حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته

بعد نجاح الجمهوريين في جمع الأصوات للاستفتاء على عزله

حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته
TT

حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته

حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته

بدءاً من يوم الاثنين، من المقرر أن تباشر سلطات ولاية كاليفورنيا الإجراءات القانونية لعملية سحب الثقة من حاكمها الديمقراطي غافين نيوسوم، في خطوة من شأنها أن تنهي ولايته الأولى قبل سنة من أوانها. وتأتي هذه الخطوة بعد نجاح حملة ضده أطلقتها مجموعات سياسية متعددة الانتماءات، على رأسها جمهوريو الولاية، وكذلك من ناشطين بينهم جماعات من حزب «الخضر» ومدافعون عن المثليين وبعض الديمقراطيين، في جمع أكثر من 1.62 مليون توقيع على عريضة.
جامعو التواقيع دعوا الكاليفورنيين إلى سحب الثقة من الحاكم عبر الرد على سؤالين متصلين: هل ينبغي سحب الثقة من نيوسوم؟ ومن يجب أن يحل محله؟ وإذا صوتت الأغلبية بـ«نعم»، فسيخسر منصبه، بينما سيحدد جواب الناخبين على السؤال الثاني، اسم الحاكم الجديد.
تعرض غافين نيوسوم منصب حاكم ولاية كاليفورنيا، كبرى الولايات المتحدة الأميركية وأغناها، منذ تولى منصبه لاستدعاءات عدة لنزع الثقة منه، غير أنها فشلت كلها. لكن في 21 فبراير (شباط) 2020، قدم أورين هيتلي وهو نائب مسؤول الشرطة في مقاطعة يولو بكاليفورنيا عريضة، تتهم الحاكم بأنه «يفضل المهاجرين غير الشرعيين». وتضيف العريضة التي تعبر عن تيار اليمين المتشدد «أن كاليفورنيا فيها نسبة مشردين وضرائب مرتفعة ونوعية حياة متدنية» وغيرها من التهم. وفي 10 يونيو (حزيران) 2020، وافق أمين الولاية على تقديم العريضة لجمع التواقيع عليها، وهي تتطلب الحصول على 1.49 مليون توقيع لإجراء الاستفتاء.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه سبق لولاية كاليفورنيا التي تزايد ولاؤها للديمقراطيين في السنوات الأخيرة، أن شهدت استفتاءً مشابها عام 2003. إذ صوت الناخبون على سحب الثقة من حاكمها الديمقراطي أيضا غراي ديفيس، وانتخبوا بدلاً منه نجم أفلام هوليوود وبطل كمال الأجسام الشهير أرنولد شوارتزنيغر، مرشح الحزب الجمهوري، الذي بقي في منصبه حتى أوائل عام 2011.

معركة «كسر عظم»
هي إذن معركة «كسر عظم» سياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين، للسيطرة على أكبر ولاية أميركية، سواءً من حيث عدد السكان أو الحجم الاقتصادي والسياسي، في لحظة يحتدم فيها الانقسام السياسي والحزبي بشكل لم تشهده الولايات المتحدة منذ عقود. إذ أن من شأن السيطرة على كاليفورنيا تغيير الكثير من الاتجاهات السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، في ولاية تقود المعايير التي تعتمدها الكثير من الولايات الأميركية، في مجالات جودة الإنتاج، والطاقة، والبحث العلمي، والموافقات على رخص الشهادات وقضايا البيئة وغيرها من القضايا الاجتماعية، كالعلاقة مع مجتمع المثليين ومع قضية الإجهاض وتعاطي الماريغوانا.
في الواقع، بدأت الحملة لإقالة نيوسوم إبان حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، عندما شن الجمهوريون حملة ضده بسبب سياساته المتسامحة تجاه الهجرة والمهاجرين. وهي القضية التي شكلت حجر الزاوية في حملة ترمب والجمهوريين، ولا تزال مندلعة لاعتماد سياسات يمينية أكثر تشدداً تجاه المهاجرين، معتبرين أن كاليفورنيا باتت تشكل ملاذاً آمناً لهؤلاء. وبالتالي، إذا تمكن اليمين الجمهوري من السيطرة على الولاية، فإنه سيعمل على فرض تغييرات كبيرة تطال قوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر، بما يسهل السيطرة على أكبر كتلة انتخابية في المجمع الانتخابي (لولاية كاليفورنيا 55 صوتاً فيه). ثم، مع اندلاع أزمة جائحة كوفيد - 19، ركز اليمين حملته ضد نيوسوم منتقداً تدابيره الوقائية وحمله مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن سياسات الإغلاق.
في أي حال، حملة اليمين الجمهوري على غافين نيوسوم ليست بعيدة عن الحملات التي تستهدف حكاماً ومسؤولين ديمقراطيين آخرين، على رأسهم حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، لتعزز الهجمات «التقليدية» المتبادلة وتعمق الأحقاد بين الحزب الحاكم والحزب المعارض.
حتى الساعة لم يجدد موعد الاقتراع لسحب الثقة عن نيوسوم، غير أن التوقعات تشير إلى أن الموعد قد يكون بين أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) وأوائل ديسمبر (كانون الأول) من هذا العام. ومع أن جهود طلب سحب الثقة من حاكم كاليفورنيا اكتسبت زخماً خلال فصل الشتاء، مع تفشي كوفيد - 19 وقرارات الإغلاق الاقتصادي التي فرضها نيوسوم، فإن الناخبين سيدلون بأصواتهم في فترة بات يطغى عليها التفاؤل. ومع نجاح حملات التطعيم وعودة اقتصاد الولاية إلى التعافي، وتسجيلها أدنى معدل إصابة يومية بالفيروس على مستوى البلاد كلها، حدد نيوسوم 15 يونيو (حزيران) المقبل موعدا لإعادة فتح الاقتصاد بالكامل. وإذا ما نجا نيوسوم من السؤال الأول بغالبية أصوات «لا» سينتفي السؤال الثاني، في حين قدرت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» أن تكلفة الاستفتاء قد تصل إلى نحو 400 مليون دولار. وللعلم، عام 2003 ترشح أكثر من 100 شخص ليحلوا محل الحاكم غراي ديفيس، لأن الفائز لا يحتاج إلى غالبية أصوات الناخبين. ويكفي أن يحل في المرتبة الأولى في عدد الأصوات مقابل باقي المنافسين ليغدو الحاكم الجديد.

