الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

رئيس الحكومة الليبية يطمح في عودة حكومته للعمل من طرابلس

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول
TT

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

البدلات المدنية وربطات العنق الملونة لا تخفي الخلفية العسكرية التي جاء منها عبد الله الثني رئيس الحكومة الليبية.
لهذا تعول العديد من القيادات الليبية، سواء من داخل البرلمان أو خارجه، على قدرة هذا الرجل الأسمر القادم من واحات النخيل جنوب غربي طرابلس، في إدارة الدفة سعيا لكسب الحرب الصعبة مع ميليشيات متطرفة تديرها جماعة الإخوان وأنصارها من المتشددين.

حمل الثني العديد من الرتب العسكرية كان آخرها رتبة «عقيد» قبل أن ينال نصيبه من السجن في عهد معمر القذافي. ففي ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الجيش الليبي يخوض حربا في دولة تشاد المجاورة من ناحية الجنوب، ارتفعت لغة الانتقادات في بعض الأوساط الليبية بشأن جدوى هذه الحرب التي كانت تأكل الأخضر واليابس وقتها. ومن بين من جهروا بالقول ضد عمليات الجيش في تشاد أخ للثني نفسه.
منذ تلك الواقعة أصبحت عائلة الثني من العائلات المشكوك في ولائها للقذافي. لهذا بدأت تجربة الرجل مع التحقيقات والاعتقالات والسجون، خاصة بعد أن اضطر شقيقه، الذي كان طيارا في سلاح الجو الليبي، للفرار من البلاد احتجاجا على حرب مجنونة في صحراء تشاد راح ضحيتها آلاف الليبيين.
تبعد بلدة الثني، غدامس، نحو 540 كيلومترا، جنوب غربي العاصمة. كانت في الماضي ملتقى ومحطة للقوافل التجارية في شمال أفريقيا. هي واحة خضراء وسط الصحراء يبلغ عدد سكانها نحو 25 ألف نسمة، وقريبة من حدود ليبيا مع كل من تونس والجزائر. للوصول من غدامس إلى العاصمة لا بد من قطع طريق بري يمر عبر العديد من المدن والبلدات والواحات الواقعة بين سفوح ومرتفعات جبل نفوسة الشهير.
وبالإضافة إلى عمله العسكري في مناطق مختلفة، تمكن الثني من معرفة خارطة القبائل والعائلات في عموم البلاد. وانخرط في صفوف حكام الدولة الجديدة عقب الإطاحة بالقذافي ومقتله في سرت في خريف 2011. شغل الرجل المولود عام 1954 موقع وزير الدفاع في حكومة زيدان، وسط أجواء لم تكن تقل خطورة عن عهد القذافي. فالميليشيات التي كانت تقاتل نظام العقيد، رفضت إلقاء السلاح بعد «نجاح الثورة»، بل عملت على تعزيز قدراتها وتسليحها. وبينما كان مطلوبا من زيدان ووزير دفاعه، إعادة تأسيس الجيش الوطني، والقضاء على مظاهر التسلح، كانت الميليشيات، بمساعدة قادة من جماعة الإخوان، قد بدأت في التحدي والتحول إلى قوات بديلة للجيش، ومقاومة أي فرص لوجود كيان ذي شأن لوزارة الدفاع الجديدة.
ووفقا لما كان يدور في اجتماعات الدكتور زيدان الذي انتهى به المطاف حاليا للإقامة في القاهرة، فقد كان الثني من أشد المتحمسين للم شتات وزارة الدفاع والجيش الليبي الذي تعرض لضربات موجعة من طريقين.. الطريق الأول كان أيام الحرب ضد القذافي وجاءت منه صواريخ وقنابل طائرات حلف الناتو التي قضت على نحو 90 في المائة من قدرات الجيش، بحسب إفادة سابقة حصلت عليها «الشرق الأوسط» من رئيس أركان الجيش الحالي اللواء عبد الرزاق الناظوري.
