بروست وبورخيس... أكثر الكتّاب استلهاماً لألف ليلة وليلة

اختلفت عوالمهما لكن تماثلت بنية المتاهة

TT

بروست وبورخيس... أكثر الكتّاب استلهاماً لألف ليلة وليلة

يبدو أثر «ألف ليلة وليلة» في أعمال عديد من الكبار في الآداب المختلفة، منذ شاعت ترجماتها إلى اللغات الأخرى، لكن أحداً لم يصل في استلهامه لليالي ما وصله مارسيل بروست ومن بعده خورخي لويس بورخيس. كلاهما على نحو مختلف عن الآخر، استلهمها بشكل كبير بفنية عالية، أكثر خفاء، إذا ما قورن بالنسخ المباشر للبنية في عمل شهير مثل «الديكاميرون» للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو.
بورخيس الواعي بالمرامي الفلسفية لبنية المتاهة في الليالي، صنع متاهات صغيرة تفي بالغرض مثل «حديقة الطرق المتشعبة»، حيث يبدو التيه والدوران في دوائر متكررة لا تنتهي أمثولة للعود الأبدي.
لكن المسعى الأهم لرجل الإلهام الذهني البارد كان التقاط الماسات الصغيرة وترصيع تأملاته بها. يعزل حكاية أو موقفاً صغيراً، ويضعه في مسارات مختلفة تُفضي إلى احتمالات متعددة. لا يقترب من القصص الشهيرة في الليالي بقدر ما يلتقط قصصاً فرعية لا يتوقف أمامها أحد. كمثال على ذلك قصة تقع في نصف صفحة، عن قصر مغلق في الأندلس، محظور فتحه. كل ملك جديد يضرب عليه قفلاً إضافياً، حتى تولى ملك من خارج بيت المملكة، أخذه الفضول وفتحه ليجد في الداخل تماثيل لعرب على ظهور الخيل، وهذه كانت النبوءة المحرمة التي تسبب خروجها في فتح المسلمين للأندلس.
تشترك الأقصوصة الصغيرة مع قصص كبيرة بالليالي تتناول عواقب الفضول. لكن القصر كان زاخراً كذلك بالنفائس والتحف، وبينها مرآة يرى الناظر فيها الأقاليم السبعة للأرض. ولم يُفوّت بورخيس أعجوبة المرآة التي تجلت في جملة واحدة؛ فصارت عجائب المرايا مرتكزاً سردياً لديه مثلها مثل الأحلام والنمور.
قبل بورخيس، كان المستلهم والمتأمل الكبير مارسيل بروست. المستوى البسيط لتأثر بروست بالليالي يبدو في إشارات عابرة، عندما يريد أن يصف فخامة أو بذخاً أو غرابة من عالمه يشبهها بعوالم ألف ليلة، لكن استلهامه لبنية التوالد كان الأثر الأهم الذي جعل من ملحمته «البحث عن الزمن المفقود» متاهة حديثة يصعب على القارئ الوصول إلى نهايتها مثلها مثل الليالي، لا ينقصها إلا أن تترصدها خرافة موت من يكمل قراءتها مثلما تترصد قارئ الليالي!
ساعد في خفاء التماثل بين العملين الكبيرين اختلاف عوالمهما؛ فعالم بروست ضيق، لا يتعدى حياً في باريس، وبضع قرى ريفية وشاطئية، وقليل من الذكريات عن رحلات سياحية. ليس في حياة الكاتب/ الراوي ظروف تشرد مأساوي أو مغامرات كبيرة. يصف أوساطاً أرستقراطية تعيش
