المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي

الجيل الثالث من مشرّعي «الفظاعة» تغلب عليه حداثة السن

المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي
TT

المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي

المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي

أعلن تنظيم داعش في 10 فبراير (شباط) الحالي أنه سيترجم كتاب أبو الحسن الأزدي، القاعدي السابق والداعشي الحالي «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفار معاقبة بالمثل»، إلى اللغة الإنجليزية، وذلك بعد أيام قليلة من جريمة حرق الطيّار معاذ الكساسبة حيًّا أمام أعين العالم. ويذكر أنه بعد قتل العمال المصريين في ليبيا أعلن أحد نشطائهم مفتخرا أنهم جعلونا نواصل الحداد، من الكساسبة للمصريين في ليبيا، وأن التنظيم يصر على جعل كل أيامنا حدادا!
«داعش»، كما وصفه أبو محمد المقدسي، شيخ شيوخه سابقا، أجاد ابتداع السنن السيئة الواحدة تلو أختها، إلا أن هذا التنظيم المتمدّد حربيا وعمليا منكمش نظريا! إنه يهاجم خصومه على الأرض لكنه يتراجع أمامهم على مستوى الخطاب. وسنعرض في ما يلي، من باب التعريف كخطوة أولى، ومن ثم للتحليل والتعرّف، تراجم أهم ثلاثة منظّرين شرعيين لـ«داعش»، وأهم كتاباتهم دفاعا عنه. وهي المسائل التي ناقشناها تفصيلا في موضع آخر، وتغلب على الثلاثة سمات مشتركة هي: حداثة السن نسبيا، والتصلّب في الرأي، وتقديم المصلحة على السياسة الشرعية، والشدة على الخصوم اتهاما وتفسيقا وإخراجا يتماهى مع ممارسات التنظيم أمامهم!
أضلاع هذا «المثلث» الشرعي هم: البنعلي والشنقيطي والأزدي. وهؤلاء الثلاثة وضعوا الرسائل والكتيّبات في تشريع خلافة أبو بكر البغدادي وصحتها، وشرعية تنظيمه وبيعتهما معا. وتغلب عليهم جميعا المحاججة والتبرير الآيديولوجي لهذا التنظيم، وكتاباتهم ليست تأسيسا علميا وشرعيا عميقا بقدر ما هي ردود وسجال يمكن وصفه بـ«الفظاعة» التي تفسر فظاعة ممارسات التنظيم نفسه!
المنظّر الأول: «أبو همام الأثري»
أعلن تركي البنعلي انضمامه لـ«داعش» يوم 28 فبراير 2014، وقد احتفت حسابات المتشددين على الشبكات الاجتماعية بوصوله إلى سوريا عن طريق العراق. وكتب على حسابه في ذلك التاريخ على موقع «تويتر» تصريحا جاء فيه أنه نفر «للجهاد في الشام»، حسب قوله. ثم ظهر في يوليو (تموز) 2014 في شريط فيديو داخل أحد المساجد بمحافظة الرقّة السورية، التي يسيطر عليها التنظيم، وهو يلقن المصلين نصّ البيعة للبغدادي الذي كان قد أعلن تنصيب نفسه «أميرا للمؤمنين». ولا نستبعد دورا جوهريا للبنعلي في تأكيد ودفع هذا الطموح للبغدادي وشرعنة هذه الخلافة منذ قدومه. وهو يقدم دروسا أسبوعية كل يوم خميس لعناصر التنظيم نشرت بعضها مؤسسة «الغرباء» للإعلام، الذراع الإعلامية لـ«داعش».