أما الطريق الثاني الذي جاءت منه الضربات ضد وزارة الدفاع والجيش، فكان على يد قيادات جماعة الإخوان خاصة في عامي 2012 و2013 حين هيمنت الجماعة على قرار البرلمان وجانب كبير من القرار الحكومي. قاوم زيدان والثني هذا التوجه الإخواني الذي تسبب في إنهاء خدمة وعزل الآلاف من منتسبي الجيش تحت مبررات شتى من بينها أنهم كانوا يدافعون عن نظام القذافي. بغض النظر عن ألاعيب السياسة كان الليبيون الذين قاموا بثورة 17 فبراير 2011، يشعرون بالخطر، لأن أحلامهم في إقامة دولة جديدة مبنية على الديمقراطية والحرية، بدأت تتبخر. ولهذا جرى لأول مرة تنظيم مظاهرات ضد التسلح وضد الميليشيات وتؤيد الإسراع ببناء الجيش.
من هنا، أي منذ أواخر 2013، بدأ الثني يشعر أن مهمته كوزير للدفاع ليست هينة. فالمطلوب منه أولا إعادة بناء الوزارة وجيشها، وفي الوقت نفسه مواجهة الميليشيات المسلحة تسليحا قويا، وبعد ذلك بسط الأمن والاستقرار في المدن المضطربة وحماية الحدود مع دول الجوار.
هنا بدأت الميليشيات والمتطرفون في الرد لوأد ما يقوم به زيدان والثني، واشتعلت عمليات القنص والتفخيخ لضباط الجيش وسياراتهم خاصة في بنغازي التي تعد من أهم مدن ليبيا و«رمانة الميزان» فيها. أما في طرابلس فأخذت الميليشيات في التضييق على كل من يحمل توجهات زيدان والثني.
أولا وصل عدد من تعرضوا للقتل من ضباط وضباط صف وجنود لأكثر من 500 في عام واحد، في بنغازي فقط. وفي طرابلس شهد الثني عمليات العسف ضد توجهاته وتوجهات زيدان الذي ألقت الميليشيات القبض عليه في مشهد مهين، وذلك أثناء وجوده في أحد فنادق العاصمة. كما جرى الضغط على الثني أيضا بتدبير عملية أدت لاختطاف ابنه لعدة أشهر.
ومع ذلك كانت إدارة الثني للتداعيات تجري بطريقة تبدو محسوبة استنادا إلى خبراته التي مر بها عبر سنوات من الظروف الصعبة. حين قام البرلمان السابق بإقالة زيدان، اضطر للاستعانة بالثني لترؤس حكومة مؤقتة لمدة 15 يوما، حتى لا يحدث فراغ في السلطة.
يعد البرلمان في ليبيا أعلى سلطة في البلاد، وفقا للإعلان الدستوري الذي يدير الدولة انتظارا لتأسيس دستور دائم وانتظارا لانتخاب رئيس للدولة، وإقامة نظام مستقر. حين اقترب موعد انتهاء المدة القانونية لعمل البرلمان وحين جاء الوقت لإجراء انتخابات لاختيار برلمان جديد، بدأ قادة الإخوان يشعرون بالقلق بسبب تغير مزاج الرأي العام الليبي الرافض للفوضى والميليشيات.
يقول أحد من عملوا بالقرب من الثني إنه بدأ في ذلك الوقت يشعر بالانتعاش، وبدأ يعتمد على الرأي العام الليبي في قراراته وتحركاته. كانت الأجواء أمام الثني تدور على النحو التالي في النصف الأول من العام الماضي.. حكومة ضعيفة يقوم برلمان الإخوان بالتلاعب بها.. ضباط الجيش وجنوده يشعرون بالغضب بسبب ما يتعرضون له من هجمات منظمة من المتطرفين. قيادات شعبية وسياسية تدعو إلى التخلص من مظاهر التسلح وإقامة جيش قوي تعتمد عليه الدولة الجديدة.
