تشاد... نيران الصراع الداخلي تهدد ليبيا والسودان

وفاة ديبي المفاجئة تُحيط مستقبل المنطقة بـ«الغموض»

إدريس ديبي
إدريس ديبي
TT

تشاد... نيران الصراع الداخلي تهدد ليبيا والسودان

إدريس ديبي
إدريس ديبي

وسط «ساحة الأمة» بالعاصمة التشادية نجامينا، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهدداً كل من يحاول المساس بأمن البلاد التي لطالما كانت حليفته ضد المتشددين في منطقة الساحل الأفريقي، قائلاً إن «فرنسا لن تسمح لأحد اليوم ولا غداً، أن يمس استقرار تشاد ووحدة أراضيه».
كلمات الرئيس الفرنسي جاءت إبّان تشييع جنازة الرئيس التشادي إدريس ديبي إيتنو، الذي توفي في معارك مع المتمردين الشهر الماضي، مخلفاً حالة من الاضطراب في دولة، عانت على مدار السنوات الـ60 الماضية من حروب أهلية ونزاعات المسلحة، امتدت إلى دول الجوار. وحقاً، بادرت هذه الدول إلى الإعراب عن قلقها العميق مما يحدث في الدولة الواقعة وسط القارة السمراء، إذ أصدر قادة السودان والنيجر وليبيا بياناً مشتركاً، دعوا فيه إلى «حوار وطني بين الأطراف المتنازعة، وتغليب مصلحة البلاد». وأعلنوا «تكثيف الجهود لمراقبة الحدود المشتركة بين دولهم وبين تشاد تنفيذاً لاتفاقية نجامينا الموقعة عام 2018»، وتمركزت قوات الجيش الليبي على الحدود مع تشاد في حالة استنفار، لمنع دخول وخروج القوات التابعة للمتمردين التشاديين.

جاءت وفاة الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي المفاجئة بعد أيام من فوزه بولاية سادسة، لتفاقم حالة الاضطراب في «مثلث» السودان - تشاد - ليبيا، وهذا بينما تحاول الدول الثلاث التقاط أنفاسها، محاوِلة تنفيذ بنود اتفاقات سلام، كانت رغم هشاشتها المخرج الوحيد الذي وضع حداً لسنوات من القلائل والنزاعات المسلحة. ووسط طموحات الاستقرار بعد فوز ديبي بولاية جديدة، خرج عظيم برماندوا، المتحدث باسم الجيش التشادي، يوم 20 أبريل (نيسان) الماضي، ليعلن مقتل الرئيس المجدّد له خلال المعارك ضد المتمردين، وفجأة خيّمت على المنطقة حالة القلق تخوفاً من انفجار بركان يهدد دول منطقة الساحل الأفريقي، وخاصة السودان وليبيا.

