خداع الإنترنت... فخ النصّابين لاجتذاب المغفلين

يتفاقم في مجتمعات تغلِّبْ أحاسيسها على الحقائق الموضوعية الموثقة

غابرييل بلوستون
غابرييل بلوستون
TT

خداع الإنترنت... فخ النصّابين لاجتذاب المغفلين

غابرييل بلوستون
غابرييل بلوستون

الإنترنت شبكة عالمية من المعلومات والبيانات والمتاجر الإلكترونية بشتى أنواعها – الحقيقية والزائفة - تعجّ، كما في العالم الحقيقي، بكافة الطيبات والكثير من الموبقات، فهي تقدم أفضل ما تمتلكه البشرية من معارف وخدمات لشتى متصفحيها من «عابري السبيل»، إلا أنها ملآى بشبكات الاحتيال التي تقدم العديد المتزايد من الخدمات المشبوهة، التي يروج لها النصابون واللصوص.
وهناك العشرات من الاحتيالات الإلكترونية: الاحتيال على البطاقات المصرفية وسرقة الهوية الشخصية بهدف انتحالها، وتسويق أدوية طبية زائفة، ومستحضرات تجميل، وأخرى ضد الشيخوخة كاذبة، والاحتيال في قطاع الأعمال، وجمع التبرعات الوهمية للفقراء أو أثناء الكوارث، واستهداف المسنين بهدف الكسب غير المشروع لأموالهم إضافة إلى اجتذاب الرواد إلى نوادي القمار غير الشرعية والابتزاز وطلب الفدية مقابل إعادة الملفات المحتجزة، وأخيرا الابتزاز الجنسي... ووصل الأمر بالمحتالين حتى إلى سرقة أموال خدمات دفن الموتى، وفقا لموقع مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي «إف بي آي» الذي يستعرض أكثر من 30 نوعا من الاحتيالات!
أحد الكتب الجديدة التي استعرضتها الصحافة البريطانية حديثا كتاب طريف بعنوان: «هايب» Hype الذي يمكن ترجمته: التضخيم أو التهويل أو مجازا في هذه الحالة - الخداع.
كتاب «الخداع: كيف استطاع المخادعون والنصابون والمحتالون أن يهيمنوا على الإنترنت - ولماذا كنا نتبعهم؟» للكاتبة الصحافية الأميركية غابرييل بلوستون الحاملة لشهادة جامعية في القانون، يتحدث بأسلوب صحافي مشوق - ومن دون التعمق في التحليل - عن وقائع النصب والاحتيال وكيف يقع آلاف الناس، ومن بينهم الأغنياء الباحثون عن الشهرة، ببساطة في أفخاخ المحتالين، التي ينصبونها بحذاقة متناهية.
تورد الكاتبة قصة مهرجان «فاير» الموسيقي الذي أعلن عن إقامته عامي 2016 و2017 في جزر البهاما، الذي وعد منظموه المشاركين فيه بإقامة من الطراز الأول، وبطعام متميز وحضور عدد من المشاهير. وإن أحب أي مشارك أن يستأجر لنفسه يختا مع طاه ممتاز فسيكون عليه أن يدفع 250 ألف دولار.
ورغم ضخامة مشروع ذلك المهرجان فإن منظمه بيلي مكفارلاند المدير التنفيذي لشركة «فاير ميديا» لم يكن يملك أي مؤهلات في ميدان تنظيم الاحتفالات. لكن ذلك لم يقلل من مشاعر الإثارة لدى الأغنياء الباحثين عن المتعة الذين اشتروا تذاكر المهرجان من الموقع الإلكتروني الحافل بصور عارضات الأزياء والذي لم يقدم أي تفاصيل وافية عن فقرات المهرجان، الذي تحمست وسائل الإعلام للترويج له.
وما أن تقاطر المشاركون إلى الجزيرة التي كان يقام المهرجان فيها حتى وجدوا أنفسهم في «لجّة من الفوضى» بدلا من تلك التجارب المتوقعة التي كان يرويها «المؤثرون» الإنترنتيون عما سوف يجري في المهرجان.
كانت هناك خيام «مهلهلة» للسكن، ولم يقابل المشاركون أي مشاهير ولم يروا يخوتا أو يتمتعوا بأي طعام فاخر... وأرسل أحدهم رسالة عبر «تويتر» انتشرت كالهشيم في النار، مع صورة لساندويتش من الجبن أعطي له بدلا من وجبة فخمة.
