ما زال مصير مشروع القرار الفرنسي المطروح على أعضاء مجلس الأمن منذ مساء الثلاثاء الماضي «معلقاً» بسبب الرفض الأميركي المبدئي لمبادرة باريس التي أطلقتها بالتعاون والتنسيق مع 3 بلدان عربية، هي مصر والأردن وتونس، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن. وتفضل واشنطن، التي أجهضت 4 محاولات في مجلس الأمن لإصدار بيان، وليس لإصدار قرار، الاتصالات الثنائية مع الطرف الإسرائيلي على البيانات أو القرارات، التي تعتبر أنها ستأتي بـ«نتائج معكوسة». من هنا، فإن السؤال المطروح اليوم في باريس يدور حول معرفة ما إذا كانت فرنسا ستعمد إلى طلب التصويت على مشروعها، في حال تواصل الرفض الأميركي.
وتقول مصادر رسمية فرنسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، أمس، إن باريس «لا تسعى للصدام مع الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن، بل إنها مستمرة في التواصل معها» من أجل تقريب المواقف. وترفض هذه المصادر المقارنة بين الخلاف الجاري حالياً بين العاصمتين، وبين ما حصل في العام 2003 عندما وقفت باريس بوجه واشنطن في مجلس الأمن رافضة مشروع قرار أميركي - بريطاني يوفر للطرفين الأخيرين الغطاء الأممي للحرب في العراق. حينها هددت باريس باستخدام حق النقض لإجهاض المشروع المذكور، الأمر الذي أفضى إلى أزمة حقيقية بين الرئيس جاك شيراك، ونظيره الأميركي جورج بوش الابن. وبعكس ذلك، ترى المصادر الفرنسية أن الوضع الحالي تصح مقارنته بما حصل في حرب لبنان بين إسرائيل و«حزب الله» عام 2006 حيث كانت مواقف الطرفين متناقضة، إلا أنهما توصلا، في نهاية المطاف إلى الاتفاق بشأن القرار 1701 الذي قدمته فرنسا، وصوتت واشنطن لصالحه.
بناء على هذه السابقة، وبالنظر إلى إرهاصات التحول في الموقف الأميركي، لا تستبعد باريس التي لم تعطِ مصادرها أي مؤشر لتاريخ طرح مشروع القرار على التصويت، أن تتوصل الجهود الدبلوماسية المبذولة بين العاصمتين، وفي نيويورك، إلى مقاربة مشتركة. والواضح أن باريس تراهن على التغيرات التي طرأت على مواقف الرئيس جو بايدن، الذي أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي، الأربعاء، أنه ينتظر منه خفضاً للأعمال العدائية تمهيداً للوصول إلى وقف لإطلاق النار. من هنا، فإن ما تسعى إليه فرنسا عبر مشروع قرارها يتطابق تماماً مع ما آلت إليه المطالب الأميركية، بعد أن كانت واشنطن منحت رئيس الوزراء الإسرائيلي مهلة 10 أيام لتحقيق أهدافه العسكرية من الضربات الجوية على القطاع. كذلك، تعتبر المصادر الفرنسية أن الضغوط على إدارة الرئيس بايدن، سواء أكانت من داخل الحزب الديمقراطي، أم الرأي العام الأميركي، لا بد أن تدفع إلى التقارب بين العاصمتين، خصوصاً أن مشروع القرار المذكور متوازن وواضح ومختصر، وينص على وضع حد فوري للعمليات العسكرية والتوصل إلى وقف إلى إطلاق النار «يتم لاحقاً التفاوض بشأنه» وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة المحاصر، وأخيراً الدعوة إلى استئناف مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. لذا، فإن باريس تراهن على التحولات في الموقف الأميركي، ما سيسهل السير بالتصويت على مشروعها.
حقيقة الأمر أن واشنطن تعاني من عزلة كبيرة داخل مجلس الأمن وفي الأمم المتحدة، ما يذكّر بعزلة إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب. بيد أن الفارق بين الاثنين أن الأول كان ينهج سياسة أحادية معادية لكل المنظمات الدولية، بعكس الرئيس بايدن الذي جاء إلى البيت الأبيض حاملاً راية «عودة أميركا» إلى الانخراط في شؤون العالم وتغليب المقاربة الجماعية لحل الأزمات والعودة إلى المنظمات الدولية. والحال أن ما هو حاصل منذ العاشر من الشهر الحالي بيّن العكس تماماً، وضرب مصداقية وعود بايدن، وأظهر أن البيت الأبيض غلّب في مواقفه الاستجابة لما طلبه نتنياهو من مهل زمنية، لتحقيق أهدافه العسكرية والسياسية في غزة، على مقولات حقوق الإنسان والقانون الدولي التي أعلن بايدن في أكثر من مناسبة أنها ستقود سياسته الخارجية. وفي هذا السياق، يمكن النظر للمبادرة الفرنسية على أنها وسيلة دبلوماسية لممارسة الضغوط على الإدارة الأميركية، والرد على ارتهان واشنطن لمجلس الأمن، أي للهيئة الدولية المناط بها إدارة أزمات في العالم، لصالح مآرب سياسية داخلية. وقد أصبح واضحاً اليوم أن الأصوات كافة تدعو لوضع حد لتدمير غزة وتسويتها بالأرض والتسبب بمزيد من الضحايا والأزمات الإنسانية، ولوقف إطلاق التنظيمات الفلسطينية من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والتنظيمات الأقل أهمية صواريخها باتجاه الأراضي الإسرائيلية.
في أي حال، ثمة عملية لي ذراع بين باريس وواشنطن، العاصمتين الحليفتين. وهذا الاشتباك السياسي - الدبلوماسي، ومسرحه مجلس الأمن، هو الأول من نوعه. والثابت، وفق المصادر الفرنسية، أن باريس «لم تكن تريده أو تسعى إليه»، بل على العكس، كانت تفضل عليه التعاون والعمل المشترك لإطفاء أزمة يمكن أن تستمر وتمتد لتتحول إلى نزاع إقليمي. وتعتبر هذه الأوساط أن إحدى أمثولات ما هو جارٍ بين إسرائيل و«حماس» يثبت حقيقة سعى الإسرائيليون وأطراف مختلفة إلى طمسها، وهي أن بقاء النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي على حاله من غير حل سياسي سيبقى دوماً مصدراً للتوترات والحروب، على شاكلة ما هو حاصل حالياً، وبالتالي لا يمكن إزاحته من خريطة النزاعات التي يتعين على الأسرة الدولية أن تتنكب لحلّها.
فرنسا «لا تسعى لصدام مع واشنطن» في مجلس الأمن
باريس تراهن على تحولات الموقف الأميركي للسير بمشروع قرارها
فرنسا «لا تسعى لصدام مع واشنطن» في مجلس الأمن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة