الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

رئيس الحكومة الليبية يطمح في عودة حكومته للعمل من طرابلس

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول
TT

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

البدلات المدنية وربطات العنق الملونة لا تخفي الخلفية العسكرية التي جاء منها عبد الله الثني رئيس الحكومة الليبية.
لهذا تعول العديد من القيادات الليبية، سواء من داخل البرلمان أو خارجه، على قدرة هذا الرجل الأسمر القادم من واحات النخيل جنوب غربي طرابلس، في إدارة الدفة سعيا لكسب الحرب الصعبة مع ميليشيات متطرفة تديرها جماعة الإخوان وأنصارها من المتشددين.

حمل الثني العديد من الرتب العسكرية كان آخرها رتبة «عقيد» قبل أن ينال نصيبه من السجن في عهد معمر القذافي. ففي ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الجيش الليبي يخوض حربا في دولة تشاد المجاورة من ناحية الجنوب، ارتفعت لغة الانتقادات في بعض الأوساط الليبية بشأن جدوى هذه الحرب التي كانت تأكل الأخضر واليابس وقتها. ومن بين من جهروا بالقول ضد عمليات الجيش في تشاد أخ للثني نفسه.
منذ تلك الواقعة أصبحت عائلة الثني من العائلات المشكوك في ولائها للقذافي. لهذا بدأت تجربة الرجل مع التحقيقات والاعتقالات والسجون، خاصة بعد أن اضطر شقيقه، الذي كان طيارا في سلاح الجو الليبي، للفرار من البلاد احتجاجا على حرب مجنونة في صحراء تشاد راح ضحيتها آلاف الليبيين.
تبعد بلدة الثني، غدامس، نحو 540 كيلومترا، جنوب غربي العاصمة. كانت في الماضي ملتقى ومحطة للقوافل التجارية في شمال أفريقيا. هي واحة خضراء وسط الصحراء يبلغ عدد سكانها نحو 25 ألف نسمة، وقريبة من حدود ليبيا مع كل من تونس والجزائر. للوصول من غدامس إلى العاصمة لا بد من قطع طريق بري يمر عبر العديد من المدن والبلدات والواحات الواقعة بين سفوح ومرتفعات جبل نفوسة الشهير.
وبالإضافة إلى عمله العسكري في مناطق مختلفة، تمكن الثني من معرفة خارطة القبائل والعائلات في عموم البلاد. وانخرط في صفوف حكام الدولة الجديدة عقب الإطاحة بالقذافي ومقتله في سرت في خريف 2011. شغل الرجل المولود عام 1954 موقع وزير الدفاع في حكومة زيدان، وسط أجواء لم تكن تقل خطورة عن عهد القذافي. فالميليشيات التي كانت تقاتل نظام العقيد، رفضت إلقاء السلاح بعد «نجاح الثورة»، بل عملت على تعزيز قدراتها وتسليحها. وبينما كان مطلوبا من زيدان ووزير دفاعه، إعادة تأسيس الجيش الوطني، والقضاء على مظاهر التسلح، كانت الميليشيات، بمساعدة قادة من جماعة الإخوان، قد بدأت في التحدي والتحول إلى قوات بديلة للجيش، ومقاومة أي فرص لوجود كيان ذي شأن لوزارة الدفاع الجديدة.
ووفقا لما كان يدور في اجتماعات الدكتور زيدان الذي انتهى به المطاف حاليا للإقامة في القاهرة، فقد كان الثني من أشد المتحمسين للم شتات وزارة الدفاع والجيش الليبي الذي تعرض لضربات موجعة من طريقين.. الطريق الأول كان أيام الحرب ضد القذافي وجاءت منه صواريخ وقنابل طائرات حلف الناتو التي قضت على نحو 90 في المائة من قدرات الجيش، بحسب إفادة سابقة حصلت عليها «الشرق الأوسط» من رئيس أركان الجيش الحالي اللواء عبد الرزاق الناظوري.
