الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

رئيس الحكومة الليبية يطمح في عودة حكومته للعمل من طرابلس

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول
TT

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

البدلات المدنية وربطات العنق الملونة لا تخفي الخلفية العسكرية التي جاء منها عبد الله الثني رئيس الحكومة الليبية.
لهذا تعول العديد من القيادات الليبية، سواء من داخل البرلمان أو خارجه، على قدرة هذا الرجل الأسمر القادم من واحات النخيل جنوب غربي طرابلس، في إدارة الدفة سعيا لكسب الحرب الصعبة مع ميليشيات متطرفة تديرها جماعة الإخوان وأنصارها من المتشددين.

حمل الثني العديد من الرتب العسكرية كان آخرها رتبة «عقيد» قبل أن ينال نصيبه من السجن في عهد معمر القذافي. ففي ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الجيش الليبي يخوض حربا في دولة تشاد المجاورة من ناحية الجنوب، ارتفعت لغة الانتقادات في بعض الأوساط الليبية بشأن جدوى هذه الحرب التي كانت تأكل الأخضر واليابس وقتها. ومن بين من جهروا بالقول ضد عمليات الجيش في تشاد أخ للثني نفسه.
منذ تلك الواقعة أصبحت عائلة الثني من العائلات المشكوك في ولائها للقذافي. لهذا بدأت تجربة الرجل مع التحقيقات والاعتقالات والسجون، خاصة بعد أن اضطر شقيقه، الذي كان طيارا في سلاح الجو الليبي، للفرار من البلاد احتجاجا على حرب مجنونة في صحراء تشاد راح ضحيتها آلاف الليبيين.
تبعد بلدة الثني، غدامس، نحو 540 كيلومترا، جنوب غربي العاصمة. كانت في الماضي ملتقى ومحطة للقوافل التجارية في شمال أفريقيا. هي واحة خضراء وسط الصحراء يبلغ عدد سكانها نحو 25 ألف نسمة، وقريبة من حدود ليبيا مع كل من تونس والجزائر. للوصول من غدامس إلى العاصمة لا بد من قطع طريق بري يمر عبر العديد من المدن والبلدات والواحات الواقعة بين سفوح ومرتفعات جبل نفوسة الشهير.
وبالإضافة إلى عمله العسكري في مناطق مختلفة، تمكن الثني من معرفة خارطة القبائل والعائلات في عموم البلاد. وانخرط في صفوف حكام الدولة الجديدة عقب الإطاحة بالقذافي ومقتله في سرت في خريف 2011. شغل الرجل المولود عام 1954 موقع وزير الدفاع في حكومة زيدان، وسط أجواء لم تكن تقل خطورة عن عهد القذافي. فالميليشيات التي كانت تقاتل نظام العقيد، رفضت إلقاء السلاح بعد «نجاح الثورة»، بل عملت على تعزيز قدراتها وتسليحها. وبينما كان مطلوبا من زيدان ووزير دفاعه، إعادة تأسيس الجيش الوطني، والقضاء على مظاهر التسلح، كانت الميليشيات، بمساعدة قادة من جماعة الإخوان، قد بدأت في التحدي والتحول إلى قوات بديلة للجيش، ومقاومة أي فرص لوجود كيان ذي شأن لوزارة الدفاع الجديدة.
ووفقا لما كان يدور في اجتماعات الدكتور زيدان الذي انتهى به المطاف حاليا للإقامة في القاهرة، فقد كان الثني من أشد المتحمسين للم شتات وزارة الدفاع والجيش الليبي الذي تعرض لضربات موجعة من طريقين.. الطريق الأول كان أيام الحرب ضد القذافي وجاءت منه صواريخ وقنابل طائرات حلف الناتو التي قضت على نحو 90 في المائة من قدرات الجيش، بحسب إفادة سابقة حصلت عليها «الشرق الأوسط» من رئيس أركان الجيش الحالي اللواء عبد الرزاق الناظوري.
