الانهيار الاقتصادي في لبنان لم يستثن ثمن المنقوشة

تضاعف سعرها خمس مرات فتحولت من وجبة الفقراء إلى فطور الميسورين

الانهيار الاقتصادي في لبنان لم يستثن ثمن المنقوشة
TT

الانهيار الاقتصادي في لبنان لم يستثن ثمن المنقوشة

الانهيار الاقتصادي في لبنان لم يستثن ثمن المنقوشة

تعتبر المنقوشة من أشهر فطور يتناوله اللبنانيون من جميع الطبقات. في الماضي كانت المنقوشة بالزعتر تعتبر قوت الفقراء كونها رخيصة الثمن وتسد الجوع لساعات طويلة ولذيذة بمذاق الأعشاب الطازجة والعجين المطهو على حرارة عالية في أفران خاصة، ولكن اليوم وبسبب الانهيار الاقتصادي والعملة اللبنانية لم تعد المنقوشة قوت الفقراء لا بل أصبحت وجبة يحسب لها الحساب لأنها أصبحت غالية الثمن لتواكب فورة أسعار الغذاء بشكل عام في لبنان.
لا يخلو أي شارع في أي منطقة لبنانية من فرن تقليدي يسترزق منه صاحبه من بيع المناقيش بنكهاتها المختلفة مثل الزعتر والجبنة واللبنة والسبانخ وغيرها، ولكن تبقى هناك بعض الأفران التي اشتهرت على مر العقود ولا تزال واقفة في وجه الغلاء والتعب النفسي والإفلاس المادي والمعنوي.
فداخل فرنه الصغير في أحد شوارع منطقة رأس بيروت، يتحسر أبو شادي على «بركة» باتت مفقودة، بعدما تضاعف ثمن المنقوشة خمس مرات على وقع انهيار اقتصادي غير مسبوق.
أمام الفرن، أو «بيت النار» كما يسميه، يهندس أبو شادي (54 عاماً) مناقيش الزعتر والجبنة، ويتفنّن في نثر السبانخ الخضراء ورشّ الحرّ عليها، في إضافة تميّزه عن سواه من الأفران وتجذب زبائن من مناطق أخرى، على حد قوله.
ويقول أبو شادي وهو يرتدي ثياباً رياضية مع قبعة سوداء لوكالة الصحافة الفرنسية: «منذ العام 1987 وأنا على هذه الحال في هذا الفرن، بالبركة والخيرات، لكن اليوم ذهبت البركة وذهبت الخيرات».
وبينما يدخل العجين إلى الفرن، يتلقى طلبيات عبر الهاتف مردداً «من عيوني» لكل متصل. ثم يمازح زبوناً ينتظر في المحل تلبية طلبه، ويلوّح بيده لأحد معارفه أثناء مروره بسيارته في الشارع. ويرفع نظره بين الحين والآخر ليرد على تحيات المارة أمام فرنه.
ولا يفوت أبو شادي الذي يغنّي بصوت جهوري مرتفع أثناء تحضيره المناقيش، أن يلقي التحية بدوره على سيدة مسنة، متغزلاً بتصفيفة شعرها الأشقر.
لكنّ روح الدعابة التي تجعل كل من يقف أمام فرنه مبتسماً وتدفع أحد زبائنه إلى تلقيبه بـ«الملك»، سرعان ما تتلاشى لدى سؤاله عن المنقوشة وارتفاع ثمنها.
ويشرح بإسهاب «المنقوشة هي بمثابة الأم والأب للشعب اللبناني، هي (أكل عيش) الغني والفقير».
لكن على وقع الانهيار الاقتصادي الذي يرزح تحته لبنان منذ خريف 2019 والمترافق مع شحّ في السيولة وارتفاع جنوني في الأسعار، تراجعت قدرة اللبنانيين الشرائية وخسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من مداخيلهم، وباتت سلع ومنتجات عدة من الكماليات، المنقوشة من بينها بالنسبة لكثيرين.
ويقول أبو شادي: «للأسف في هذا الوقت، لم يعد الفقير قادراً على أكل المنقوشة».
ويتابع «كان ثمن منقوشة الزعتر بين ألف و1500 ليرة أي ما يعادل دولاراً، وباتت اليوم خمسة آلاف، لكنها لا تعادل نصف دولار»، بينما يصل سعر أصناف أخرى إلى عشرة و15 ألفاً.
ويشهد لبنان أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، تراجع معها سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من 1500 إلى حوالى 12 ألفا في السوق السوداء. خلال أكثر من ثلاثة عقود عمل فيها يومياً في الفرن، اعتاد أبو شادي خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع إقبال زبائن يطلبون سبعة أو ثمانية مناقيش من الزعتر للفطور، لكن منذ شهرين أو أكثر لم يعد ير أياً منهم.
ويقول: «باتت المنقوشة للميسورين فقط، فمن يجني ثلاثين أو أربعين ألفاً يومياً لن يدفع ثمن منقوشة الزعتر خمسة آلاف، وعليه مصاريف أخرى».
وعلى غرار كثر، لم يجد أبو شادي خياراً أمامه إلا رفع الأسعار، بعدما ارتفع ثمن كل المواد الأولية التي يحتاجها من زيت وطحين وزعتر وأجبان ومستلزمات الفرن من صحون وأوراق يلفّ بها المناقيش الساخنة.
ويشير إلى عبوتي زيت قائلا إن ثمنهما ارتفع من 86 ألف ليرة قبل الأزمة الاقتصادية إلى 980 ألفاً اليوم، جراء تدهور سعر صرف الليرة القياسي مقابل الدولار.
ويقول: «كنّا بألف نعمة ولا نشعر بأزمة، لكن وضع الناس تدهور كثيراً... لم تمرّ علينا مثل هذه الأيام».
بعدما تنضج كل منقوشة، وتلمع فقاعات الزيت فيها، يخفّف أبو شادي النار داخل الفرن، توفيراً لمصروف الغاز. ويتحسّر على أيام خلت كان يُشعل النيران عند الثامنة صباحاً ولا يطفئها قبل الثالثة عصراً.
على براد خلفه، علّق أبو شادي قائمة بالأسعار الجديدة، وعلى جدار قربها مقالاً باللغة الفرنسية داخل إطار خشبي، يقول إن صحيفة نشرته قبل نحو عامين تثني فيه على نكهة وجودة إنتاجه.
ويقول محمود بينما يلتهم منقوشة بالكفتة والجبنة لوكالة الصحافة الفرنسية: «أتردّد منذ سنوات إلى هنا، من يعتاد على منقوشة أبو شادي لا يمكنه استبدالها بواسطة أخرى مهما بلغ ثمنها». واسم أبو شادي، في رأي هذا الأخير، يجعله قادراً على الاستمرار رغم الأزمة، بينما أفران صغيرة أخرى تضطر لإقفال أبوابها تباعاً.
ويقول بتأن: «بعد هذا العمر والاسم والتعب، ما زلت صامداً لأنني أعمل بيدي... ما يدفعه سواي لعامل الفرن، آخذه وأعيش به». ويضيف «اتكالي على الله وعلى زندي» فقط.