أما الطريق الثاني الذي جاءت منه الضربات ضد وزارة الدفاع والجيش، فكان على يد قيادات جماعة الإخوان خاصة في عامي 2012 و2013 حين هيمنت الجماعة على قرار البرلمان وجانب كبير من القرار الحكومي. قاوم زيدان والثني هذا التوجه الإخواني الذي تسبب في إنهاء خدمة وعزل الآلاف من منتسبي الجيش تحت مبررات شتى من بينها أنهم كانوا يدافعون عن نظام القذافي. بغض النظر عن ألاعيب السياسة كان الليبيون الذين قاموا بثورة 17 فبراير 2011، يشعرون بالخطر، لأن أحلامهم في إقامة دولة جديدة مبنية على الديمقراطية والحرية، بدأت تتبخر. ولهذا جرى لأول مرة تنظيم مظاهرات ضد التسلح وضد الميليشيات وتؤيد الإسراع ببناء الجيش.
من هنا، أي منذ أواخر 2013، بدأ الثني يشعر أن مهمته كوزير للدفاع ليست هينة. فالمطلوب منه أولا إعادة بناء الوزارة وجيشها، وفي الوقت نفسه مواجهة الميليشيات المسلحة تسليحا قويا، وبعد ذلك بسط الأمن والاستقرار في المدن المضطربة وحماية الحدود مع دول الجوار.
هنا بدأت الميليشيات والمتطرفون في الرد لوأد ما يقوم به زيدان والثني، واشتعلت عمليات القنص والتفخيخ لضباط الجيش وسياراتهم خاصة في بنغازي التي تعد من أهم مدن ليبيا و«رمانة الميزان» فيها. أما في طرابلس فأخذت الميليشيات في التضييق على كل من يحمل توجهات زيدان والثني.
أولا وصل عدد من تعرضوا للقتل من ضباط وضباط صف وجنود لأكثر من 500 في عام واحد، في بنغازي فقط. وفي طرابلس شهد الثني عمليات العسف ضد توجهاته وتوجهات زيدان الذي ألقت الميليشيات القبض عليه في مشهد مهين، وذلك أثناء وجوده في أحد فنادق العاصمة. كما جرى الضغط على الثني أيضا بتدبير عملية أدت لاختطاف ابنه لعدة أشهر.
ومع ذلك كانت إدارة الثني للتداعيات تجري بطريقة تبدو محسوبة استنادا إلى خبراته التي مر بها عبر سنوات من الظروف الصعبة. حين قام البرلمان السابق بإقالة زيدان، اضطر للاستعانة بالثني لترؤس حكومة مؤقتة لمدة 15 يوما، حتى لا يحدث فراغ في السلطة.
يعد البرلمان في ليبيا أعلى سلطة في البلاد، وفقا للإعلان الدستوري الذي يدير الدولة انتظارا لتأسيس دستور دائم وانتظارا لانتخاب رئيس للدولة، وإقامة نظام مستقر. حين اقترب موعد انتهاء المدة القانونية لعمل البرلمان وحين جاء الوقت لإجراء انتخابات لاختيار برلمان جديد، بدأ قادة الإخوان يشعرون بالقلق بسبب تغير مزاج الرأي العام الليبي الرافض للفوضى والميليشيات.
يقول أحد من عملوا بالقرب من الثني إنه بدأ في ذلك الوقت يشعر بالانتعاش، وبدأ يعتمد على الرأي العام الليبي في قراراته وتحركاته. كانت الأجواء أمام الثني تدور على النحو التالي في النصف الأول من العام الماضي.. حكومة ضعيفة يقوم برلمان الإخوان بالتلاعب بها.. ضباط الجيش وجنوده يشعرون بالغضب بسبب ما يتعرضون له من هجمات منظمة من المتطرفين. قيادات شعبية وسياسية تدعو إلى التخلص من مظاهر التسلح وإقامة جيش قوي تعتمد عليه الدولة الجديدة.
