المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي

الجيل الثالث من مشرّعي «الفظاعة» تغلب عليه حداثة السن

المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي
TT

المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي

المثلث الشرعي لـ«داعش».. البنعلي ـ الشنقيطي ـ الأزدي

أعلن تنظيم داعش في 10 فبراير (شباط) الحالي أنه سيترجم كتاب أبو الحسن الأزدي، القاعدي السابق والداعشي الحالي «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفار معاقبة بالمثل»، إلى اللغة الإنجليزية، وذلك بعد أيام قليلة من جريمة حرق الطيّار معاذ الكساسبة حيًّا أمام أعين العالم. ويذكر أنه بعد قتل العمال المصريين في ليبيا أعلن أحد نشطائهم مفتخرا أنهم جعلونا نواصل الحداد، من الكساسبة للمصريين في ليبيا، وأن التنظيم يصر على جعل كل أيامنا حدادا!
«داعش»، كما وصفه أبو محمد المقدسي، شيخ شيوخه سابقا، أجاد ابتداع السنن السيئة الواحدة تلو أختها، إلا أن هذا التنظيم المتمدّد حربيا وعمليا منكمش نظريا! إنه يهاجم خصومه على الأرض لكنه يتراجع أمامهم على مستوى الخطاب. وسنعرض في ما يلي، من باب التعريف كخطوة أولى، ومن ثم للتحليل والتعرّف، تراجم أهم ثلاثة منظّرين شرعيين لـ«داعش»، وأهم كتاباتهم دفاعا عنه. وهي المسائل التي ناقشناها تفصيلا في موضع آخر، وتغلب على الثلاثة سمات مشتركة هي: حداثة السن نسبيا، والتصلّب في الرأي، وتقديم المصلحة على السياسة الشرعية، والشدة على الخصوم اتهاما وتفسيقا وإخراجا يتماهى مع ممارسات التنظيم أمامهم!
أضلاع هذا «المثلث» الشرعي هم: البنعلي والشنقيطي والأزدي. وهؤلاء الثلاثة وضعوا الرسائل والكتيّبات في تشريع خلافة أبو بكر البغدادي وصحتها، وشرعية تنظيمه وبيعتهما معا. وتغلب عليهم جميعا المحاججة والتبرير الآيديولوجي لهذا التنظيم، وكتاباتهم ليست تأسيسا علميا وشرعيا عميقا بقدر ما هي ردود وسجال يمكن وصفه بـ«الفظاعة» التي تفسر فظاعة ممارسات التنظيم نفسه!
المنظّر الأول: «أبو همام الأثري»
أعلن تركي البنعلي انضمامه لـ«داعش» يوم 28 فبراير 2014، وقد احتفت حسابات المتشددين على الشبكات الاجتماعية بوصوله إلى سوريا عن طريق العراق. وكتب على حسابه في ذلك التاريخ على موقع «تويتر» تصريحا جاء فيه أنه نفر «للجهاد في الشام»، حسب قوله. ثم ظهر في يوليو (تموز) 2014 في شريط فيديو داخل أحد المساجد بمحافظة الرقّة السورية، التي يسيطر عليها التنظيم، وهو يلقن المصلين نصّ البيعة للبغدادي الذي كان قد أعلن تنصيب نفسه «أميرا للمؤمنين». ولا نستبعد دورا جوهريا للبنعلي في تأكيد ودفع هذا الطموح للبغدادي وشرعنة هذه الخلافة منذ قدومه. وهو يقدم دروسا أسبوعية كل يوم خميس لعناصر التنظيم نشرت بعضها مؤسسة «الغرباء» للإعلام، الذراع الإعلامية لـ«داعش».