أما الطريق الثاني الذي جاءت منه الضربات ضد وزارة الدفاع والجيش، فكان على يد قيادات جماعة الإخوان خاصة في عامي 2012 و2013 حين هيمنت الجماعة على قرار البرلمان وجانب كبير من القرار الحكومي. قاوم زيدان والثني هذا التوجه الإخواني الذي تسبب في إنهاء خدمة وعزل الآلاف من منتسبي الجيش تحت مبررات شتى من بينها أنهم كانوا يدافعون عن نظام القذافي. بغض النظر عن ألاعيب السياسة كان الليبيون الذين قاموا بثورة 17 فبراير 2011، يشعرون بالخطر، لأن أحلامهم في إقامة دولة جديدة مبنية على الديمقراطية والحرية، بدأت تتبخر. ولهذا جرى لأول مرة تنظيم مظاهرات ضد التسلح وضد الميليشيات وتؤيد الإسراع ببناء الجيش.
من هنا، أي منذ أواخر 2013، بدأ الثني يشعر أن مهمته كوزير للدفاع ليست هينة. فالمطلوب منه أولا إعادة بناء الوزارة وجيشها، وفي الوقت نفسه مواجهة الميليشيات المسلحة تسليحا قويا، وبعد ذلك بسط الأمن والاستقرار في المدن المضطربة وحماية الحدود مع دول الجوار.
هنا بدأت الميليشيات والمتطرفون في الرد لوأد ما يقوم به زيدان والثني، واشتعلت عمليات القنص والتفخيخ لضباط الجيش وسياراتهم خاصة في بنغازي التي تعد من أهم مدن ليبيا و«رمانة الميزان» فيها. أما في طرابلس فأخذت الميليشيات في التضييق على كل من يحمل توجهات زيدان والثني.
أولا وصل عدد من تعرضوا للقتل من ضباط وضباط صف وجنود لأكثر من 500 في عام واحد، في بنغازي فقط. وفي طرابلس شهد الثني عمليات العسف ضد توجهاته وتوجهات زيدان الذي ألقت الميليشيات القبض عليه في مشهد مهين، وذلك أثناء وجوده في أحد فنادق العاصمة. كما جرى الضغط على الثني أيضا بتدبير عملية أدت لاختطاف ابنه لعدة أشهر.
ومع ذلك كانت إدارة الثني للتداعيات تجري بطريقة تبدو محسوبة استنادا إلى خبراته التي مر بها عبر سنوات من الظروف الصعبة. حين قام البرلمان السابق بإقالة زيدان، اضطر للاستعانة بالثني لترؤس حكومة مؤقتة لمدة 15 يوما، حتى لا يحدث فراغ في السلطة.
يعد البرلمان في ليبيا أعلى سلطة في البلاد، وفقا للإعلان الدستوري الذي يدير الدولة انتظارا لتأسيس دستور دائم وانتظارا لانتخاب رئيس للدولة، وإقامة نظام مستقر. حين اقترب موعد انتهاء المدة القانونية لعمل البرلمان وحين جاء الوقت لإجراء انتخابات لاختيار برلمان جديد، بدأ قادة الإخوان يشعرون بالقلق بسبب تغير مزاج الرأي العام الليبي الرافض للفوضى والميليشيات.
يقول أحد من عملوا بالقرب من الثني إنه بدأ في ذلك الوقت يشعر بالانتعاش، وبدأ يعتمد على الرأي العام الليبي في قراراته وتحركاته. كانت الأجواء أمام الثني تدور على النحو التالي في النصف الأول من العام الماضي.. حكومة ضعيفة يقوم برلمان الإخوان بالتلاعب بها.. ضباط الجيش وجنوده يشعرون بالغضب بسبب ما يتعرضون له من هجمات منظمة من المتطرفين. قيادات شعبية وسياسية تدعو إلى التخلص من مظاهر التسلح وإقامة جيش قوي تعتمد عليه الدولة الجديدة.
