تشاد... نيران الصراع الداخلي تهدد ليبيا والسودان

وفاة ديبي المفاجئة تُحيط مستقبل المنطقة بـ«الغموض»

إدريس ديبي
إدريس ديبي
TT

تشاد... نيران الصراع الداخلي تهدد ليبيا والسودان

إدريس ديبي
إدريس ديبي

وسط «ساحة الأمة» بالعاصمة التشادية نجامينا، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهدداً كل من يحاول المساس بأمن البلاد التي لطالما كانت حليفته ضد المتشددين في منطقة الساحل الأفريقي، قائلاً إن «فرنسا لن تسمح لأحد اليوم ولا غداً، أن يمس استقرار تشاد ووحدة أراضيه».
كلمات الرئيس الفرنسي جاءت إبّان تشييع جنازة الرئيس التشادي إدريس ديبي إيتنو، الذي توفي في معارك مع المتمردين الشهر الماضي، مخلفاً حالة من الاضطراب في دولة، عانت على مدار السنوات الـ60 الماضية من حروب أهلية ونزاعات المسلحة، امتدت إلى دول الجوار. وحقاً، بادرت هذه الدول إلى الإعراب عن قلقها العميق مما يحدث في الدولة الواقعة وسط القارة السمراء، إذ أصدر قادة السودان والنيجر وليبيا بياناً مشتركاً، دعوا فيه إلى «حوار وطني بين الأطراف المتنازعة، وتغليب مصلحة البلاد». وأعلنوا «تكثيف الجهود لمراقبة الحدود المشتركة بين دولهم وبين تشاد تنفيذاً لاتفاقية نجامينا الموقعة عام 2018»، وتمركزت قوات الجيش الليبي على الحدود مع تشاد في حالة استنفار، لمنع دخول وخروج القوات التابعة للمتمردين التشاديين.

جاءت وفاة الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي المفاجئة بعد أيام من فوزه بولاية سادسة، لتفاقم حالة الاضطراب في «مثلث» السودان - تشاد - ليبيا، وهذا بينما تحاول الدول الثلاث التقاط أنفاسها، محاوِلة تنفيذ بنود اتفاقات سلام، كانت رغم هشاشتها المخرج الوحيد الذي وضع حداً لسنوات من القلائل والنزاعات المسلحة. ووسط طموحات الاستقرار بعد فوز ديبي بولاية جديدة، خرج عظيم برماندوا، المتحدث باسم الجيش التشادي، يوم 20 أبريل (نيسان) الماضي، ليعلن مقتل الرئيس المجدّد له خلال المعارك ضد المتمردين، وفجأة خيّمت على المنطقة حالة القلق تخوفاً من انفجار بركان يهدد دول منطقة الساحل الأفريقي، وخاصة السودان وليبيا.