هنا كانت صورة اللواء خليفة حفتر قد ترسخت في أذهان الليبيين على أساس أنه قادر على الرد بقوة على الميليشيات والتأسيس لجيش يمسك بزمام الأمور لتأمين الدولة والشعب. استمر الثني، المولود لأب كان يعمل في نيجيريا لسنوات، ممسكا بمقاليد رئاسة مجلس الوزراء والحكومة في ظل متغيرات صعبة وصراع مكشوف بين أنصار الدولة وأنصار الفوضى.
يمكن بكل بساطة أن تقول إنه شغل موقع رئيس الحكومة الليبية 3 مرات، بدأت عقب حجب البرلمان السابق الثقة عن سلفه الدكتور زيدان. وما زال الثني رئيس الحكومة حتى الآن رغم أنه حين بدأ في قيادة سفينة الدولة الليبية وجدها تتخبط وسط أمواج مضطربة وأعاصير عاصفة.
كان الثني وهو يتقلد موقعه في العاصمة طرابلس الغرب يأمل في أن تهدأ الأمور، لكن الرياح الهوجاء التي يثيرها المتطرفون، قذفت به وبحكومته بعيدا، وأخذ يدير شؤون البلاد من مدينة البيضاء الواقعة على بعد 1300 كيلومتر شرق العاصمة، وعلى بعد 200 كيلومتر من مقر البرلمان الذي اضطر هو الآخر لعقد جلساته في مدينة طبرق.
في هذه المنطقة الهشة التي ظهرت بين تمسك البرلمان السابق بالاستمرار في عقد جلساته، والبرلمان الجديد الذي يلتف حوله غالبية الليبيين، بدأ الثني في الضرب بيد من حديد من أجل تغيير المعادلة. فعقد جلسات سرية مع العدو اللدود للمتطرفين، وهو اللواء حفتر.. وانحاز للبرلمان الجديد، وبدأ يسلك طريقه حتى تمكن من الحصول على الاعتراف الدولي بحكومته والبرلمان الجديد الذي يعمل من خلاله، والجيش الوطني بقيادة حفتر.
رغم الوضع المعقد داخليا، أمسك الثني بالخيوط وبدأ في تحريكها بحسابات بالغة التعقيد وسط ظروف إقليمية ودولية غير مطمئنة. لهذا انطلق الثني إلى القاهرة لأنها الجارة الوحيدة تقريبا التي تحدثت بوضوح وحسم، ومنذ البداية، عن الخطر الذي أصبح يمثله المتطرفون في هذا البلد شاسع المساحة والغني بالنفط، والذي يعمل فيه مئات الألوف من المصريين.
أحد أهم المشاكل التي تعد كالكابوس أمام الثني، وتؤخر الحل في بلاده، إصرار عدة أطراف إقليمية ودولية على مساندة البرلمان المنتهية ولايته ومد المتطرفين بالأسلحة والأموال، ورفض أي تسوية سياسية داخلية لا يكون الإخوان جزءا منها، رغم تصنيف هذه الجماعة كمنظمة إرهابية، واتهام السلطات الليبية لها بالوقوف وراء الفوضى التي تضرب البلاد بما فيها حرق مطار طرابلس الدولي وتسهيل طرق تحرك المتطرفين وتسليحهم ومحاربتهم للسلطات الشرعية الليبية.
عاش الثني مراحل من حياته في أجواء واحات غدامس التي تعيش فيها قبيلتان من أصول أمازيغية، هما «وازيت» و«وليد». وظهرت الابتسامة العريضة لأول مرة على وجهه وهو يقف إلى جانب كبار المسؤولين المصريين الذين تعهدوا بعدم ترك الجارة ليبيا للفوضى. يوجد مصير مصري ليبي مشترك. على الفور جرى توقيع مزيد من الاتفاقات الثنائية لمساعدة الحكومة والجيش الوطني. فالجماعات المسلحة لا تهدد مستقبل الدولة الليبية فقط ولكنها تهدد أيضا الأمن القومي المصري، بداية من خطر تهريب الأسلحة عبر الحدود البالغ طولها بين البلدين أكثر من ألف كيلومتر، أو من خلال تهريب المتطرفين لتنفيذ عمليات إرهابية هنا وهناك. يتبنى الثني وجهة نظر لا تتوافق على ما يبدو مع التوجهات التي يريدها ممثل الأمم المتحدة في بلاده، السيد برناردينو ليون. يشرف ليون على الحوار بين الفرقاء الليبيين، لكن يبدو، منذ بدء الحوار في أغسطس (آب) الماضي، أن عملية الحوار تجري في طريق لا يفضله لا البرلمان الليبي ولا حكومته ولا جيشه ولا الجارة مصر.