هنا كانت صورة اللواء خليفة حفتر قد ترسخت في أذهان الليبيين على أساس أنه قادر على الرد بقوة على الميليشيات والتأسيس لجيش يمسك بزمام الأمور لتأمين الدولة والشعب. استمر الثني، المولود لأب كان يعمل في نيجيريا لسنوات، ممسكا بمقاليد رئاسة مجلس الوزراء والحكومة في ظل متغيرات صعبة وصراع مكشوف بين أنصار الدولة وأنصار الفوضى.
يمكن بكل بساطة أن تقول إنه شغل موقع رئيس الحكومة الليبية 3 مرات، بدأت عقب حجب البرلمان السابق الثقة عن سلفه الدكتور زيدان. وما زال الثني رئيس الحكومة حتى الآن رغم أنه حين بدأ في قيادة سفينة الدولة الليبية وجدها تتخبط وسط أمواج مضطربة وأعاصير عاصفة.
كان الثني وهو يتقلد موقعه في العاصمة طرابلس الغرب يأمل في أن تهدأ الأمور، لكن الرياح الهوجاء التي يثيرها المتطرفون، قذفت به وبحكومته بعيدا، وأخذ يدير شؤون البلاد من مدينة البيضاء الواقعة على بعد 1300 كيلومتر شرق العاصمة، وعلى بعد 200 كيلومتر من مقر البرلمان الذي اضطر هو الآخر لعقد جلساته في مدينة طبرق.
في هذه المنطقة الهشة التي ظهرت بين تمسك البرلمان السابق بالاستمرار في عقد جلساته، والبرلمان الجديد الذي يلتف حوله غالبية الليبيين، بدأ الثني في الضرب بيد من حديد من أجل تغيير المعادلة. فعقد جلسات سرية مع العدو اللدود للمتطرفين، وهو اللواء حفتر.. وانحاز للبرلمان الجديد، وبدأ يسلك طريقه حتى تمكن من الحصول على الاعتراف الدولي بحكومته والبرلمان الجديد الذي يعمل من خلاله، والجيش الوطني بقيادة حفتر.
رغم الوضع المعقد داخليا، أمسك الثني بالخيوط وبدأ في تحريكها بحسابات بالغة التعقيد وسط ظروف إقليمية ودولية غير مطمئنة. لهذا انطلق الثني إلى القاهرة لأنها الجارة الوحيدة تقريبا التي تحدثت بوضوح وحسم، ومنذ البداية، عن الخطر الذي أصبح يمثله المتطرفون في هذا البلد شاسع المساحة والغني بالنفط، والذي يعمل فيه مئات الألوف من المصريين.
أحد أهم المشاكل التي تعد كالكابوس أمام الثني، وتؤخر الحل في بلاده، إصرار عدة أطراف إقليمية ودولية على مساندة البرلمان المنتهية ولايته ومد المتطرفين بالأسلحة والأموال، ورفض أي تسوية سياسية داخلية لا يكون الإخوان جزءا منها، رغم تصنيف هذه الجماعة كمنظمة إرهابية، واتهام السلطات الليبية لها بالوقوف وراء الفوضى التي تضرب البلاد بما فيها حرق مطار طرابلس الدولي وتسهيل طرق تحرك المتطرفين وتسليحهم ومحاربتهم للسلطات الشرعية الليبية.
عاش الثني مراحل من حياته في أجواء واحات غدامس التي تعيش فيها قبيلتان من أصول أمازيغية، هما «وازيت» و«وليد». وظهرت الابتسامة العريضة لأول مرة على وجهه وهو يقف إلى جانب كبار المسؤولين المصريين الذين تعهدوا بعدم ترك الجارة ليبيا للفوضى. يوجد مصير مصري ليبي مشترك. على الفور جرى توقيع مزيد من الاتفاقات الثنائية لمساعدة الحكومة والجيش الوطني. فالجماعات المسلحة لا تهدد مستقبل الدولة الليبية فقط ولكنها تهدد أيضا الأمن القومي المصري، بداية من خطر تهريب الأسلحة عبر الحدود البالغ طولها بين البلدين أكثر من ألف كيلومتر، أو من خلال تهريب المتطرفين لتنفيذ عمليات إرهابية هنا وهناك. يتبنى الثني وجهة نظر لا تتوافق على ما يبدو مع التوجهات التي يريدها ممثل الأمم المتحدة في بلاده، السيد برناردينو ليون. يشرف ليون على الحوار بين الفرقاء الليبيين، لكن يبدو، منذ بدء الحوار في أغسطس (آب) الماضي، أن عملية الحوار تجري في طريق لا يفضله لا البرلمان الليبي ولا حكومته ولا جيشه ولا الجارة مصر.