- جماعات عابرة للحدود
سبب الوفاة المعلن قد يكون أحد أسباب القلق، إذ قتل الرئيس خلال معارك مع متمردين تشاديين من «جبهة التغيير والوفاق»، التي تتخذ من ليبيا مقراً لها، لينهي حكم إدريس ديبي الذي استمر 30 سنة، خاض خلالها سلسلة مواجهات مع معارضيه، منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 1990. بعدما أطاح بسلفه حسين حبري.
منذ ذلك التاريخ، قاد ديبي عمليات عسكرية كثيرة ضد المتمردين، وكان على رأس القوات في الهجوم ضد تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي، في العام الماضي، على شواطئ بحيرة تشاد. وفق ريتشارد مونكريف، مدير «مشروع وسط أفريقيا» في «مجموعة الأزمات الدولية»، كان ديبي «حريصاً على تقديم نفسه للشعب كرجل عسكري يسعى لتأمين البلاد، بهدف دعم سلطته السياسية». وحقاً، هي الصورة التي «تكرست بوفاته وهو يقاتل»، لكن في الوقت ذاته أثارت مخاوف من أن يتزعزع مجدداً استقرار تشاد التي عانت منذ استقلالها عن فرنسا، عام 1960، من نزاعات وحروب أهلية، وربما كانت فترة حكم ديبي هي الأكثر هدوءاً.
من جانبها، قالت السفيرة منى عمر، مساعدة وزير الخارجية المصري السابق، لـ«الشرق الأوسط» معلّقة: «ما يحدث في تشاد سيكون له تأثير بالتأكيد على الدول المجاورة. ذلك أن المتمردين والمرتزقة التشاديين على الحدود الليبية مارسوا أنشطة كانت سبباً في مقتل ديبي، والأوضاع حالياً مقلقة». وحقاً، تعتبر حالة الانفلات الأمني في ليبيا، بما فيها انتشار السلاح والمرتزقة، من العوامل التي تنذر بانفجار الأوضاع. وهنا يقول الدبلوماسي السوداني الدكتور علي يوسف، رئيس «اللجنة التنفيذية للمبادرة السودانية لتعزيز العلاقات مع مصر»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «اتفاق السلام في ليبيا ينص على عودة الجنود المرتزقة إلى دولهم. هذا أمر سهل في السودان حيث سيندمج الجنود العائدون في الجيش السوداني، إلا أن الوضع مختلف بالنسبة لجنود تشاد، ولا سيما أنهم دخلوا في معارك مسلحة شرسة ضد الجيش التشادي... كان الرئيس التشادي نفسه أحد ضحاياها».
ما يستحق الإشارة، أن اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا وقّع خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بين «حكومة الوفاق الوطني» التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، وقوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة خليفة حفتر، ومقره شرق ليبيا. ومن بين بنود الاتفاق الدعوة إلى رحيل القوات المسلحة الأجنبية، وبينها القوات الآتية من تشاد، والتي «قاتلت بالوكالة لسنوات دعماً لحفتر»، وفق ما تُقدر كلوديا غازيني، الخبيرة في الشأن الليبي بـ«مجموعة الأزمات الدولية». وهي توضح هنا: «ربما يكون ذلك سبباً في محاولة (جبهة التغيير والوفاق) التوغل في تشاد بعد تجميعها ترسانة من الأسلحة أثناء فترة عملها مع الجيش الوطني الليبي، إذ تظهر الأحداث الأخيرة في تشاد أن تسليح القوات الأجنبية في ليبيا ستكون عواقبه خطيرة على استقرار المنطقة بأكملها».

- التُبو والنزاع الحدودي
ووفقاً لغازيني، فإن أحد أسباب النزاع في المنطقة الحدودية بين تشاد وليبيا أنها غنية بالذهب، بينما يحظى المتمردون بتعاطف ودعم من بعض ليبيّي الجنوب، خاصة قبائل التُبو. ومن ثم تتساءل إلى «أي مدى ستستمر المواجهة وحرية حركة الجماعات المسلحة العابرة للحدود»، وتضيف أن «ما سيحدث (مستقبلاً) يتوقف على الوضع في ليبيا نفسها على الصعيد السياسي».
حالة القلق هذه يقابلها شيء من التفاؤل داخل تشاد، حتى إن كانت هناك حركات مسلحة عابرة للحدود. إذ يرى الدكتور صالح أبو بكر، أستاذ العلوم السياسية ورئيس مركز البحوث والدراسات الإقليمية والدولية في تشاد، أن «هذه الحركات تظل حركات تشادية، حتى لو كان مركزها ليبيا». ويتابع في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «الأمور الآن تحت السيطرة، ولا يتوقع أن تكون لها ارتدادات خارج الحدود... فالحياة تسير بشكل طبيعي في تشاد، والعمل منضبط بعد تشكّل الحكومة الانتقالية».
هذا، وتتخذ جبهة «التغيير والوفاق»، التي أسسها اللواء محمد مهدي علي، عام 2016 في تانوا، بشمال تشاد، من ليبيا مركزاً لها، مع جماعات تشادية أخرى عابرة للحدود. وتقدر كلوديا غازيني أعداد هؤلاء بنحو 2000 شخص، وجدوا في ليبيا مكاناً مناسباً لهم، بعدما طُردوا من إقليم دارفور بغرب السودان عقب توقيع اتفاق السلام بين السودان وتشاد عام 2010، ومن ثم ساهم الانفلات الأمني في أعقاب ثورة عام 2011 في خلق بيئة خصبة لهم، سمحت لهم بالعمل والحركة والتسلح.

