تشاد... نيران الصراع الداخلي تهدد ليبيا والسودان

وفاة ديبي المفاجئة تُحيط مستقبل المنطقة بـ«الغموض»

إدريس ديبي
إدريس ديبي
TT

تشاد... نيران الصراع الداخلي تهدد ليبيا والسودان

إدريس ديبي
إدريس ديبي

وسط «ساحة الأمة» بالعاصمة التشادية نجامينا، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهدداً كل من يحاول المساس بأمن البلاد التي لطالما كانت حليفته ضد المتشددين في منطقة الساحل الأفريقي، قائلاً إن «فرنسا لن تسمح لأحد اليوم ولا غداً، أن يمس استقرار تشاد ووحدة أراضيه».
كلمات الرئيس الفرنسي جاءت إبّان تشييع جنازة الرئيس التشادي إدريس ديبي إيتنو، الذي توفي في معارك مع المتمردين الشهر الماضي، مخلفاً حالة من الاضطراب في دولة، عانت على مدار السنوات الـ60 الماضية من حروب أهلية ونزاعات المسلحة، امتدت إلى دول الجوار. وحقاً، بادرت هذه الدول إلى الإعراب عن قلقها العميق مما يحدث في الدولة الواقعة وسط القارة السمراء، إذ أصدر قادة السودان والنيجر وليبيا بياناً مشتركاً، دعوا فيه إلى «حوار وطني بين الأطراف المتنازعة، وتغليب مصلحة البلاد». وأعلنوا «تكثيف الجهود لمراقبة الحدود المشتركة بين دولهم وبين تشاد تنفيذاً لاتفاقية نجامينا الموقعة عام 2018»، وتمركزت قوات الجيش الليبي على الحدود مع تشاد في حالة استنفار، لمنع دخول وخروج القوات التابعة للمتمردين التشاديين.

جاءت وفاة الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي المفاجئة بعد أيام من فوزه بولاية سادسة، لتفاقم حالة الاضطراب في «مثلث» السودان - تشاد - ليبيا، وهذا بينما تحاول الدول الثلاث التقاط أنفاسها، محاوِلة تنفيذ بنود اتفاقات سلام، كانت رغم هشاشتها المخرج الوحيد الذي وضع حداً لسنوات من القلائل والنزاعات المسلحة. ووسط طموحات الاستقرار بعد فوز ديبي بولاية جديدة، خرج عظيم برماندوا، المتحدث باسم الجيش التشادي، يوم 20 أبريل (نيسان) الماضي، ليعلن مقتل الرئيس المجدّد له خلال المعارك ضد المتمردين، وفجأة خيّمت على المنطقة حالة القلق تخوفاً من انفجار بركان يهدد دول منطقة الساحل الأفريقي، وخاصة السودان وليبيا.

