يتناول كتاب «القاهرة جوامع وحكايات»، للكاتب حمدي أبو جليل، الذي صدرت منه طبعة جديدة عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» جوانب من التاريخ المصري في حقب زمنية مختلفة، عبر تقصى الخلفيات التاريخية والاجتماعية والمعمارية التي تكمن وراء عدد من أشهر وأقدم جوامع العاصمة.
يقع الكتاب في 326 صفحة من القطع الصغير، ويأخذنا في نزهة تراثية شيقة عبر أكثر من 30 مقالاً تلقي الضوء على مكانة هذه الجوامع. ويشير أبو جليل إلى أن القاهرة الكبرى قامت وتأسست وتوسعت حول ثلاثة جوامع رئيسية ما زالت شعائرها مقامة حتى اليوم، وهي: عمرو بن العاص وأحمد بن طولون والأزهر الشريف.
جامع عمرو بن العاص
بعد الفتح العربي لمصر، بدأ عمرو بن العاص بناء مدينة الفسطاط لتكون عاصمة جديدة للبلاد، كما أنشأ المسجد الذي أطلق عليه في البداية مسجد الفتح، ثم الجامع العتيق وتاج الجوامع، ثم استقر على اسم عمرو بن العاص، وهو صاحب مكانة رفيعة بين مساجد القاهرة، بصفته رابع مسجد جامع بعد المسجد الحرام ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسجد الأقصى. ومن أوصافه: إمام المساجد ومطلع الأنوار اللوامع «طوبى لمن حافظ على الصلوات فيه، وواظب على القيام بنواحيه». في البداية، بُني بالطوب اللبن، وقيل البوص، ومساحته عند تأسيسه نحو خمسين ذراعاً طولاً في ثلاثين عرضاً، وكان الطريق يمر حوله من كل جانب، وكان بسيطاً، بل متقشفاً، حيث لا يوجد به صحن أو محراب أو منارة، أو حتى فرش، وكانت جدرانه عارية من البياض والزخرف.
أما عن إنشاء الجامع، والأيدي التي عملت فيه، فينقل الكندي عن يزيد بن أبي حبيب قوله: «سمعت أشياخنا ممن حضروا مسجد الفتح يقولون: وقف على إقامة قبلته ثمانون رجلاً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيهم الزبير بن العوام والمقداد وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء عبيد وعقبة بن نافع (رضي الله عنهم)».
ويروي الكتاب أنه على الرغم من تقشف منبر الجامع، لم يعجب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ونهر ابن العاص وعنفه على تعاليه على المسلمين، قائلاً: «أما يكفيك أن تقوم قائماً والمسلمون جلوساً»، فتمت الإطاحة بمنبره، لكنه أعاده مرة أخرى فور وفاة عمر بن الخطاب.
وظل الجامع على مساحته وعمارته الأولى طوال فترة الخلفاء الراشدين، ولم يشهد أي إصلاحات أو إضافات سوى في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي أمر والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري بزيادة مساحة الجامع وإصلاح مبانيه، فضم إليه مسلمة مساحة كبيرة، وبنى به أربع صوامع في أركانه الأربعة.
أما أهم إصلاحات المماليك في الجامع، فكانت من نصيب الأمير مراد بك آخر الحكام المماليك، حيث أنفق عليه أموالاً عظيمة، فأقام أركانه وشيد بنيانه ونصب أعمدته وشيد منارتين، وجدد سقفه بخشب السرو، وبيض جميع جدرانه وفرشه بالحصر الفيومي، وسجل إصلاحاته في أشعار ما زالت محفورة بجدران الجامع.
وفي أثناء الحملة الفرنسية على مصر، جرى له ما جرى على غيره من الهدم والتخريب، ونهبت أخشابه ونفائسه، بما فيها مكتبته العامرة، حتى أصبح كما قال المؤرخ علي مبارك: «أشوه مما كان أيام حريق الفسطاط»، وانهار سقفه وتصدعت جدرانه، وظل يعاني الإهمال والتخريب والنهب فترة طويلة، حتى أعيد بناؤه ضمن مشروع معماري كبير عرف بمشروع مجمع الأديان.