- جماعات عابرة للحدود
سبب الوفاة المعلن قد يكون أحد أسباب القلق، إذ قتل الرئيس خلال معارك مع متمردين تشاديين من «جبهة التغيير والوفاق»، التي تتخذ من ليبيا مقراً لها، لينهي حكم إدريس ديبي الذي استمر 30 سنة، خاض خلالها سلسلة مواجهات مع معارضيه، منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 1990. بعدما أطاح بسلفه حسين حبري.
منذ ذلك التاريخ، قاد ديبي عمليات عسكرية كثيرة ضد المتمردين، وكان على رأس القوات في الهجوم ضد تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي، في العام الماضي، على شواطئ بحيرة تشاد. وفق ريتشارد مونكريف، مدير «مشروع وسط أفريقيا» في «مجموعة الأزمات الدولية»، كان ديبي «حريصاً على تقديم نفسه للشعب كرجل عسكري يسعى لتأمين البلاد، بهدف دعم سلطته السياسية». وحقاً، هي الصورة التي «تكرست بوفاته وهو يقاتل»، لكن في الوقت ذاته أثارت مخاوف من أن يتزعزع مجدداً استقرار تشاد التي عانت منذ استقلالها عن فرنسا، عام 1960، من نزاعات وحروب أهلية، وربما كانت فترة حكم ديبي هي الأكثر هدوءاً.
من جانبها، قالت السفيرة منى عمر، مساعدة وزير الخارجية المصري السابق، لـ«الشرق الأوسط» معلّقة: «ما يحدث في تشاد سيكون له تأثير بالتأكيد على الدول المجاورة. ذلك أن المتمردين والمرتزقة التشاديين على الحدود الليبية مارسوا أنشطة كانت سبباً في مقتل ديبي، والأوضاع حالياً مقلقة». وحقاً، تعتبر حالة الانفلات الأمني في ليبيا، بما فيها انتشار السلاح والمرتزقة، من العوامل التي تنذر بانفجار الأوضاع. وهنا يقول الدبلوماسي السوداني الدكتور علي يوسف، رئيس «اللجنة التنفيذية للمبادرة السودانية لتعزيز العلاقات مع مصر»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «اتفاق السلام في ليبيا ينص على عودة الجنود المرتزقة إلى دولهم. هذا أمر سهل في السودان حيث سيندمج الجنود العائدون في الجيش السوداني، إلا أن الوضع مختلف بالنسبة لجنود تشاد، ولا سيما أنهم دخلوا في معارك مسلحة شرسة ضد الجيش التشادي... كان الرئيس التشادي نفسه أحد ضحاياها».
ما يستحق الإشارة، أن اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا وقّع خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بين «حكومة الوفاق الوطني» التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، وقوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة خليفة حفتر، ومقره شرق ليبيا. ومن بين بنود الاتفاق الدعوة إلى رحيل القوات المسلحة الأجنبية، وبينها القوات الآتية من تشاد، والتي «قاتلت بالوكالة لسنوات دعماً لحفتر»، وفق ما تُقدر كلوديا غازيني، الخبيرة في الشأن الليبي بـ«مجموعة الأزمات الدولية». وهي توضح هنا: «ربما يكون ذلك سبباً في محاولة (جبهة التغيير والوفاق) التوغل في تشاد بعد تجميعها ترسانة من الأسلحة أثناء فترة عملها مع الجيش الوطني الليبي، إذ تظهر الأحداث الأخيرة في تشاد أن تسليح القوات الأجنبية في ليبيا ستكون عواقبه خطيرة على استقرار المنطقة بأكملها».

- التُبو والنزاع الحدودي
ووفقاً لغازيني، فإن أحد أسباب النزاع في المنطقة الحدودية بين تشاد وليبيا أنها غنية بالذهب، بينما يحظى المتمردون بتعاطف ودعم من بعض ليبيّي الجنوب، خاصة قبائل التُبو. ومن ثم تتساءل إلى «أي مدى ستستمر المواجهة وحرية حركة الجماعات المسلحة العابرة للحدود»، وتضيف أن «ما سيحدث (مستقبلاً) يتوقف على الوضع في ليبيا نفسها على الصعيد السياسي».
حالة القلق هذه يقابلها شيء من التفاؤل داخل تشاد، حتى إن كانت هناك حركات مسلحة عابرة للحدود. إذ يرى الدكتور صالح أبو بكر، أستاذ العلوم السياسية ورئيس مركز البحوث والدراسات الإقليمية والدولية في تشاد، أن «هذه الحركات تظل حركات تشادية، حتى لو كان مركزها ليبيا». ويتابع في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «الأمور الآن تحت السيطرة، ولا يتوقع أن تكون لها ارتدادات خارج الحدود... فالحياة تسير بشكل طبيعي في تشاد، والعمل منضبط بعد تشكّل الحكومة الانتقالية».
هذا، وتتخذ جبهة «التغيير والوفاق»، التي أسسها اللواء محمد مهدي علي، عام 2016 في تانوا، بشمال تشاد، من ليبيا مركزاً لها، مع جماعات تشادية أخرى عابرة للحدود. وتقدر كلوديا غازيني أعداد هؤلاء بنحو 2000 شخص، وجدوا في ليبيا مكاناً مناسباً لهم، بعدما طُردوا من إقليم دارفور بغرب السودان عقب توقيع اتفاق السلام بين السودان وتشاد عام 2010، ومن ثم ساهم الانفلات الأمني في أعقاب ثورة عام 2011 في خلق بيئة خصبة لهم، سمحت لهم بالعمل والحركة والتسلح.