- جماعات عابرة للحدود
سبب الوفاة المعلن قد يكون أحد أسباب القلق، إذ قتل الرئيس خلال معارك مع متمردين تشاديين من «جبهة التغيير والوفاق»، التي تتخذ من ليبيا مقراً لها، لينهي حكم إدريس ديبي الذي استمر 30 سنة، خاض خلالها سلسلة مواجهات مع معارضيه، منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 1990. بعدما أطاح بسلفه حسين حبري.
منذ ذلك التاريخ، قاد ديبي عمليات عسكرية كثيرة ضد المتمردين، وكان على رأس القوات في الهجوم ضد تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي، في العام الماضي، على شواطئ بحيرة تشاد. وفق ريتشارد مونكريف، مدير «مشروع وسط أفريقيا» في «مجموعة الأزمات الدولية»، كان ديبي «حريصاً على تقديم نفسه للشعب كرجل عسكري يسعى لتأمين البلاد، بهدف دعم سلطته السياسية». وحقاً، هي الصورة التي «تكرست بوفاته وهو يقاتل»، لكن في الوقت ذاته أثارت مخاوف من أن يتزعزع مجدداً استقرار تشاد التي عانت منذ استقلالها عن فرنسا، عام 1960، من نزاعات وحروب أهلية، وربما كانت فترة حكم ديبي هي الأكثر هدوءاً.
من جانبها، قالت السفيرة منى عمر، مساعدة وزير الخارجية المصري السابق، لـ«الشرق الأوسط» معلّقة: «ما يحدث في تشاد سيكون له تأثير بالتأكيد على الدول المجاورة. ذلك أن المتمردين والمرتزقة التشاديين على الحدود الليبية مارسوا أنشطة كانت سبباً في مقتل ديبي، والأوضاع حالياً مقلقة». وحقاً، تعتبر حالة الانفلات الأمني في ليبيا، بما فيها انتشار السلاح والمرتزقة، من العوامل التي تنذر بانفجار الأوضاع. وهنا يقول الدبلوماسي السوداني الدكتور علي يوسف، رئيس «اللجنة التنفيذية للمبادرة السودانية لتعزيز العلاقات مع مصر»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «اتفاق السلام في ليبيا ينص على عودة الجنود المرتزقة إلى دولهم. هذا أمر سهل في السودان حيث سيندمج الجنود العائدون في الجيش السوداني، إلا أن الوضع مختلف بالنسبة لجنود تشاد، ولا سيما أنهم دخلوا في معارك مسلحة شرسة ضد الجيش التشادي... كان الرئيس التشادي نفسه أحد ضحاياها».
ما يستحق الإشارة، أن اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا وقّع خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بين «حكومة الوفاق الوطني» التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، وقوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة خليفة حفتر، ومقره شرق ليبيا. ومن بين بنود الاتفاق الدعوة إلى رحيل القوات المسلحة الأجنبية، وبينها القوات الآتية من تشاد، والتي «قاتلت بالوكالة لسنوات دعماً لحفتر»، وفق ما تُقدر كلوديا غازيني، الخبيرة في الشأن الليبي بـ«مجموعة الأزمات الدولية». وهي توضح هنا: «ربما يكون ذلك سبباً في محاولة (جبهة التغيير والوفاق) التوغل في تشاد بعد تجميعها ترسانة من الأسلحة أثناء فترة عملها مع الجيش الوطني الليبي، إذ تظهر الأحداث الأخيرة في تشاد أن تسليح القوات الأجنبية في ليبيا ستكون عواقبه خطيرة على استقرار المنطقة بأكملها».

- التُبو والنزاع الحدودي
ووفقاً لغازيني، فإن أحد أسباب النزاع في المنطقة الحدودية بين تشاد وليبيا أنها غنية بالذهب، بينما يحظى المتمردون بتعاطف ودعم من بعض ليبيّي الجنوب، خاصة قبائل التُبو. ومن ثم تتساءل إلى «أي مدى ستستمر المواجهة وحرية حركة الجماعات المسلحة العابرة للحدود»، وتضيف أن «ما سيحدث (مستقبلاً) يتوقف على الوضع في ليبيا نفسها على الصعيد السياسي».
حالة القلق هذه يقابلها شيء من التفاؤل داخل تشاد، حتى إن كانت هناك حركات مسلحة عابرة للحدود. إذ يرى الدكتور صالح أبو بكر، أستاذ العلوم السياسية ورئيس مركز البحوث والدراسات الإقليمية والدولية في تشاد، أن «هذه الحركات تظل حركات تشادية، حتى لو كان مركزها ليبيا». ويتابع في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «الأمور الآن تحت السيطرة، ولا يتوقع أن تكون لها ارتدادات خارج الحدود... فالحياة تسير بشكل طبيعي في تشاد، والعمل منضبط بعد تشكّل الحكومة الانتقالية».
هذا، وتتخذ جبهة «التغيير والوفاق»، التي أسسها اللواء محمد مهدي علي، عام 2016 في تانوا، بشمال تشاد، من ليبيا مركزاً لها، مع جماعات تشادية أخرى عابرة للحدود. وتقدر كلوديا غازيني أعداد هؤلاء بنحو 2000 شخص، وجدوا في ليبيا مكاناً مناسباً لهم، بعدما طُردوا من إقليم دارفور بغرب السودان عقب توقيع اتفاق السلام بين السودان وتشاد عام 2010، ومن ثم ساهم الانفلات الأمني في أعقاب ثورة عام 2011 في خلق بيئة خصبة لهم، سمحت لهم بالعمل والحركة والتسلح.