جامع بن طولون
كانت «القطائع» مدينة حصينة يشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، وعلى مشارفها المدججة بالجنود كان الناس يترجلون خوفاً ورهبة. وجامع مؤسسها أحمد بن طولون هو الأثر الوحيد الباقي منها حتى الآن، وهو من أكبر مساجد العالم، وبني على مساحته الحالية سنة 265ه؛ أي بعد نحو عشر سنوات من تأسيس القطائع. ويروى أن ما دفع ابن طولون لبنائه ضيق المسجد الذي كان يصلي فيه، وأيضاً وقوعه على كنز من الذهب قيل إن بغلته عثرت فيه صدفة عندما كان في إحدى زياراته الليلية لمنطقة الأهرام، واختار مكاناً اشتهر بإجابة الدعاء، وقال لرجال دولته: «أريد أن أبني بناء إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي». وقد بني الجامع بأحجار قطعت خصيصاً له، ومن مكانه، وليست مخلوعة من أعمدة الكنائس أو المعابد القديمة التي حرم اقتلاعها ابن طولون، باستثناء الأعمدة الستة ذات التيجان البيزنطية التي تحيط المحراب.
أما منارة الجامع التي تعد من أشهر وأغرب منارات مساجد القاهرة، فقد صممها ابن طولون بنفسه، ويروى أنه أخذ بعضاً من الورق المقوى (الكرتون)، وراح يعبث به ويديره مثل القرطاس، فخرج بعضه وبقى بعضه في يده، فظن البناؤون أنه يلعب، وعندما لاحظ اندهاشهم قال: «اصنعوا المنارة على هذا المثال».
الجامع مستطيل الشكل، ويحتوي على 42 باباً، ويعد من أشهر الجوامع المعلقة في مصر والعالم الإسلامي، حيث يصعد المصلون إلى أبوابه الداخلية بدرجات دائرية، ويحيط بصحنه أربعة أروقة.
جامع سارية الجبل
ينفرد جامع سارية الجبل بين جوامع القاهرة بارتباطه الوثيق بأجواء الحروب والقلاع الحربية الرهيبة. ويروي المؤلف أن صلاح الدين الأيوبي اتخذه قلعة حصينة لجنوده، وبانيه الأول كان أحد غلمان أمير الجيوش، وحوله، وربما داخله، دارت أعنف المعارك، ودبرت أشرس المؤامرات، وأطيح برؤوس أمراء طالما حكمت.
ويقع الجامع في قلب قلعة صلاح الدين الأيوبي التي كان اسمها الشعبي «قلعة الطبل». وعلى الرغم من بعده نسبياً عن موقع القاهرة الأولى، والتصاقه بالدرة المعمارية للدولة الأيوبية، فإنه يعد أحد أبرز المنشآت الدينية الباقية من عصر الدولة الفاطمية، فقد بني بهذا المكان في عهد الفاطميين، قبل أن ينتزع صلاح الدين الأيوبي مقاليد حكم مصر منهم، ويختار الموقع المحيط بالجامع ليبني قلعته بعد نحو ثلاثين عاماً. والجامع أنشأه الأمير أبو منصور قسطة، وهو في الأصل غلام أرمني كان ضمن مماليك أمير الجيوش بدر الجمالي، وعندما أسلم أعتقه أمير المظفر ابن بدر الجمالي، وتقلب في وظائف الدولة آنذاك حتى عين والياً للإسكندرية. وطوال حياته القصيرة، اشتهر أبو منصور بالاطلاع والثقافة، خاصة في مجال التاريخ، غير أنه لم يتعظ بمغامرات الماضي، والتهم الطعام المسموم الذي دسه له منافسوه في بلاط الفاطميين في طبق حلوى صغير من حلوى الهريسة بمجرد أن تذوقها مات في الحال.
جامع الأقمر
يعد أصغر جوامع مصر الفاطمية على الإطلاق، ويبدو بواجهته المنحوتة المزركشة منكمشاً وسط ضخامة جوامع شارع المعز لدين الله الفاطمي التي تطل عليه من كل ناحية، وهو من أوائل المنشآت الإسلامية التي حظيت واجهاتها بزخارف معمارية من الدلايات الدقيقة والنقوش الخطية والنباتية المحفورة في الحجر.
والجامع أنشأه الخليفة الآمر بأحكام الله ابن المستعلي الذي ولد في أول سنة 490 هجرية، وتولى أمور الخلافة وهو في الخامسة من عمره، واستمر ثلاثين عاماً. ويصف المقريزي مشهد بيعته قائلاً: «أحضره الأفضل ابن أمير الجيوش، وبايع له، ونصبه مكان أبيه، ونعته بالآمر بأحكام الله».