- أهمية دارفور
لقد مكّن اتفاق السلام التشادي - السوداني الدولتين من التركيز على المخاطر الأخرى التي تهدد حدودهما، خاصة في أعقاب حقبة ما بعد حكم معمر القذافي في ليبيا. وكانت الدولتان تدعمان أطرافاً متعارضة في ليبيا، فبينما تحاول السودان إيجاد نظام ليبي صديق، ركّزت تشاد على منع الجماعات المسلحة من استغلال حالة الانفلات الأمني في ليبيا واختراق حدودها. وفي الوقت نفسه، ثبتت الجماعات المسلحة من تشاد والسودان أقدامها في ليبيا، وعبرت جماعات المعارضة المسلحة من تشاد وإقليم دارفور وميليشيات «الجنجويد» السودانية الحدود بشكل منتظم. ووفق دراسة صادرة عام 2017 عن «مشروع الأسلحة الصغيرة» في سويسرا؛ «تعتبر الإخفاقات المتكررة لاتفاقيات السلام وعمليات إعادة دمج المتمردين، وقلة الفرص الاقتصادية، وغياب البدائل السياسية في تشاد، والاضطرابات في ليبيا، واستمرار العنف في دارفور... من العوامل الرئيسة المفضية إلى تدويل الفصائل المسلحة في المنطقة».
تزوج إدريس ديبي عام 2012 من أماني هلال، ابنة أهم قادة ميليشيات «الجنجويد» السودانية، وكان نزاع دارفور سبباً في توتر العلاقات بين الدول الثلاث، عندما دعم القذافي متمردي دارفور، وزوّدهم بالسلاح عبر تشاد، وكانت الهويات المشتركة والروابط العائلية وانتماء ديبي لقبائل الزغاوة سبباً في دعم متمردي دارفور، إذ أعلن ديبي رسمياً ذلك عام 2005، وهو ما دفع الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى الرد بدعم المعارضة التشادية المسلحة من قبائل التبو التي تسكن في شمال تشاد.
الأزمة الأخيرة في تشاد تزامنت مع مشكلة مدينة الجنينة السودانية، بغرب دارفور على الحدود بين البلدين. وفيها نشب نزاع قبلي بين قبيلتين عربية وزنجية راح ضحيته 150 شخصاً. ويقول يوسف إن «الاضطراب في أي من البلدين يهدد البلد الآخر». إلا أنه في الوقت الحالي يستبعد أن «تعود الأوضاع للتأزم في إقليم دارفور، الذي يشهد الآن حالة من الاستقرار بعد توقيع اتفاق جوبا»، مؤكداً أن «السنوات الماضية أثبتت إمكانية معالجة مشكلات الحدود بين البلدين من خلال التعاون». ثم يشرح: «كان التداخل العرقي وعلاقات النسب التي تجمع بين القبائل التشادية ومثيلتها السودانية في دارفور من أبرز الأسباب في نزاعات الماضي، خاصة أن الرئيس الراحل ديبي نفسه كان متزوجاً من سودانية». وهذا أمر تؤكده السفيرة عمر بقولها إن «الوضع في دارفور الآن شأن داخلي، ولن يكون لتشاد تأثير عليه».