يعتبر البنعلي صغير السن نسبيا، إذ إنه من مواليد 4 سبتمبر (أيلول) 1984 (ذي الحجة عام 1404هـ)، ويمكن حسبانه على «الجيل الثالث» من منظري المتشددين مع السعودي المحبوس حاليا عبد العزيز بن راشد العنزي الطويلعي، المشهور بـ«أخو من أطاع الله»، وأيضا «أبو البراء» عثمان آل نازح العسيري، إذا اعتبرنا أن جيل أبو مصعب الزرقاوي وأبو أنس الشامي ويوسف العييري وفارس آل شويل الزهراني هو الجيل الثاني، بعد الجيل الأول الذي يضم المقدسي وأبو قتادة وأيمن الظواهري وعبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى وغيرهم. ولعل ثمة درجات في التطرف والتطرف العنيف وليس فقط مراتب عمرية أو جيلية، فما نلاحظه أن الجيل الثاني أكثر تشددا من الأول، والجيل الثالث أكثر تشددا من الثاني.
ولد البنعلي في المحرق بالبحرين، لأسرة وعائلة مرموقة مشهورة في مملكة البحرين. وتخرج في كلية الإمام الأوزاعي في العاصمة اللبنانية بيروت، بعدما درس لمدة سنة في كلية الدراسات الإسلامية بدبي في دولة الإمارات المتحدة، ورحل منها بعد سجنه لمدة سنة، وعمل بعد تخرّجه إمام مسجد في سوق المحرق بالبحرين، وإمام مسجد العمال. ثم أقيل من الإمامة وعمل بالتدريس في مدرسة عمر بن عبد العزيز في مدينة الحالة، ثم أقيل مجددا.
وكان سبب إقالته من الإمامة - كما يذكر في سيرته - تعليقه فتوى الشيخ المصري الراحل أبو الأشبال أحمد محمد شاكر (توفي عام 1958) في حُكم من ناصر الكفّار على المسلمين، وهي فتوى اعتبرها الظواهري في رسالته «التبرئة»، واعتبر صاحبها بها إحدى مرجعيات «القاعدة» الفكرية، وجرى تكرارها وتردادها في مختلف كتابات المتشددين، رغم عدم صحة فهمهم لها. فهؤلاء أخذوا شاردة تخصّ مقاومة الاحتلال الإنجليزي في مصر والفرنسي في الجزائر، ولم ينتبهوا لتحريم الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله - للاغتيال في مقاله «الإيمان قيد الفتك» في تعليقه على اغتيال محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر عقب حرب 1948، شأنهم في ابتسارات واختزالات خطابات الكثيرين.
ويكنى البنعلي بـ«أبو سفيان السُلمي» نسبة لبني سُليم، غير أنه يوقّع أكثر كتبه بكنيته «أبو همام بكر بن عبد العزيز الأثري»، أو «أبو بكر الأثري»، وبه وقع ترجمته التي صدرت في مايو (أيار) 2014 لأبو محمد العدناني. ولقد نشط البنعلي بعد انضمامه لـ«داعش»، وكتب عددا من الكتيبات والرسائل في تأييده، نذكر منها ما يلي:
1) رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» التي صدرت في 21 يوليو 2013، الموافق - حسبما أرخها - 13 رمضان سنة 1434 هجرية، وهي أول رسالة شرعية في الدعوة لبيعة «أمير داعش» البغدادي خليفة، وسنعرض لها بعد قليل.
2) «الإفادة في الرد ّعلى أبو قتادة» في 29 أبريل (نيسان) 2014. وله في مدحه سابقا «القلادة في ترجمة أبو قتادة»، وهو ما يعبر عن الانقلاب الآيديولوجي والحاد في شخصيته وأفكاره.
3) وضد أبو محمد المقدسي كتب رسالة بعنوان «شيخي السابق هذا فراق بيني وبينك» في 31 مايو 2014، بعد أن كان يفتخر بأنه من تلامذته ومن أعضاء اللجنة الشرعية في «منبر التوحيد والجهاد» الذي كان يديره الأخير.
