تنفيذ المشروعات التي تطمح إليها في ظل ندرة الموارد الاقتصادية الكبير. إذ تعد إيرادات هذه القواعد العسكرية جنباً إلى جنب مع إيرادات ميناء جيبوتي هي المصادر الرئيسة للدخل، وبالتالي، تنظر القوى الدولية إلى استمرارية الرئيس غيلة على أنها إحدى طرق ضمان الاستقرار في المنطقة.

- رؤية منفتحة
من ناحية أخرى، يتمتع الرئيس غيلة برؤية منفتحة على العالم، معتمداً على سياسة فتح مجال التعاون العربي والأفريقي والدولي على الصعيد الاقتصادي والأمني والعسكري. ويقول الرئيس الجيبوتي إن بلاده لا تخشى من تنافس عسكري بين الدول الكبرى فوق الأراضي الجيبوتية، لأن وجودها موجه في المقام الأول لمكافحة الإرهاب وضد القرصنة البحرية ولحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم.
أيضاً يعتبر غيلة الصراعات الدائرة من حوله في الصومال واليمن والقرصنة البحرية والإرهاب من التحديات الرئيسة التي تعاني منها منطقة القرن الأفريقي على الصعيدين الأمني والتنموي. وكان في حوار سابق مع «الشرق الأوسط» قد قال إن جيبوتي «تضطلع بدور طليعي في الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، لينعكس ذلك إيجاباً على التكامل والتضامن الاقتصادي وتعزيز فرص العيش الكريم لشعوبها».
وهو يرى أن الوجود العسكري للدول الكبرى في جيبوتي هو «مصالح مشتركة... فهو ليس استقطاباً أو تنافساً بين هذه الدول على مصالح اقتصادية واستراتيجية في المنطقة، بل هو موجه في المقام الأول لمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية وحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم من العالم». وعليه، فإنه يسعى إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار والتنمية في بلاده على وجه الخصوص وفي المنطقة على وجه العموم.
وبالفعل، نجح غيلة في رفع مكانة جيبوتي من خلال سعيه لجعلها دولة محورية في منطقة القرن الأفريقي. ويتضح هذا من تدخل جيبوتي لتسوية الأزمة الأخيرة بين كينيا والصومال، واستضافة المباحثات بين الصومال وأرض الصومال، ومحاولة تسوية الأزمة الحدودية بين إثيوبيا والسودان.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد استطاع غيلة قيادة جيبوتي لتحقيق نجاح لافت على المستوى الاقتصادي. إذ نما الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي 7 مرات، ليصل إلى ما يقرب من 3.3 مليار دولار عام 2020. كما أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في جيبوتي يبلغ نحو 3500 دولار، وهو معدل أعلى من معدلات معظم دول أفريقيا، جنوب الصحراء، وفقاً لتقارير البنك الدولي. وفضلاً عن ذلك، أُطلقت مجموعة من المشروعات في البلاد بتمويل أجنبي، وخاصة من الصين، بينها بناء خط سكة حديدية يربط جيبوتي بأديس أبابا دشّن عام 2017. كما أطلقت البلاد المرحلة الأولى من مشروع أكبر منطقة تجارة حرة في أفريقيا.
وأخيراً، على الصعيد الأمني، نجح في الحفاظ على أمن البلاد ووقايتها من خطر انتشار الحركات والتيارات الإرهابية المنتشرة في المنطقة، خاصة الصومال.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.