- «المجلس العسكري» الانتقالي
بعد وفاة ديبي شكّل الجيش التشادي «مجلساً عسكرياً» انتقالياً سيحكم البلاد لمدة 18 شهراً، ويضم 15 عضواً برئاسة محمد إدريس ديبي (37 سنة)، نجل الرئيس الراحل. ومع أن «المجلس العسكري» تعهد بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وعرضت المعارضة الهدنة، رفض «المجلس» قائلاً: «لن نجلس مع إرهابيين». وفي المقابل، شككت المعارضة في نيات «المجلس» وتخوفت من أن يستولي على الحكم. وخرجت مظاهرات في شوارع تشاد، سقط على إثرها 6 ضحايا على الأقل، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي للتنديد بقمع المظاهرات، رغم دعمه للمجلس العسكري.
ولم يقتصر الأمر على مظاهرات المعارضة، بل تسعى الجماعات المسلحة لاستغلال الوضع، ما يهدد بدخول البلاد في حرب أهلية جديدة، إذ قال كينغابي أوغوزيمي دي تابول، المتحدث باسم «جبهة التغيير والوفاق»، إن «الجبهة تخطط لمواصلة الهجوم». وأعلن مجلس «القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية»، التي تتمركز في ليبيا، عن دعمه لـ«جبهة التغيير والوفاق». وفي محاولة لاحتواء الموقف والسيطرة على الأوضاع المتفجرة، شكّل «المجلس العسكري» حكومة «وحدة وطنية» تضم 40 عضواً.
في هذه الأثناء، تعرضت فرنسا، التي كانت تعتبر ديبي «فتاها المدلّل» لانتقادات بسبب موقفها من تشاد، إذ يرى مراقبون أن رغبة فرنسا في الحفاظ على مصالحها في واحدة من مستعمراتها القديمة، جعلتها تدعم ديبي باعتباره رمزاً للاستقرار في وجه خطر الفوضى. وبعد وفاته، دعمت فرنسا «المجلس العسكري» للأسباب ذاتها. ويذكر أن «المجلس الأطلسي الأميركي» أصدر ورقة بحثية، نهاية الشهر الماضي، طالب فيها الولايات المتحدة بـ«لعب دور في أزمة تشاد»، وحمّل فرنسا «مسؤولية تردي الأوضاع في ليبيا وتشاد ومنطقة الساحل».
وبعكس المعارضة، يرى أنصار إدريس ديبي أن «المجلس العسكري» هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع الظروف الاستثنائية التي تمر بها تشاد، ويتفق معهم الدبلوماسي السوداني علي يوسف، قائلاً إن «المجلس العسكري هو الخطوة الوحيدة التي تجنب تشاد الانهيار والدخول في حرب أهلية، والحفاظ على استقلال السلطة المركزية وتماسك الجيش، خاصة بعد تشكيل حكومة مدنية». ويعرب يوسف عن أمله في أن «تنجح تشاد في تبني النموذج السوداني الذي يوازن بين حكومة مدنية ومجلس عسكري»، وتتفق معه منى عمر بأن «الوضع حالياً تحت السيطرة بعد تشكيل الحكومة الانتقالية التي تضم ممثلين عن مختلف حركات المعارضة التشادية. وهو ما سيؤدي إلى استقرار الوضع خلال الفترة القليلة المقبلة، ولو ظلت هناك اعتراضات من المعارضة على أداء الحكومة، وشكل الانتخابات».

- تشاد... وموقعها الجغرافي الحساس
تقع تشاد في وسط أفريقيا، وتحدّها ليبيا من الشمال، والسودان من الشرق، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب، والكاميرون ونيجيريا من الجنوب الغربي، والنيجر من الغرب. وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين؛ شمالي صحراوي قاحل، وجنوبي استوائي خصب، ويقدّر عدد سكانها بـ16 مليون نسمة، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، ويتكلمون نحو 100 لغة ولهجة محلية. وتضم البلاد أكثر من 260 قبيلة، بينها 25 قبيلة عربية.
وتلعب تشاد دوراً مهماً في منظمة «مجموعة دول الساحل»، التي أسست عام 2014. وتضم 5 دول، هي موريتانيا ومالي وتشاد والنيجر وبوركينافاسو. وتساهم تشاد بحوال 1400 جندي في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، إضافة إلى 1200 جندي في منطقة الحدود الثلاثية غير المضطربة بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وهناك مخاوف من أن يؤدي تأزم الوضع الداخلي في تشاد إلى سحب هذه القوات للمساعدة في معالجة المشكلات الداخلية، ما يجعل وفاة إدريس ديبي «ضربة قاسية لها»، بحسب مونكريف.
من جهة أخرى، تحصل مجموعات المتمردين التشاديين على دعم من مجموعات المعارضة في ليبيا، وهو ما يجعل اللحظة الحالية مليئة بالمخاطر والفرص. أما المخاطر فتكمن في احتمال توغل متمردي الشمال نحو الجنوب والسيطرة على العاصمة نجامينا، بجانب أن هناك مخاوف من احتمال انقسام الجيش، فليس الجميع سعداء بأعضاء «المجلس العسكري». وأخيراً من المحتمل أن يرفض «المجلس» نقل السلطة لمدنيين، وهذا هو سبب المظاهرات الحالية في الشوارع.



تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،