- أهمية دارفور
لقد مكّن اتفاق السلام التشادي - السوداني الدولتين من التركيز على المخاطر الأخرى التي تهدد حدودهما، خاصة في أعقاب حقبة ما بعد حكم معمر القذافي في ليبيا. وكانت الدولتان تدعمان أطرافاً متعارضة في ليبيا، فبينما تحاول السودان إيجاد نظام ليبي صديق، ركّزت تشاد على منع الجماعات المسلحة من استغلال حالة الانفلات الأمني في ليبيا واختراق حدودها. وفي الوقت نفسه، ثبتت الجماعات المسلحة من تشاد والسودان أقدامها في ليبيا، وعبرت جماعات المعارضة المسلحة من تشاد وإقليم دارفور وميليشيات «الجنجويد» السودانية الحدود بشكل منتظم. ووفق دراسة صادرة عام 2017 عن «مشروع الأسلحة الصغيرة» في سويسرا؛ «تعتبر الإخفاقات المتكررة لاتفاقيات السلام وعمليات إعادة دمج المتمردين، وقلة الفرص الاقتصادية، وغياب البدائل السياسية في تشاد، والاضطرابات في ليبيا، واستمرار العنف في دارفور... من العوامل الرئيسة المفضية إلى تدويل الفصائل المسلحة في المنطقة».
تزوج إدريس ديبي عام 2012 من أماني هلال، ابنة أهم قادة ميليشيات «الجنجويد» السودانية، وكان نزاع دارفور سبباً في توتر العلاقات بين الدول الثلاث، عندما دعم القذافي متمردي دارفور، وزوّدهم بالسلاح عبر تشاد، وكانت الهويات المشتركة والروابط العائلية وانتماء ديبي لقبائل الزغاوة سبباً في دعم متمردي دارفور، إذ أعلن ديبي رسمياً ذلك عام 2005، وهو ما دفع الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى الرد بدعم المعارضة التشادية المسلحة من قبائل التبو التي تسكن في شمال تشاد.
الأزمة الأخيرة في تشاد تزامنت مع مشكلة مدينة الجنينة السودانية، بغرب دارفور على الحدود بين البلدين. وفيها نشب نزاع قبلي بين قبيلتين عربية وزنجية راح ضحيته 150 شخصاً. ويقول يوسف إن «الاضطراب في أي من البلدين يهدد البلد الآخر». إلا أنه في الوقت الحالي يستبعد أن «تعود الأوضاع للتأزم في إقليم دارفور، الذي يشهد الآن حالة من الاستقرار بعد توقيع اتفاق جوبا»، مؤكداً أن «السنوات الماضية أثبتت إمكانية معالجة مشكلات الحدود بين البلدين من خلال التعاون». ثم يشرح: «كان التداخل العرقي وعلاقات النسب التي تجمع بين القبائل التشادية ومثيلتها السودانية في دارفور من أبرز الأسباب في نزاعات الماضي، خاصة أن الرئيس الراحل ديبي نفسه كان متزوجاً من سودانية». وهذا أمر تؤكده السفيرة عمر بقولها إن «الوضع في دارفور الآن شأن داخلي، ولن يكون لتشاد تأثير عليه».