مقالات ذات صلة

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

مذاقات ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات الشيف البريطاني هيستون بلومنتال (الشرق الأوسط)

9 نصائح من الشيف هيستون بلومنتال لوجبة الكريسماس المثالية

تعد الخضراوات غير المطبوخة بشكل جيد والديك الرومي المحروق من أكثر كوارث عيد الميلاد المحتملة للطهاة في وقت يقومون فيه بتحضير الوجبة الأكثر أهمية في العام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك 6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

لا يزال كبار الطهاة العالميين، إضافة إلى ربات البيوت الماهرات في الطهي، يستخدمون أواني الطهي المصنوعة من الحديد الزهر Cast Iron Cookware.

د. عبير مبارك (الرياض)
مذاقات توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات إم غريل متخصص بالمشاوي (الشرق الاوسط)

دليلك إلى أفضل المطاعم الحلال في كاليفورنيا

تتمتع كاليفورنيا بمشهد ثقافي غني ومتنوع، ويتميز مطبخها بكونه خليطاً فريداً من تقاليد عالمية ومكونات محلية طازجة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
TT

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة، وتنوع أطباقه التي تبدأ من زبدية الجمبري والكاليماري إلى الفسيخ بطريقة مختلفة.

وتعتبر سلسلة المطاعم التي تحمل اسم عائلته «أبو حصيرة» والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة هي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، لكن بسبب ظروف الحرب اتجه بعض أفراد العائلة إلى مصر؛ لتأسيس مطعم يحمل الاسم العريق نفسه، وينقل أطباق السمك الحارة المميزة إلى فضاء جديد هو مدينة القاهرة، وفق أحمد فرحان أحد مؤسسي المطعم.

«صينية السمك من البحر إلى المائدة»، عنوان إحدى الأكلات التي يقدمها المطعم، وهي مكونة من سمك الـ«دنيس» في الفرن بالخضراوات مثل البقدونس والبندورة والبصل والثوم والتوابل، وإلى جانب هذه الصينية تضم لائحة الطعام أطباق أسماك ومقبلات منوعة، تعتمد على وصفات قديمة وتقليدية من المطبخ الفلسطيني. وتهتم بالنكهة وطريقة التقديم على السواء، مع إضفاء بعض السمات العصرية والإضافات التي تناسب الزبون المصري والعربي عموماً؛ حيث بات المطعم وجهة لمحبي الأكلات البحرية على الطريقة الفلسطينية.