4) وله أيضا كتيب ردا على شبهة «الخارجية ضد داعش» بعنوان «تبصير المحاجج بالفرق بين رجال الدولة والخوارج»، صدر عام 2014، وفيه اعتمد على أن الخوارج كانوا يكفّرون بالكبيرة، و«داعش» لا يكفّرون بالكبيرة، وهذا غير صحيح فليس كل الخوارج يكفّرون بالكبيرة سواء من خرجوا على عثمان أو من خرجوا على علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما). والنصوص تؤكد أن «الخارجية» صفة قبل أن تكون فرقة أو علامة على فرقة لم تقبل بهذا الوصف، كما لم يقبل به «داعش» وغيره، بل كانوا يرون أنفسهم جماعة المسلمين أو الشراة!.. مما يبطل حجته.
5) كتاب آخر بعنوان «القيافة في عدم اشتراط التمكين الكامل للخلافة» (2014)، استدل به على تفرّق الخلافات من عصر معاوية ويزيد والحسين وابن الزبير، وليته استنتج ما استنتجه أئمة الأحكام السلطانية من أن هذا الأمر تاريخي وفقهي وليس دينيا أو من أصول الاعتقاد، كما قال الجويني في الإرشاد وغيره.
6) وله في الدفاع عن قيادات تنظيم داعش «اللفظ اللساني في ترجمة العدناني: منجنيق الدولة الإسلامية» (2014)، ويبدو فيه أن العدناني، الذي كان قريبا من الزرقاوي، لم يحصل على أي شهادة تعليمية، كما تنكر البنعلي لتلقيه فترة على المقدسي الذي تواصل معه في قضية الكساسبة أخيرا.
7) وله أيضا في الرد على اتهام أبو بكر البغدادي بطلب الإمارة رسالة بعنوان «مختصر العبارة في حكم طلب الإمارة» (2014)، استند فيها لشرعية التغلب والاستيلاء.
المنظّر الثاني: «أبو عبيدة الشنقيطي»
لا تتوافر معلومات عن السيرة الذاتية لـ«أبو منذر/ أبو عبيدة الشنقيطي»، أو تعليمه أو نشأته أو تطوره التعليمي، إلا جدل على أحد منتديات المتشددين في 17 و18 فبراير 2013، ذكر فيه أحد عارفيه أن اسمه أحمد المحرزي - وقيل حسن - والأصح أحمد الشنقيطي المغربي.
تعلّم الشنقيطي على الألباني، وقيل إنه أثنى عليه حتى ردّ على مغربي سأله «أتسألني وفيكم أبو عبيدة؟»، وكنيته أبو عبيدة الشنقيطي، ولقبه أبو عبيدة المحرزي المراكشي. وهو موصوف من عارفيه بالعزلة، وله تسجيلات صوتية في التفسير وعلوم القرآن، وغيرهما، إلا أنه ليس مشهورا في أوساط المتشددين، ولقد طلبت له ترجمة وافية من أحدهم لم نرها إلى الآن. ولكن لأبو عبيدة المذكور كتابات عديدة منشورة على موقع «منبر التوحيد والجهاد»، وأخرى نشرتها مؤسسة «الغرباء» التي تمثل الذراع الإعلامية لـ«داعش».
ونذكر من كتب «أبو عبيدة الشنقيطي» - في موضوع بحثنا - أي نصرة «داعش»، كتيباته ورسائله التالية:
1) «رفع الحسام نصرة لدولة الإسلام في العراق والشام» المنشور عام 2014، وقد كتب مثله بنفس العنوان تقريبا في الدفاع عن «القاعدة»: «رفع الحسام ضد من خذل القاعدة»!
2) «أبلغ المعاني في نصح أبو حفص الموريتاني» المنشور أيضا عام 2014.
3) «النصيحة الشنقيطية لجماعة أنصار الشريعة الليبية»، وطبع بمؤسسة «الغرباء» في أكتوبر (تشرين الأول) 2014.
4) «سبحانك هذا بهتان عظيم: في الرد على الشيخ والمنظر أبو محمد المقدسي». وهو ما يدل على تجرؤ هؤلاء وتصلبهم على آرائهم.