هنا كانت صورة اللواء خليفة حفتر قد ترسخت في أذهان الليبيين على أساس أنه قادر على الرد بقوة على الميليشيات والتأسيس لجيش يمسك بزمام الأمور لتأمين الدولة والشعب. استمر الثني، المولود لأب كان يعمل في نيجيريا لسنوات، ممسكا بمقاليد رئاسة مجلس الوزراء والحكومة في ظل متغيرات صعبة وصراع مكشوف بين أنصار الدولة وأنصار الفوضى.
يمكن بكل بساطة أن تقول إنه شغل موقع رئيس الحكومة الليبية 3 مرات، بدأت عقب حجب البرلمان السابق الثقة عن سلفه الدكتور زيدان. وما زال الثني رئيس الحكومة حتى الآن رغم أنه حين بدأ في قيادة سفينة الدولة الليبية وجدها تتخبط وسط أمواج مضطربة وأعاصير عاصفة.
كان الثني وهو يتقلد موقعه في العاصمة طرابلس الغرب يأمل في أن تهدأ الأمور، لكن الرياح الهوجاء التي يثيرها المتطرفون، قذفت به وبحكومته بعيدا، وأخذ يدير شؤون البلاد من مدينة البيضاء الواقعة على بعد 1300 كيلومتر شرق العاصمة، وعلى بعد 200 كيلومتر من مقر البرلمان الذي اضطر هو الآخر لعقد جلساته في مدينة طبرق.
في هذه المنطقة الهشة التي ظهرت بين تمسك البرلمان السابق بالاستمرار في عقد جلساته، والبرلمان الجديد الذي يلتف حوله غالبية الليبيين، بدأ الثني في الضرب بيد من حديد من أجل تغيير المعادلة. فعقد جلسات سرية مع العدو اللدود للمتطرفين، وهو اللواء حفتر.. وانحاز للبرلمان الجديد، وبدأ يسلك طريقه حتى تمكن من الحصول على الاعتراف الدولي بحكومته والبرلمان الجديد الذي يعمل من خلاله، والجيش الوطني بقيادة حفتر.
رغم الوضع المعقد داخليا، أمسك الثني بالخيوط وبدأ في تحريكها بحسابات بالغة التعقيد وسط ظروف إقليمية ودولية غير مطمئنة. لهذا انطلق الثني إلى القاهرة لأنها الجارة الوحيدة تقريبا التي تحدثت بوضوح وحسم، ومنذ البداية، عن الخطر الذي أصبح يمثله المتطرفون في هذا البلد شاسع المساحة والغني بالنفط، والذي يعمل فيه مئات الألوف من المصريين.
أحد أهم المشاكل التي تعد كالكابوس أمام الثني، وتؤخر الحل في بلاده، إصرار عدة أطراف إقليمية ودولية على مساندة البرلمان المنتهية ولايته ومد المتطرفين بالأسلحة والأموال، ورفض أي تسوية سياسية داخلية لا يكون الإخوان جزءا منها، رغم تصنيف هذه الجماعة كمنظمة إرهابية، واتهام السلطات الليبية لها بالوقوف وراء الفوضى التي تضرب البلاد بما فيها حرق مطار طرابلس الدولي وتسهيل طرق تحرك المتطرفين وتسليحهم ومحاربتهم للسلطات الشرعية الليبية.
عاش الثني مراحل من حياته في أجواء واحات غدامس التي تعيش فيها قبيلتان من أصول أمازيغية، هما «وازيت» و«وليد». وظهرت الابتسامة العريضة لأول مرة على وجهه وهو يقف إلى جانب كبار المسؤولين المصريين الذين تعهدوا بعدم ترك الجارة ليبيا للفوضى. يوجد مصير مصري ليبي مشترك. على الفور جرى توقيع مزيد من الاتفاقات الثنائية لمساعدة الحكومة والجيش الوطني. فالجماعات المسلحة لا تهدد مستقبل الدولة الليبية فقط ولكنها تهدد أيضا الأمن القومي المصري، بداية من خطر تهريب الأسلحة عبر الحدود البالغ طولها بين البلدين أكثر من ألف كيلومتر، أو من خلال تهريب المتطرفين لتنفيذ عمليات إرهابية هنا وهناك. يتبنى الثني وجهة نظر لا تتوافق على ما يبدو مع التوجهات التي يريدها ممثل الأمم المتحدة في بلاده، السيد برناردينو ليون. يشرف ليون على الحوار بين الفرقاء الليبيين، لكن يبدو، منذ بدء الحوار في أغسطس (آب) الماضي، أن عملية الحوار تجري في طريق لا يفضله لا البرلمان الليبي ولا حكومته ولا جيشه ولا الجارة مصر.