توجد إشارات دولية، غربية بالأساس، عن أن طاولة الحوار لا بد أن تضم كل الأطراف بما فيها الجماعات التي تنظر إليها السلطة الشرعية في ليبيا، والسلطات المصرية، على أنها «جماعات إرهابية». ومع هذا يتحدث الثني عن ضرورة أن يتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ ليبيا من الفوضى التي تسير إليها.. لكن حتى حينما يفعل ذلك فإنه لا يعني دعوة جيوش العالم لاحتلال بلاده كما يحاول قادة الإخوان والتطرف الإيحاء بهذا..
يحتفظ الرجل في ذاكرته بتجارب مريرة عن التدخل الأجنبي. فقد احتلت إيطاليا بلدته عام 1924، ثم مر على بلدته أيضا الاحتلال الفرنسي عام 1940 وظل فيها لمدة 15 سنة. ولهذا، هو يريد من العالم، كما قال أكثر من مرة، رفع الحظر الدولي عن تسليح الجيش الليبي، وعدم المساواة بين الجيش الشرعي النظامي، والميليشيات المتطرفة التي لا بد من تفكيكها، وليس تشجيعها بالدخول في حوار سياسي، بينما هي تصمم على التمسك بالسلاح خارج سلطة الدولة. يرى الثني أن دعم المجتمع الدولي للبرلمان والحكومة، ليس انحيازا لطرف ضد آخر، بل هو انحياز للشرعية التي تمثل الشعب الليبي وفقا للاستحقاقات الانتخابية الأخيرة. هو يعتقد أنه من السهل بسط الاستقرار في البلاد في حال تدخل العالم وأجبر بعض الدول المعروفة بالمنطقة بالتوقف عن دعم الجماعات المتطرفة.
يقول صراحة وفي لغة لا تخلو من العتاب للمجتمع الدولي إن العالم صنف تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا والجماعات الموالية لها كتنظيمات إرهابية، مشيرا إلى أن العالم يقود تحالفا دوليا للقضاء على مثل هذه الجماعات في العراق وسوريا.. «أما في ليبيا فإنها تقاتل وحدها هؤلاء المتطرفين دون دعم».
وبعد واقعة ذبح داعش ليبيا لنحو 20 مصريا قبل أسبوع، يدق الثني ناقوس الخطر قائلا إن بلاده الواقعة أمام أوروبا على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، تخشى من تمدد وتسرب المتطرفين من العراق وسوريا إلى الأراضي الليبية بسبب الضربات التي تتعرض لها على يد القوات الدولية هناك.
المشاكل الرئيسية التي تواجه الثني تكمن في معاقل المتطرفين في درنة وبنغازي وطرابلس ومصراتة. وأثرت المواجهات العسكرية على المداخيل المالية للبلاد التي تعتمد أغلبها على تصدير النفط. لكن ابن غدامس، في الوقت نفسه، يبدو واثقا وهو يتحدث عن مستقبل بلاده.. ففي بنغازي أدت مؤازرة الجيش من جانب شباب المناطق أو ما يعرف بالصحوات، إلى تغيير الدفة لصالح سلطان الدولة. وفي درنة أدت الضربات المصرية الليبية المشتركة لقواعد تنظيم داعش إلى إخافة باقي ميليشيات المتشددين. وبالقرب من طرابلس أمكن إعادة العمل لاثنتين من القواعد المهمة للجيش..
يؤمن الثني بأن عودة حكومته لإدارة أعمالها من العاصمة والقضاء على التطرف وإنعاش الاقتصاد، مسألة وقت، حتى لو لم يتدخل المجتمع الدولي لمساندة السلطة المعترف بها.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.