- «المجلس العسكري» الانتقالي
بعد وفاة ديبي شكّل الجيش التشادي «مجلساً عسكرياً» انتقالياً سيحكم البلاد لمدة 18 شهراً، ويضم 15 عضواً برئاسة محمد إدريس ديبي (37 سنة)، نجل الرئيس الراحل. ومع أن «المجلس العسكري» تعهد بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وعرضت المعارضة الهدنة، رفض «المجلس» قائلاً: «لن نجلس مع إرهابيين». وفي المقابل، شككت المعارضة في نيات «المجلس» وتخوفت من أن يستولي على الحكم. وخرجت مظاهرات في شوارع تشاد، سقط على إثرها 6 ضحايا على الأقل، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي للتنديد بقمع المظاهرات، رغم دعمه للمجلس العسكري.
ولم يقتصر الأمر على مظاهرات المعارضة، بل تسعى الجماعات المسلحة لاستغلال الوضع، ما يهدد بدخول البلاد في حرب أهلية جديدة، إذ قال كينغابي أوغوزيمي دي تابول، المتحدث باسم «جبهة التغيير والوفاق»، إن «الجبهة تخطط لمواصلة الهجوم». وأعلن مجلس «القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية»، التي تتمركز في ليبيا، عن دعمه لـ«جبهة التغيير والوفاق». وفي محاولة لاحتواء الموقف والسيطرة على الأوضاع المتفجرة، شكّل «المجلس العسكري» حكومة «وحدة وطنية» تضم 40 عضواً.
في هذه الأثناء، تعرضت فرنسا، التي كانت تعتبر ديبي «فتاها المدلّل» لانتقادات بسبب موقفها من تشاد، إذ يرى مراقبون أن رغبة فرنسا في الحفاظ على مصالحها في واحدة من مستعمراتها القديمة، جعلتها تدعم ديبي باعتباره رمزاً للاستقرار في وجه خطر الفوضى. وبعد وفاته، دعمت فرنسا «المجلس العسكري» للأسباب ذاتها. ويذكر أن «المجلس الأطلسي الأميركي» أصدر ورقة بحثية، نهاية الشهر الماضي، طالب فيها الولايات المتحدة بـ«لعب دور في أزمة تشاد»، وحمّل فرنسا «مسؤولية تردي الأوضاع في ليبيا وتشاد ومنطقة الساحل».
وبعكس المعارضة، يرى أنصار إدريس ديبي أن «المجلس العسكري» هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع الظروف الاستثنائية التي تمر بها تشاد، ويتفق معهم الدبلوماسي السوداني علي يوسف، قائلاً إن «المجلس العسكري هو الخطوة الوحيدة التي تجنب تشاد الانهيار والدخول في حرب أهلية، والحفاظ على استقلال السلطة المركزية وتماسك الجيش، خاصة بعد تشكيل حكومة مدنية». ويعرب يوسف عن أمله في أن «تنجح تشاد في تبني النموذج السوداني الذي يوازن بين حكومة مدنية ومجلس عسكري»، وتتفق معه منى عمر بأن «الوضع حالياً تحت السيطرة بعد تشكيل الحكومة الانتقالية التي تضم ممثلين عن مختلف حركات المعارضة التشادية. وهو ما سيؤدي إلى استقرار الوضع خلال الفترة القليلة المقبلة، ولو ظلت هناك اعتراضات من المعارضة على أداء الحكومة، وشكل الانتخابات».

- تشاد... وموقعها الجغرافي الحساس
تقع تشاد في وسط أفريقيا، وتحدّها ليبيا من الشمال، والسودان من الشرق، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب، والكاميرون ونيجيريا من الجنوب الغربي، والنيجر من الغرب. وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين؛ شمالي صحراوي قاحل، وجنوبي استوائي خصب، ويقدّر عدد سكانها بـ16 مليون نسمة، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، ويتكلمون نحو 100 لغة ولهجة محلية. وتضم البلاد أكثر من 260 قبيلة، بينها 25 قبيلة عربية.
وتلعب تشاد دوراً مهماً في منظمة «مجموعة دول الساحل»، التي أسست عام 2014. وتضم 5 دول، هي موريتانيا ومالي وتشاد والنيجر وبوركينافاسو. وتساهم تشاد بحوال 1400 جندي في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، إضافة إلى 1200 جندي في منطقة الحدود الثلاثية غير المضطربة بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وهناك مخاوف من أن يؤدي تأزم الوضع الداخلي في تشاد إلى سحب هذه القوات للمساعدة في معالجة المشكلات الداخلية، ما يجعل وفاة إدريس ديبي «ضربة قاسية لها»، بحسب مونكريف.
من جهة أخرى، تحصل مجموعات المتمردين التشاديين على دعم من مجموعات المعارضة في ليبيا، وهو ما يجعل اللحظة الحالية مليئة بالمخاطر والفرص. أما المخاطر فتكمن في احتمال توغل متمردي الشمال نحو الجنوب والسيطرة على العاصمة نجامينا، بجانب أن هناك مخاوف من احتمال انقسام الجيش، فليس الجميع سعداء بأعضاء «المجلس العسكري». وأخيراً من المحتمل أن يرفض «المجلس» نقل السلطة لمدنيين، وهذا هو سبب المظاهرات الحالية في الشوارع.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.