توجد إشارات دولية، غربية بالأساس، عن أن طاولة الحوار لا بد أن تضم كل الأطراف بما فيها الجماعات التي تنظر إليها السلطة الشرعية في ليبيا، والسلطات المصرية، على أنها «جماعات إرهابية». ومع هذا يتحدث الثني عن ضرورة أن يتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ ليبيا من الفوضى التي تسير إليها.. لكن حتى حينما يفعل ذلك فإنه لا يعني دعوة جيوش العالم لاحتلال بلاده كما يحاول قادة الإخوان والتطرف الإيحاء بهذا..
يحتفظ الرجل في ذاكرته بتجارب مريرة عن التدخل الأجنبي. فقد احتلت إيطاليا بلدته عام 1924، ثم مر على بلدته أيضا الاحتلال الفرنسي عام 1940 وظل فيها لمدة 15 سنة. ولهذا، هو يريد من العالم، كما قال أكثر من مرة، رفع الحظر الدولي عن تسليح الجيش الليبي، وعدم المساواة بين الجيش الشرعي النظامي، والميليشيات المتطرفة التي لا بد من تفكيكها، وليس تشجيعها بالدخول في حوار سياسي، بينما هي تصمم على التمسك بالسلاح خارج سلطة الدولة. يرى الثني أن دعم المجتمع الدولي للبرلمان والحكومة، ليس انحيازا لطرف ضد آخر، بل هو انحياز للشرعية التي تمثل الشعب الليبي وفقا للاستحقاقات الانتخابية الأخيرة. هو يعتقد أنه من السهل بسط الاستقرار في البلاد في حال تدخل العالم وأجبر بعض الدول المعروفة بالمنطقة بالتوقف عن دعم الجماعات المتطرفة.
يقول صراحة وفي لغة لا تخلو من العتاب للمجتمع الدولي إن العالم صنف تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا والجماعات الموالية لها كتنظيمات إرهابية، مشيرا إلى أن العالم يقود تحالفا دوليا للقضاء على مثل هذه الجماعات في العراق وسوريا.. «أما في ليبيا فإنها تقاتل وحدها هؤلاء المتطرفين دون دعم».
وبعد واقعة ذبح داعش ليبيا لنحو 20 مصريا قبل أسبوع، يدق الثني ناقوس الخطر قائلا إن بلاده الواقعة أمام أوروبا على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، تخشى من تمدد وتسرب المتطرفين من العراق وسوريا إلى الأراضي الليبية بسبب الضربات التي تتعرض لها على يد القوات الدولية هناك.
المشاكل الرئيسية التي تواجه الثني تكمن في معاقل المتطرفين في درنة وبنغازي وطرابلس ومصراتة. وأثرت المواجهات العسكرية على المداخيل المالية للبلاد التي تعتمد أغلبها على تصدير النفط. لكن ابن غدامس، في الوقت نفسه، يبدو واثقا وهو يتحدث عن مستقبل بلاده.. ففي بنغازي أدت مؤازرة الجيش من جانب شباب المناطق أو ما يعرف بالصحوات، إلى تغيير الدفة لصالح سلطان الدولة. وفي درنة أدت الضربات المصرية الليبية المشتركة لقواعد تنظيم داعش إلى إخافة باقي ميليشيات المتشددين. وبالقرب من طرابلس أمكن إعادة العمل لاثنتين من القواعد المهمة للجيش..
يؤمن الثني بأن عودة حكومته لإدارة أعمالها من العاصمة والقضاء على التطرف وإنعاش الاقتصاد، مسألة وقت، حتى لو لم يتدخل المجتمع الدولي لمساندة السلطة المعترف بها.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.