غابرييل بلوستون إضافة إلى عملها الصحافي تعمل أيضا كمنتجة أفلام، وقد أشرفت على إنتاج فيلم وثائقي حول نفس الحدث بعنوان «فاير Fyre: الحفلة التي لم تُقَمْ أبدا» لصالح شركة «نتفليكس». وهي تقول إن مئات من المشاركين في المهرجان دفعوا آلاف الدولارات من دون أن يتمتعوا بأية خدمات. ورغم تقديم مكفارلاند منظم مهرجان «فاير» إلى القضاء إلا أنه عاد ليمارس احتيالاته مجددا.
النتيجة التي تتوصل إليها الكاتبة أن مهرجان «فاير» ليس حدثا وحيدا في مجال تنظيم الأنشطة والفعاليات، بل إن قصتنا اليوم مع الإنترنت تتمثل في أنها «نهاية طبيعية لمجتمع يؤمن بأحاسيسه ومشاعره أكثر من ثقته بالحقائق الموضوعية الموثوقة».
والأمر الأكثر إثارة للدهشة أنه وبينما كان «المؤثرون» الكبار على منصات التواصل الاجتماعي الذين تلقوا مبالغ مالية من منظمي المهرجان، يروجون له، تبرع المروجون الأصغر شأنا - رغبة منهم للحاق بالأحداث ولتلميع صورتهم - بالترويج له أيضا.
وترى الكاتبة أن حقيقة المنصات الاجتماعية تتجلى اليوم باعتبارها مواقع مليئة بـ«المرايا والدخان» - منصات المخادعة، التي يحاول كل فرد فيها الظهور بصفات لا يملكها: الغنى والثروة، الأناقة والجمال، والمنصب والعلاقات الأقوى - لتسويق نفسه أو للترويج لشيء ما. تورد الكاتبة أمثلة عديدة عن أعمال الخداع الإنترنتي، فالسيدة كاولاين كالاواي قدمت نفسها على منصة «إنستغرام» بوصفها نجمة بعد أن دفعت أموالا لأشخاص لكتابة شروح لصورها، ومن ثم هبط عليها فجأة عقد بقيمة 500 ألف دولار لكتابة كتاب عن حياتها الملهمة بوصفها سيدة أميركية في أوروبا.
أما الروسية أنّا سوروكين فهي إمبراطورة الخداع والمكر إذ قدمت نفسها باسم «أنّا ديلفي» بوصفها سليلة عائلة ألمانية غنية. وظلت على مدى أربع سنوات تعيش حياة مرفهة بأموال الآخرين... فقط لأنها أوحت لهم بأنها ثرية. وقد ساعدها محاميها في اختراق البنوك لتحصل على قروض بمبلغ 100 ألف دولار، لكنها وقعت في قبضة العدالة وحكم عليها بالسجن بين 4 و12 سنة.
وتتساءل الكاتبة: لماذا يقع الناس في فخ هؤلاء النصابين؟ وتجيب أن أحد الأسباب يكمن ربما في أن مكفارلاند نفسه كان يحلم بنفس أحلام الأشخاص الذين سرق أموالهم. «لقد كان يجمع الأموال بنجاح من هنا وهنا، وكان يبيع للآخرين نفس الأشياء التي كان يبحث هو عنها: وهي فرصة العيش تحت أضواء الشهرة لأشخاص خاسرين»!
ويشير الكتاب إلى خلاصة مفادها أن الإنترنت تجعلنا ضعفاء أمام أمثال مكفارلاند حول العالم، «إذ وكما يعتقد، فإن النصابين والمحتالين ظهروا منذ عصور ما قبل التاريخ... إلا أن أمرا عظيما حدث أخيرا - هو توظيفهم للتكنولوجيا الحديثة كعامل قوي لدعم أعمالهم». ومع ذلك فإن سحر شخصية المحتالين لا تزال تمثل محور نشاطهم. ومثال أنا سوروكين شاهد على ذلك.
وأخيرا، فالأمر الأسوأ من كل ذلك أن المحتالين والنصابين لا يلاقون الردع الكافي... لأن الضحايا أنفسهم يسارعون إلى الوقوع في أفخاخهم المشبوهة.
الخداع:
كيف استطاع المخادعون والنصابون والمحتالون أن يهيمنوا على الإنترنت - ولماذا كنا نتبعهم؟
Hype: How Scammers، Grifters، Con Artists and Influencers Are Taking Over the Internet - and Why We›re Following
المؤلفة: غابرييل بلوستون


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.