يعتبر البنعلي صغير السن نسبيا، إذ إنه من مواليد 4 سبتمبر (أيلول) 1984 (ذي الحجة عام 1404هـ)، ويمكن حسبانه على «الجيل الثالث» من منظري المتشددين مع السعودي المحبوس حاليا عبد العزيز بن راشد العنزي الطويلعي، المشهور بـ«أخو من أطاع الله»، وأيضا «أبو البراء» عثمان آل نازح العسيري، إذا اعتبرنا أن جيل أبو مصعب الزرقاوي وأبو أنس الشامي ويوسف العييري وفارس آل شويل الزهراني هو الجيل الثاني، بعد الجيل الأول الذي يضم المقدسي وأبو قتادة وأيمن الظواهري وعبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى وغيرهم. ولعل ثمة درجات في التطرف والتطرف العنيف وليس فقط مراتب عمرية أو جيلية، فما نلاحظه أن الجيل الثاني أكثر تشددا من الأول، والجيل الثالث أكثر تشددا من الثاني.
ولد البنعلي في المحرق بالبحرين، لأسرة وعائلة مرموقة مشهورة في مملكة البحرين. وتخرج في كلية الإمام الأوزاعي في العاصمة اللبنانية بيروت، بعدما درس لمدة سنة في كلية الدراسات الإسلامية بدبي في دولة الإمارات المتحدة، ورحل منها بعد سجنه لمدة سنة، وعمل بعد تخرّجه إمام مسجد في سوق المحرق بالبحرين، وإمام مسجد العمال. ثم أقيل من الإمامة وعمل بالتدريس في مدرسة عمر بن عبد العزيز في مدينة الحالة، ثم أقيل مجددا.
وكان سبب إقالته من الإمامة - كما يذكر في سيرته - تعليقه فتوى الشيخ المصري الراحل أبو الأشبال أحمد محمد شاكر (توفي عام 1958) في حُكم من ناصر الكفّار على المسلمين، وهي فتوى اعتبرها الظواهري في رسالته «التبرئة»، واعتبر صاحبها بها إحدى مرجعيات «القاعدة» الفكرية، وجرى تكرارها وتردادها في مختلف كتابات المتشددين، رغم عدم صحة فهمهم لها. فهؤلاء أخذوا شاردة تخصّ مقاومة الاحتلال الإنجليزي في مصر والفرنسي في الجزائر، ولم ينتبهوا لتحريم الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله - للاغتيال في مقاله «الإيمان قيد الفتك» في تعليقه على اغتيال محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر عقب حرب 1948، شأنهم في ابتسارات واختزالات خطابات الكثيرين.
ويكنى البنعلي بـ«أبو سفيان السُلمي» نسبة لبني سُليم، غير أنه يوقّع أكثر كتبه بكنيته «أبو همام بكر بن عبد العزيز الأثري»، أو «أبو بكر الأثري»، وبه وقع ترجمته التي صدرت في مايو (أيار) 2014 لأبو محمد العدناني. ولقد نشط البنعلي بعد انضمامه لـ«داعش»، وكتب عددا من الكتيبات والرسائل في تأييده، نذكر منها ما يلي:
1) رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» التي صدرت في 21 يوليو 2013، الموافق - حسبما أرخها - 13 رمضان سنة 1434 هجرية، وهي أول رسالة شرعية في الدعوة لبيعة «أمير داعش» البغدادي خليفة، وسنعرض لها بعد قليل.
2) «الإفادة في الرد ّعلى أبو قتادة» في 29 أبريل (نيسان) 2014. وله في مدحه سابقا «القلادة في ترجمة أبو قتادة»، وهو ما يعبر عن الانقلاب الآيديولوجي والحاد في شخصيته وأفكاره.
3) وضد أبو محمد المقدسي كتب رسالة بعنوان «شيخي السابق هذا فراق بيني وبينك» في 31 مايو 2014، بعد أن كان يفتخر بأنه من تلامذته ومن أعضاء اللجنة الشرعية في «منبر التوحيد والجهاد» الذي كان يديره الأخير.