- أهمية دارفور
لقد مكّن اتفاق السلام التشادي - السوداني الدولتين من التركيز على المخاطر الأخرى التي تهدد حدودهما، خاصة في أعقاب حقبة ما بعد حكم معمر القذافي في ليبيا. وكانت الدولتان تدعمان أطرافاً متعارضة في ليبيا، فبينما تحاول السودان إيجاد نظام ليبي صديق، ركّزت تشاد على منع الجماعات المسلحة من استغلال حالة الانفلات الأمني في ليبيا واختراق حدودها. وفي الوقت نفسه، ثبتت الجماعات المسلحة من تشاد والسودان أقدامها في ليبيا، وعبرت جماعات المعارضة المسلحة من تشاد وإقليم دارفور وميليشيات «الجنجويد» السودانية الحدود بشكل منتظم. ووفق دراسة صادرة عام 2017 عن «مشروع الأسلحة الصغيرة» في سويسرا؛ «تعتبر الإخفاقات المتكررة لاتفاقيات السلام وعمليات إعادة دمج المتمردين، وقلة الفرص الاقتصادية، وغياب البدائل السياسية في تشاد، والاضطرابات في ليبيا، واستمرار العنف في دارفور... من العوامل الرئيسة المفضية إلى تدويل الفصائل المسلحة في المنطقة».
تزوج إدريس ديبي عام 2012 من أماني هلال، ابنة أهم قادة ميليشيات «الجنجويد» السودانية، وكان نزاع دارفور سبباً في توتر العلاقات بين الدول الثلاث، عندما دعم القذافي متمردي دارفور، وزوّدهم بالسلاح عبر تشاد، وكانت الهويات المشتركة والروابط العائلية وانتماء ديبي لقبائل الزغاوة سبباً في دعم متمردي دارفور، إذ أعلن ديبي رسمياً ذلك عام 2005، وهو ما دفع الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى الرد بدعم المعارضة التشادية المسلحة من قبائل التبو التي تسكن في شمال تشاد.
الأزمة الأخيرة في تشاد تزامنت مع مشكلة مدينة الجنينة السودانية، بغرب دارفور على الحدود بين البلدين. وفيها نشب نزاع قبلي بين قبيلتين عربية وزنجية راح ضحيته 150 شخصاً. ويقول يوسف إن «الاضطراب في أي من البلدين يهدد البلد الآخر». إلا أنه في الوقت الحالي يستبعد أن «تعود الأوضاع للتأزم في إقليم دارفور، الذي يشهد الآن حالة من الاستقرار بعد توقيع اتفاق جوبا»، مؤكداً أن «السنوات الماضية أثبتت إمكانية معالجة مشكلات الحدود بين البلدين من خلال التعاون». ثم يشرح: «كان التداخل العرقي وعلاقات النسب التي تجمع بين القبائل التشادية ومثيلتها السودانية في دارفور من أبرز الأسباب في نزاعات الماضي، خاصة أن الرئيس الراحل ديبي نفسه كان متزوجاً من سودانية». وهذا أمر تؤكده السفيرة عمر بقولها إن «الوضع في دارفور الآن شأن داخلي، ولن يكون لتشاد تأثير عليه».