توجد إشارات دولية، غربية بالأساس، عن أن طاولة الحوار لا بد أن تضم كل الأطراف بما فيها الجماعات التي تنظر إليها السلطة الشرعية في ليبيا، والسلطات المصرية، على أنها «جماعات إرهابية». ومع هذا يتحدث الثني عن ضرورة أن يتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ ليبيا من الفوضى التي تسير إليها.. لكن حتى حينما يفعل ذلك فإنه لا يعني دعوة جيوش العالم لاحتلال بلاده كما يحاول قادة الإخوان والتطرف الإيحاء بهذا..
يحتفظ الرجل في ذاكرته بتجارب مريرة عن التدخل الأجنبي. فقد احتلت إيطاليا بلدته عام 1924، ثم مر على بلدته أيضا الاحتلال الفرنسي عام 1940 وظل فيها لمدة 15 سنة. ولهذا، هو يريد من العالم، كما قال أكثر من مرة، رفع الحظر الدولي عن تسليح الجيش الليبي، وعدم المساواة بين الجيش الشرعي النظامي، والميليشيات المتطرفة التي لا بد من تفكيكها، وليس تشجيعها بالدخول في حوار سياسي، بينما هي تصمم على التمسك بالسلاح خارج سلطة الدولة. يرى الثني أن دعم المجتمع الدولي للبرلمان والحكومة، ليس انحيازا لطرف ضد آخر، بل هو انحياز للشرعية التي تمثل الشعب الليبي وفقا للاستحقاقات الانتخابية الأخيرة. هو يعتقد أنه من السهل بسط الاستقرار في البلاد في حال تدخل العالم وأجبر بعض الدول المعروفة بالمنطقة بالتوقف عن دعم الجماعات المتطرفة.
يقول صراحة وفي لغة لا تخلو من العتاب للمجتمع الدولي إن العالم صنف تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا والجماعات الموالية لها كتنظيمات إرهابية، مشيرا إلى أن العالم يقود تحالفا دوليا للقضاء على مثل هذه الجماعات في العراق وسوريا.. «أما في ليبيا فإنها تقاتل وحدها هؤلاء المتطرفين دون دعم».
وبعد واقعة ذبح داعش ليبيا لنحو 20 مصريا قبل أسبوع، يدق الثني ناقوس الخطر قائلا إن بلاده الواقعة أمام أوروبا على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، تخشى من تمدد وتسرب المتطرفين من العراق وسوريا إلى الأراضي الليبية بسبب الضربات التي تتعرض لها على يد القوات الدولية هناك.
المشاكل الرئيسية التي تواجه الثني تكمن في معاقل المتطرفين في درنة وبنغازي وطرابلس ومصراتة. وأثرت المواجهات العسكرية على المداخيل المالية للبلاد التي تعتمد أغلبها على تصدير النفط. لكن ابن غدامس، في الوقت نفسه، يبدو واثقا وهو يتحدث عن مستقبل بلاده.. ففي بنغازي أدت مؤازرة الجيش من جانب شباب المناطق أو ما يعرف بالصحوات، إلى تغيير الدفة لصالح سلطان الدولة. وفي درنة أدت الضربات المصرية الليبية المشتركة لقواعد تنظيم داعش إلى إخافة باقي ميليشيات المتشددين. وبالقرب من طرابلس أمكن إعادة العمل لاثنتين من القواعد المهمة للجيش..
يؤمن الثني بأن عودة حكومته لإدارة أعمالها من العاصمة والقضاء على التطرف وإنعاش الاقتصاد، مسألة وقت، حتى لو لم يتدخل المجتمع الدولي لمساندة السلطة المعترف بها.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.