4) وله أيضا كتيب ردا على شبهة «الخارجية ضد داعش» بعنوان «تبصير المحاجج بالفرق بين رجال الدولة والخوارج»، صدر عام 2014، وفيه اعتمد على أن الخوارج كانوا يكفّرون بالكبيرة، و«داعش» لا يكفّرون بالكبيرة، وهذا غير صحيح فليس كل الخوارج يكفّرون بالكبيرة سواء من خرجوا على عثمان أو من خرجوا على علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما). والنصوص تؤكد أن «الخارجية» صفة قبل أن تكون فرقة أو علامة على فرقة لم تقبل بهذا الوصف، كما لم يقبل به «داعش» وغيره، بل كانوا يرون أنفسهم جماعة المسلمين أو الشراة!.. مما يبطل حجته.
5) كتاب آخر بعنوان «القيافة في عدم اشتراط التمكين الكامل للخلافة» (2014)، استدل به على تفرّق الخلافات من عصر معاوية ويزيد والحسين وابن الزبير، وليته استنتج ما استنتجه أئمة الأحكام السلطانية من أن هذا الأمر تاريخي وفقهي وليس دينيا أو من أصول الاعتقاد، كما قال الجويني في الإرشاد وغيره.
6) وله في الدفاع عن قيادات تنظيم داعش «اللفظ اللساني في ترجمة العدناني: منجنيق الدولة الإسلامية» (2014)، ويبدو فيه أن العدناني، الذي كان قريبا من الزرقاوي، لم يحصل على أي شهادة تعليمية، كما تنكر البنعلي لتلقيه فترة على المقدسي الذي تواصل معه في قضية الكساسبة أخيرا.
7) وله أيضا في الرد على اتهام أبو بكر البغدادي بطلب الإمارة رسالة بعنوان «مختصر العبارة في حكم طلب الإمارة» (2014)، استند فيها لشرعية التغلب والاستيلاء.
المنظّر الثاني: «أبو عبيدة الشنقيطي»
لا تتوافر معلومات عن السيرة الذاتية لـ«أبو منذر/ أبو عبيدة الشنقيطي»، أو تعليمه أو نشأته أو تطوره التعليمي، إلا جدل على أحد منتديات المتشددين في 17 و18 فبراير 2013، ذكر فيه أحد عارفيه أن اسمه أحمد المحرزي - وقيل حسن - والأصح أحمد الشنقيطي المغربي.
تعلّم الشنقيطي على الألباني، وقيل إنه أثنى عليه حتى ردّ على مغربي سأله «أتسألني وفيكم أبو عبيدة؟»، وكنيته أبو عبيدة الشنقيطي، ولقبه أبو عبيدة المحرزي المراكشي. وهو موصوف من عارفيه بالعزلة، وله تسجيلات صوتية في التفسير وعلوم القرآن، وغيرهما، إلا أنه ليس مشهورا في أوساط المتشددين، ولقد طلبت له ترجمة وافية من أحدهم لم نرها إلى الآن. ولكن لأبو عبيدة المذكور كتابات عديدة منشورة على موقع «منبر التوحيد والجهاد»، وأخرى نشرتها مؤسسة «الغرباء» التي تمثل الذراع الإعلامية لـ«داعش».
ونذكر من كتب «أبو عبيدة الشنقيطي» - في موضوع بحثنا - أي نصرة «داعش»، كتيباته ورسائله التالية:
1) «رفع الحسام نصرة لدولة الإسلام في العراق والشام» المنشور عام 2014، وقد كتب مثله بنفس العنوان تقريبا في الدفاع عن «القاعدة»: «رفع الحسام ضد من خذل القاعدة»!
2) «أبلغ المعاني في نصح أبو حفص الموريتاني» المنشور أيضا عام 2014.
3) «النصيحة الشنقيطية لجماعة أنصار الشريعة الليبية»، وطبع بمؤسسة «الغرباء» في أكتوبر (تشرين الأول) 2014.
4) «سبحانك هذا بهتان عظيم: في الرد على الشيخ والمنظر أبو محمد المقدسي». وهو ما يدل على تجرؤ هؤلاء وتصلبهم على آرائهم.