- «المجلس العسكري» الانتقالي
بعد وفاة ديبي شكّل الجيش التشادي «مجلساً عسكرياً» انتقالياً سيحكم البلاد لمدة 18 شهراً، ويضم 15 عضواً برئاسة محمد إدريس ديبي (37 سنة)، نجل الرئيس الراحل. ومع أن «المجلس العسكري» تعهد بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وعرضت المعارضة الهدنة، رفض «المجلس» قائلاً: «لن نجلس مع إرهابيين». وفي المقابل، شككت المعارضة في نيات «المجلس» وتخوفت من أن يستولي على الحكم. وخرجت مظاهرات في شوارع تشاد، سقط على إثرها 6 ضحايا على الأقل، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي للتنديد بقمع المظاهرات، رغم دعمه للمجلس العسكري.
ولم يقتصر الأمر على مظاهرات المعارضة، بل تسعى الجماعات المسلحة لاستغلال الوضع، ما يهدد بدخول البلاد في حرب أهلية جديدة، إذ قال كينغابي أوغوزيمي دي تابول، المتحدث باسم «جبهة التغيير والوفاق»، إن «الجبهة تخطط لمواصلة الهجوم». وأعلن مجلس «القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية»، التي تتمركز في ليبيا، عن دعمه لـ«جبهة التغيير والوفاق». وفي محاولة لاحتواء الموقف والسيطرة على الأوضاع المتفجرة، شكّل «المجلس العسكري» حكومة «وحدة وطنية» تضم 40 عضواً.
في هذه الأثناء، تعرضت فرنسا، التي كانت تعتبر ديبي «فتاها المدلّل» لانتقادات بسبب موقفها من تشاد، إذ يرى مراقبون أن رغبة فرنسا في الحفاظ على مصالحها في واحدة من مستعمراتها القديمة، جعلتها تدعم ديبي باعتباره رمزاً للاستقرار في وجه خطر الفوضى. وبعد وفاته، دعمت فرنسا «المجلس العسكري» للأسباب ذاتها. ويذكر أن «المجلس الأطلسي الأميركي» أصدر ورقة بحثية، نهاية الشهر الماضي، طالب فيها الولايات المتحدة بـ«لعب دور في أزمة تشاد»، وحمّل فرنسا «مسؤولية تردي الأوضاع في ليبيا وتشاد ومنطقة الساحل».
وبعكس المعارضة، يرى أنصار إدريس ديبي أن «المجلس العسكري» هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع الظروف الاستثنائية التي تمر بها تشاد، ويتفق معهم الدبلوماسي السوداني علي يوسف، قائلاً إن «المجلس العسكري هو الخطوة الوحيدة التي تجنب تشاد الانهيار والدخول في حرب أهلية، والحفاظ على استقلال السلطة المركزية وتماسك الجيش، خاصة بعد تشكيل حكومة مدنية». ويعرب يوسف عن أمله في أن «تنجح تشاد في تبني النموذج السوداني الذي يوازن بين حكومة مدنية ومجلس عسكري»، وتتفق معه منى عمر بأن «الوضع حالياً تحت السيطرة بعد تشكيل الحكومة الانتقالية التي تضم ممثلين عن مختلف حركات المعارضة التشادية. وهو ما سيؤدي إلى استقرار الوضع خلال الفترة القليلة المقبلة، ولو ظلت هناك اعتراضات من المعارضة على أداء الحكومة، وشكل الانتخابات».

- تشاد... وموقعها الجغرافي الحساس
تقع تشاد في وسط أفريقيا، وتحدّها ليبيا من الشمال، والسودان من الشرق، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب، والكاميرون ونيجيريا من الجنوب الغربي، والنيجر من الغرب. وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين؛ شمالي صحراوي قاحل، وجنوبي استوائي خصب، ويقدّر عدد سكانها بـ16 مليون نسمة، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، ويتكلمون نحو 100 لغة ولهجة محلية. وتضم البلاد أكثر من 260 قبيلة، بينها 25 قبيلة عربية.
وتلعب تشاد دوراً مهماً في منظمة «مجموعة دول الساحل»، التي أسست عام 2014. وتضم 5 دول، هي موريتانيا ومالي وتشاد والنيجر وبوركينافاسو. وتساهم تشاد بحوال 1400 جندي في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، إضافة إلى 1200 جندي في منطقة الحدود الثلاثية غير المضطربة بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وهناك مخاوف من أن يؤدي تأزم الوضع الداخلي في تشاد إلى سحب هذه القوات للمساعدة في معالجة المشكلات الداخلية، ما يجعل وفاة إدريس ديبي «ضربة قاسية لها»، بحسب مونكريف.
من جهة أخرى، تحصل مجموعات المتمردين التشاديين على دعم من مجموعات المعارضة في ليبيا، وهو ما يجعل اللحظة الحالية مليئة بالمخاطر والفرص. أما المخاطر فتكمن في احتمال توغل متمردي الشمال نحو الجنوب والسيطرة على العاصمة نجامينا، بجانب أن هناك مخاوف من احتمال انقسام الجيش، فليس الجميع سعداء بأعضاء «المجلس العسكري». وأخيراً من المحتمل أن يرفض «المجلس» نقل السلطة لمدنيين، وهذا هو سبب المظاهرات الحالية في الشوارع.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.