في عطالة، متفرغة للنميمة والأسرار التافهة، أبطالها رجال تخنقهم الملابس الرسمية، ونساء يرزحن تحت ضغط مشدات الخصور وثقل المجوهرات وقواعد الإتكيت. التقاليد الصارمة تحكم الجميع، حتى قُبلة الأم لابنها لها مكان ووقت.ذلك الضيق وتلك السكونية في عالم «البحث عن الزمن المفقود» تختلف كلياً عن إيقاع الليالي اللاهث وجغرافيتها الشاسعة التي تشمل كل العالم المعروف في زمانها، من الهند والصين وفارس وبلاد العرب وأفريقيا وشمال المتوسط. لكنه استطاع تعميق التفاصيل في رقعته الصغيرة ليجعل منها متاهة بحجم العالم، مثله مثل فنان صيني يرسم خريطة العالم على حبة أرز.
ومثلما يغفر القارئ لألف ليلة السرعة غير المنطقية في التحولات، يغفر لبروست سكونية عالمه، حيث يعوض قارئه عن افتقاد الحركة بتعميق الأحاسيس وتألق الأفكار، وإنعاش الحواس لاستحضار الماضي. لكنه قبل أن يحيى مشاهد طفولته، كان قد بث الحياة في أشيائه الصغيرة بغرفته لحظة الكتابة.
الجمل الأولى في مفتتح هذا العمل الكبير تصف أرقه بعد ليلة من القراءة، يحس الظلام حنوناً مريحاً، يسمع أصوات القطارات في البعيد رقيقة فتُسلمه إلى أصوات العصافير في الوادي الممتد عند المحطة النائية التي سيصلها القطار، الاستعداد للعودة الخيالية إلى الوراء قائم في ملمس الوسادة «كنت أضغط وجنتي برفق على وجنتي الوسادة الجميلتين وكأنهما بامتلائهما وطراوتهما وجنتا طفولتنا».
تساهم لغة بروست في صنع ملامح عالمه الساكن وخلق البنية النهائية المتناغمة لمتاهته الروائية. الجملة بالغة الطول، متاهة بحد ذاتها، وهي التي يمكن أن تقنع بعالم ساكن وضيق، مثلما استطاعت لغة الليالي أن تقنع بعالمها الحيوي.
وعلى خلاف التضاد في إيقاع اللغة يأتي التماثل في بنية الزمن. في «ألف ليلة وليلة» لدينا زمن الراوي المنتظم في تصاعد خطي من الليلة الأولى حتى الليلة الأولى بعد الألف، حيث تجلس شهرزاد كل مساء في انتظار شهريار بعد فض الديوان لتحكي له عن زمن بعيد آخر (سالف العصر والأوان) لكن سالف العصر والأوان الذي تستدعيه الراوية ليس زمناً واحداً بل متاهة من الأزمنة؛ فأحياناً ما يكون زمناً في المطلق غير محدد العتاقة عن ملك غير موجود في التاريخ الواقعي، وأحياناً ما يكون عن ملوك نعرف بوجودهم معرفة إيمانية دون أن نعرف متى عاشوا كالنبي سليمان، وأحياناً ما يكون محدداً بخلفاء وملوك وسلاطين تاريخيين، لكنهم يظهرون في الليالي بغير ترتيب، كأن يظهر هارون الرشيد قبل عبد الملك بن مروان المولود قبله بثلاثة وستين عاماً.
في «البحث عن الزمن المفقود» (ترجم إلياس بديوي المجلدات الخمس الأولى، وترجم جمال شحيد المجلدين الأخيرين)، لدينا الزمن الشهرزادي للكاتب المنعزل، ولدينا الزمن الماضي (في سالف الطفولة) الذي قد يتقدم ويتأخر في مراحل عمر الكاتب، وقد يتأخر أكثر ليستدعي كتاباً وفنانين سبقوه إلى الحياة، مثل نيرفال وراسين وشاتوبريان وفيكتور هوغو وإميل زولا وتولستوي.