* المنظر الثالث: «أبو الحسن الأزدي»
* لا توجد معلومات متوافرة تترجم لأبو الحسن الأزدي، ولكن نرجح كونه خليجيا، ممّن قاتلوا في العراق، وهو معادٍ أشد العداء للمخالفين عموما، كـ«النصرة» و«السرورية»، وله رسالة في الرد على الشيخ ناصر العمر وسلمان العودة وغيرهما بعنوان «السرورية فصام يولد الانشطار»، قدم لها هاني السباعي في مرحلة الأزدي الأولى.
وما يبدو من شأن الأزدي أنه كان، كشأن البنعلي والشنقيطي، منظرا منتميا متصلّبا لفكر «القاعدة» والمتشددين، وله في هذه المرحلة كتابات نصرة لـ«القاعدة» والتوجّهات المتطرفة، من أخطرها كتابه المنشور عام 2011 «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفّار معاقبة بالمثل»، وكتيّب «الصوارم الباترة والمشهورة في الذبّ عن رسالة مَعالم الطائفة المنصورة». وله أيضا في هذه المرحلة «الحجة الناهضة في بيان موقف المسلم من عدوان الرافضة»، ومنها كتاب في نصرة «القاعدة» وآخر في الرد على بعض الشبه في الفتوح، ومنها كتيب بعنوان «التجلية والنقض لمدرك قول مجيز التصويت للدستور»، وتتضح معالم شدته وعنفه أيضا في نشره قصيدة مطوّلة بعد مقتل السفير الأميركي لدى ليبيا بعنوان «تحية إكبار وتعزير لمن أحرق السفارات وجندل السفير».
ومن أهم مؤلفات الأزدي في المرحلة الداعشية الكتيبات والرسائل الآتية:
1) رسالة بعنوان «موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام: اعتراضات وجوابات»، طبع بمؤسسة «المأسدة» الإعلامية، شبكة «أنصار المجاهدين» عام 2013.
2) رسالة ضد أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة بعنوان «القائد الجولاني بين النصيحة والتغرير» في مارس (آذار) 2013، ردّ فيه على الدكتور إياد قنيبي، أحد منظّري «النصرة» وهو أردني، ونشرتها مؤسسة «البتار» الإعلامية في هذا التاريخ.
3) وله رسالة بعنوان «الإجافة لشبه خصوم دولة الخلافة» في 26 صفحة، منشورة في رمضان سنة 1435 هجرية، الموافق ميلاديا يوليو 2014 بعد إعلان «داعش» خلافته بأيام.
4) رسالة بعنوان «موجبات الانضمام للدولة الإسلامية».
5) كتيب بعنوان «توبيخ الغالطين على إمام الحرمين فيما نسبوه إليه من دعوى تقويض الإمامة بنقصان التمكين» (الطبعة الثانية: مؤسسة «الغرباء» للإعلام 2013). وكما سبقت الإشارة سينشر «داعش»، حسب إعلان أحد مغرديه يوم 10 فبراير، في أعقاب قتل معاذ الكساسبة بأيام، الترجمة الإنجليزية لكتابه المشار إليه سابقا «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفار معاقبة بالمثل»، لمزيد من النكاية وابتداع سنن سيئة ما أنزل الله بها من سلطان، فالكتاب كما هو تبريرهم لقتل الكساسبة قائم على حجة جواز كل شيء في القصاص!.. وتجاهل نصوصا ثابتة في عصمة دماء غير المقاتلين من النساء والصبيان، وهو ما صنعه النبي (صلى الله عليه وسلّم) مع الكفار، ولكن يبدو أن «داعش» يجيد فقط استحلال كل الآخرين والأغيار.

* كاتب مصري متخصص
في الحركات الأصولية



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».