على رأس قائمة أطباقه السمك المشوي بتتبيلة خاصة، وزبدية الجمبري بصوص البندورة والتوابل وحبات القريدس، وزبدية الجمبري المضاف إليها الكاليماري، والسمك المقلي بدقة الفلفل الأخضر أو الأحمر مع الثوم والكمون والليمون، وفيليه كريمة مع الجبن، وستيك، وجمبري بصوص الليمون والثوم، وجمبري بالكريمة، وصيادية السمك بالأرز والبصل والتوابل.

فضلاً عن قائمة طواجن السمك المطهو في الفخار، يقدم المطعم قائمة متنوعة من شوربات السي فود ومنها شوربة فواكه البحر، وشوربة الكريمة.

يصف محمد منير أبو حصيرة، مدير المطعم، مذاق الطعام الفلسطيني لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً: «هو أذكى نكهة يمكن أن تستمتع بها، ومن لم يتناول هذا الطعام فقد فاته الكثير؛ فالمطبخ الفلسطيني هو أحد المطابخ الشرقية الغنية في منطقة بلاد الشام، وقد أدى التنوع الحضاري على مر التاريخ إلى إثراء نكهته وطرق طبخه وتقديمه».

أطباق سي فود متنوعة يقدمها أبو حصيرة مع لمسات تناسب الذوق المصري (الشرق الأوسط)

وأضاف أبو حصيرة: «وفي مجال المأكولات البحرية يبرز اسم عائلتنا التي تتميز بباع طويل ومميز في عالم الأسماك. إننا نتوارثه على مر العصور، منذ بداية القرن الماضي، ونصون تراثنا الغذائي ونعتبر ذلك جزءاً من رسالتنا».

«تُعد طرق طهي الأسماك على الطريقة الغزاوية خصوصاً حالة متفردة؛ لأنها تعتمد على المذاق الحار المميز، وخلطات من التوابل، والاحتفاء بالطحينة، مثل استخدامها عند القلي، إضافة إلى جودة المكونات؛ حيث اعتدنا على استخدام الأسماك الطازجة من البحر المتوسط المعروفة»، وفق أبو حصيرة.

وتحدث عن أنهم يأتون بالتوابل من الأردن «لأنها من أهم ما يميز طعامنا؛ لخلطتها وتركيبتها المختلفة، وقوتها التي تعزز مذاق أطباقنا».

صينية أسماك غزوية يقدمها أبو حصيرة في مصر (الشرق الأوسط)

لاقت أطباق المطعم ترحيباً كبيراً من جانب المصريين، وساعد على ذلك أنهم يتمتعون بذائقة طعام عالية، ويقدرون الوصفات الجيدة، والأسماك الطازجة، «فنحن نوفر لهم طاولة أسماك يختارون منها ما يريدون أثناء دخول المطعم».

ولا يقل أهمية عن ذلك أنهم يحبون تجربة المذاقات الجديدة، ومن أكثر الأطباق التي يفضلونها زبدية الجمبري والكاليماري، ولكنهم يفضلونها بالسمسم أو الكاجو، أو خليط المكسرات، وليس الصنوبر كما اعتادت عائلة أبو حصيرة تقديمها في مطاعمها في غزة.

كما انجذب المصريون إلى طواجن السي فود التي يعشقونها، بالإضافة إلى السردين على الطريقة الفلسطينية، والمفاجأة ولعهم بالخبز الفلسطيني الذي نقدمه، والمختلف عن خبز الردة المنتشر في مصر، حسب أبو حصيرة، وقال: «يتميز خبزنا بأنه سميك ومشبع، وأصبح بعض الزبائن يطلبون إرساله إلى منازلهم بمفرده أحياناً لتناوله مع وجبات منزلية من فرط تعلقهم به، ونلبي لهم طلبهم حسب مدير المطعم».

تحتل المقبلات مكانة كبيرة في المطبخ الفلسطيني، وهي من الأطباق المفضلة لدى عشاقه؛ ولذلك حرص المطعم على تقديمها لزبائنه، مثل السلطة بالبندورة المفرومة والبصل والفلفل الأخضر الحار وعين جرادة (بذور الشبت) والليمون، وسلطة الخضراوات بالطحينة، وبقدونسية بضمة بقدونس والليمون والثوم والطحينة وزيت الزيتون.

ويتوقع أبو حصيرة أن يغير الفسيخ الذي سيقدمونه مفهوم المتذوق المصري، ويقول: «طريقة الفسيخ الفلسطيني وتحضيره وتقديمه تختلف عن أي نوع آخر منه؛ حيث يتم نقعه في الماء، ثم يتبل بالدقة والتوابل، ومن ثم قليه في الزيت على النار».

لا يحتل المطعم مساحة ضخمة كتلك التي اعتادت عائلة «أبو حصيرة» أن تتميز بها مطاعمها، لكن سيتحقق ذلك قريباً، حسب مدير المطعم الذي قال: «نخطط لإقامة مطعم آخر كبير، في مكان حيوي بالقاهرة، مثل التجمع الخامس، أو الشيخ زايد».