* المنظر الثالث: «أبو الحسن الأزدي»
* لا توجد معلومات متوافرة تترجم لأبو الحسن الأزدي، ولكن نرجح كونه خليجيا، ممّن قاتلوا في العراق، وهو معادٍ أشد العداء للمخالفين عموما، كـ«النصرة» و«السرورية»، وله رسالة في الرد على الشيخ ناصر العمر وسلمان العودة وغيرهما بعنوان «السرورية فصام يولد الانشطار»، قدم لها هاني السباعي في مرحلة الأزدي الأولى.
وما يبدو من شأن الأزدي أنه كان، كشأن البنعلي والشنقيطي، منظرا منتميا متصلّبا لفكر «القاعدة» والمتشددين، وله في هذه المرحلة كتابات نصرة لـ«القاعدة» والتوجّهات المتطرفة، من أخطرها كتابه المنشور عام 2011 «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفّار معاقبة بالمثل»، وكتيّب «الصوارم الباترة والمشهورة في الذبّ عن رسالة مَعالم الطائفة المنصورة». وله أيضا في هذه المرحلة «الحجة الناهضة في بيان موقف المسلم من عدوان الرافضة»، ومنها كتاب في نصرة «القاعدة» وآخر في الرد على بعض الشبه في الفتوح، ومنها كتيب بعنوان «التجلية والنقض لمدرك قول مجيز التصويت للدستور»، وتتضح معالم شدته وعنفه أيضا في نشره قصيدة مطوّلة بعد مقتل السفير الأميركي لدى ليبيا بعنوان «تحية إكبار وتعزير لمن أحرق السفارات وجندل السفير».
ومن أهم مؤلفات الأزدي في المرحلة الداعشية الكتيبات والرسائل الآتية:
1) رسالة بعنوان «موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام: اعتراضات وجوابات»، طبع بمؤسسة «المأسدة» الإعلامية، شبكة «أنصار المجاهدين» عام 2013.
2) رسالة ضد أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة بعنوان «القائد الجولاني بين النصيحة والتغرير» في مارس (آذار) 2013، ردّ فيه على الدكتور إياد قنيبي، أحد منظّري «النصرة» وهو أردني، ونشرتها مؤسسة «البتار» الإعلامية في هذا التاريخ.
3) وله رسالة بعنوان «الإجافة لشبه خصوم دولة الخلافة» في 26 صفحة، منشورة في رمضان سنة 1435 هجرية، الموافق ميلاديا يوليو 2014 بعد إعلان «داعش» خلافته بأيام.
4) رسالة بعنوان «موجبات الانضمام للدولة الإسلامية».
5) كتيب بعنوان «توبيخ الغالطين على إمام الحرمين فيما نسبوه إليه من دعوى تقويض الإمامة بنقصان التمكين» (الطبعة الثانية: مؤسسة «الغرباء» للإعلام 2013). وكما سبقت الإشارة سينشر «داعش»، حسب إعلان أحد مغرديه يوم 10 فبراير، في أعقاب قتل معاذ الكساسبة بأيام، الترجمة الإنجليزية لكتابه المشار إليه سابقا «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفار معاقبة بالمثل»، لمزيد من النكاية وابتداع سنن سيئة ما أنزل الله بها من سلطان، فالكتاب كما هو تبريرهم لقتل الكساسبة قائم على حجة جواز كل شيء في القصاص!.. وتجاهل نصوصا ثابتة في عصمة دماء غير المقاتلين من النساء والصبيان، وهو ما صنعه النبي (صلى الله عليه وسلّم) مع الكفار، ولكن يبدو أن «داعش» يجيد فقط استحلال كل الآخرين والأغيار.

* كاتب مصري متخصص
في الحركات الأصولية



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.