في لعبة الزمن، يمكننا تخيل بروست ـ وكذلك تخيل شهرزاد ـ راقصاً يدور حول نفسه مطوقاً بدوائر من الحِبال الملونة تدور معه صاعدة هابطة حتى تشكل طيفاً من الألوان المتتابعة؛ قوس قزح في حركة لولبية متصاعدة يخف معه جسد الراقص الذي يوشك أن يطير ويلتحم بالأبدية.
ويجد القارئ نفسه مثل حبة رمل دخلت في محارة أُغلقت عليها وبدأت في بناء لؤلؤة حولها. لا تعرف حبة الرمل ملوحة البحر ثانية بعد أن تخطئ وتدخل المحارة. وبالمثل، لا يعود القارئ يحس عالمه الواقعي، ويصبح عالم الليالي وعالم الزمن المفقود عالمه ويصبح جاهزاً لقبول كل ما يحدث في هذا العالم دون البحث عن مرجعية من خارجه.
قد تكون متاهة المصائر لعدد كبير من الشخصيات الصعوبة الأساسية في قراءة «البحث عن الزمن المفقود» وهي مصدر الألم الكبير كذلك. ولسنا مجبرين على تجرع ألم انكسارات الرجال وتبدد جمال النساء، ولتفادي هذه الصعوبة وذلك الألم يمكننا دخول «البحث عن الزمن المفقود» كما ندخل إلى معرض فني، نستوعب لوحاته واحدة فواحدة، عندها سنكتشف رغبة الكاتب المستحيلة في حياة لانهائية، عبر إعادة تدوير الماضي إلى ما لا نهاية والتأني أمام كل لحظة ماضية وكأنها عمر بكامله.
هذا الاختباء من الموت في متاهة هو ما أرادته شهرزاد بالضبط، وهذه ذروة التماثل بين العملين: الاختفاء داخل كتاب لا نهائي من الحكايات المتوالدة.
على أن هناك تشابهاً آخر في طبيعة النصين صنعته المصادفة، ويعزز فرضية المتاهة في كل منهما. نعرف أن بروست استوعب داخل عمله الملحمي كتاباته الإبداعية والنقدية السابقة وخبرات ترجمته لأعمال كُتابه المحبوبين، ولم يعد هناك من يلتفت إلى تلك الأصول ولم نعد نذكرها. هذا قريب الذي فعله مبدع فرد عامداً، صنعه مبدعو ألف ليلة المتعاقبون الذين ساهموا على مدار الزمن في بناء حكاياتها فوق أصل هندي فارسي قديم لم يعد له ذكر.
ولأنه كان كثير التردد، ترك بروست في مسوداته الكثير من الكلمات التي يشطبها ويكتب فوقها، ثم يعود إلى تغيير التعديل. وبينما كان يتقدم في الكتابة كان يعود إلى تعديل الأجزاء التي سبق أن نشرها، وبعد كل هذا تدخل الناشرون لوضع بعض العناوين لأجزاء تركها دون عناوين، وهذا يجعله أقرب نص معاصر إلى ألف ليلة من زاوية تعدد الصياغات.
ولو افترضنا وجود باحثين لديهم مما يكفي من الشغف لكي يعيدوا فحص مخطوطات بروست في المكتبة الوطنية الفرنسية ربما يستطيعون تقديم طبعات من «البحث عن الزمن المفقود» مختلفة في تفاصيلها، بقدر اختلاف طبعات الليالي عن بعضها البعض.



فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)
فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)
TT

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)
فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي، لافتاً إلى أن الفيلم يحترم دور المعلم ويقدّره حتى مع وجود الطابع الكوميدي في العمل.

الفيلم الذي عُرض للمرة الأولى ضمن مسابقة «آفاق السينما العربية» بالنسخة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، تدور أحداثه في 8 فصول حول رهان مدير المدرسة على تأسيس «الفصل الشرعي» ليقدم من خلاله نهجا مختلفاً عن المتبع.

وقال المطيري لـ«الشرق الأوسط» إن «المدرسة تشكل فترة مهمة في حياة كل شخص ولا تزال هناك ذكريات ومواقف راسخة في ذاكرتنا عنها، الأمر الذي سيجعل من يشاهد الفيلم يشعر بأن هناك مواقف مشابهة ربما تعرض لها أو شاهدها بالفعل خلال مسيرته التعليمية»، مرجعاً حماسه لتقديم شخصية الأستاذ «شاهين دبكة» مدير ثانوية «السويدي الأهلية» رغم كون الدور لرجل أكبر منه سناً إلى إعجابه بالفكرة التي يتناولها العمل وشعوره بالقدرة على تقديم الدور بشكل مختلف.

فهد المطيري مع أبطال الفيلم (الشركة المنتجة)

وأضاف المطيري: «إن الماكياج الذي وضعته لإظهار نفسي أكبر عمراً، استوحيته جزئياً من الفنان الراحل حسين الرضا خصوصاً مع طبيعة المدير ومحاولته المستمرة إظهار قدرته في السيطرة على الأمور وإدارتها بشكل جيد، وإظهار نفسه ناجحاً في مواجهة شقيقه الأصغر الذي يحقق نجاحات كبيرة في العمل ويرأسه».

وحول تحضيرات التعامل مع الشخصية، أكد المطيري أن خلفيته البدوية ساعدته كثيراً لكونه كان يحضر مجالس كبار السن باستمرار في منزلهم الأمر الذي لعب دوراً في بعض التفاصيل التي قدمها بالأحداث عبر دمج صفات عدة شخصيات التقاها في الواقع ليقدمها في الدور، وفق قوله.

وأوضح أنه كان حريصاً خلال العمل على إبراز الجانب الأبوي في شخصية شاهين وتعامله مع الطلاب من أجل تغيير حياتهم للأفضل وليس التعامل معهم على أنه مدير مدرسة فحسب، لذلك حاول مساعدتهم على بناء مستقبلهم في هذه المرحلة العمرية الحرجة.

وأشار إلى أنه عمل على النص المكتوب مع مخرجي الفيلم للاستقرار على التفاصيل من الناحية الفنية بشكل كبير، سواء فيما يتعلق بطريقة الحديث أو التوترات العصبية التي تظهر ملازمة له في الأحداث، أو حتى طريقة تعامله مع المواقف الصعبة التي يمر بها، وأضاف قائلاً: «إن طريقة كتابة السيناريو الشيقة أفادتني وفتحت لي آفاقاً، أضفت إليها لمسات شخصية خلال أداء الدور».

المطيري خلال حضور عرض فيلمه في «القاهرة السينمائي» (إدارة المهرجان)

وعن تحويل العمل إلى فيلم سينمائي بعدما جرى تحضيره في البداية على أنه عمل درامي للعرض على المنصات، أكد الممثل السعودي أن «هذا الأمر لم يضر بالعمل بل على العكس أفاده؛ لكون الأحداث صورت ونفذت بتقنيات سينمائية وبطريقة احترافية من مخرجيه الثلاثة، كما أن مدة الفيلم التي تصل إلى 130 دقيقة ليست طويلة مقارنة بأعمال أخرى أقل وقتاً لكن قصتها مختزلة»، موضحاً أن «الأحداث اتسمت بالإيقاع السريع مع وجود قصص لأكثر من طالب، والصراعات الموجودة»، مشيراً إلى أن ما لمسه من ردود فعل عند العرض الأول في «القاهرة السينمائي» أسعده مع تعليقات متكررة عن عدم شعور المشاهدين من الجمهور والنقاد بالوقت الذي استغرقته الأحداث.

ولفت إلى أن «الفيلم تضمن تقريباً غالبية ما جرى تصويره من أحداث، لكن مع اختزال بعض الأمور غير الأساسية حتى لا يكون أطول من اللازم»، مؤكداً أن «المشاهد المحذوفة لم تكن مؤثرة بشكل كبير في الأحداث، الأمر الذي يجعل من يشاهد العمل لا يشعر بغياب أي تفاصيل».

وحول تجربة التعاون مع 3 مخرجين، أكد فهد المطيري أن الأمر لم يشكل عقبة بالنسبة له كونه ممثلاً، حيث توجد رؤية مشتركة من جميع المخرجين يقومون بتنفيذها في الأحداث، ولافتاً إلى أن حضورهم تصوير المشاهد الأخرى غير المرتبطة بما سيقومون بتصويره جعل الفيلم يخرج للجمهور بإيقاع متزن.