متحولة جنسياً أبرز المتحدين
هذا العام، لا تزال قائمة الترشيحات محدودة، لكن المرشحين الجمهوريين الذين حظوا بأكبر قدر من الاهتمام بعدما أعلنوا ترشحهم، هم كيفن فولكونر رئيس بلدية مدينة سان دييغو السابق، وجون كوكس رجل الأعمال في سان دييغو الذي خسر أمام نيوسوم في انتخابات عام 2018. كذلك حظيت كايتلين جينر، الناشطة الجمهورية اليمينية في مجال الدفاع عن حقوق المتحولين جنسياً باهتمام كبير بعد إعلان ترشحها. وجينر نفسها متحولة جنسياً وهي من نجوم «تلفزيون الواقع»، وكانت قبل تحولها البطل الأوليمبي بروس جينر، زوج والدة الأخوات كيم وكلوي كارداشيان - أيضاً من نجوم «تلفزيون الواقع». ولقد اعتبر الحاكم السابق أرنولد شوارتزنيغر أن لدى جينر فرصة حقيقية للفوز.
ويوم الاثنين أعلن فولكونر في بيان «إن سكان كاليفورنيا ينتهزون هذه الفرصة التاريخية للمطالبة بالتغيير». وأضاف أن «الديمقراطيين والجمهوريين والمستقلين موحدون في دعم الاستفتاء وإعادة ولايتنا إلى المسار الصحيح». وأردف «بصفتي المرشح الوحيد الذي فاز في انتخابات صعبة وأجرى إصلاحات حقيقية، أنا مستعد لقيادة هذه الحركة».

رؤيتان مختلفتان لكاليفورنيا
في المقابل، دافع خوان رودريغيز، مدير حملة «أوقفوا استفتاء الجمهوريين» في بيان، عن نيوسوم قائلا، إن «هذه الانتخابات ستكون حول رؤيتين مختلفتين لولاية كاليفورنيا». وأضاف «هذا الاستدعاء الجمهوري، المدعوم من قبل القوى الحزبية والموالية لترمب واليمين المتطرف، يهدد قيمنا كمواطني كاليفورنيا، ويسعى إلى التراجع عن التقدم المهم الذي أحرزناه في عهد الحاكم نيوسوم في محاربة كوفيد - 19 ودعم العائلات المكافحة، وحماية البيئة، وقوانين الرقابة على السلاح. ببساطة هناك الكثير على المحك، لكننا سنفوز». غير أن اللافت أن إحصاءً حول الاتجاهات السياسية للموقعين على العريضة التي طالبت بالاستفتاء، أظهر وجود أكثر من 300 ألف ديمقراطي مسجلين على قوائم الحزب رسمياً، من بين الموقعين. وهو ما قد يشكل عينة تهدد نيوسوم، لا سيما إذا أضيف إليها جمهور ما يعرف بمجتمع «الميم» من المتحولين جنسياً والمثليين، وجمهوريو الولاية الذين يطلق عليهم في الأصل لقب «رينو»، وهي اختصار لكلمات إنجليزية تعني «جمهوريون بالاسم فقط».
من جهة ثانية، تشير استطلاعات الرأي تشير أيضاً إلى أن 40 في المائة فقط من ناخبي الولاية قد يشاركون في الاستفتاء، وهو ما قد يكون في مصلحة نيوسوم. كما أن أي مرشح ديمقراطي بارز لم يعلن ترشحه علنا بعد، كي لا يعتبر خيانة له، الأمر الذي قد يسمح لنيوسوم بمواجهة الناخبين مجدداً في انتخابات العام 2022 النصفية المقبلة.

بطاقة شخصية
ولد غافين كريستوفر نيوسوم يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1967 في مدينة سان فرانسيسكو، لأبوين هما تيسا توماس وويليام ألفريد نيوسوم الثالث، ووالده قاض محكمة الاستئناف بالولاية ومحامي شركة غيتي أويل. ثم إن عمة غافين متزوجة من رون بيلوسي، صهر رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي.
نيوسوم قال عن نفسه ذات يوم أنه لم يتمتع بطفولة سهلة. وحقاً، التحق بالروضة والصف الأول في مدرسة نوتردام دي فيكتوار، وهي مدرسة فرنسية أميركية ثنائية اللغة في سان فرانسيسكو حيث خضع لفصول قراءة علاجية بسبب معاناته من حالة عسر القراءة التي لا يزال يعاني منها حتى الآن. وجرى نقله في النهاية بسبب صعوبته في القراءة والكتابة والتهجئة والتعامل مع الأرقام. وطوال فترة دراسته، كان على نيوسوم الاعتماد على مجموعة من الكتب الصوتية والملخصات والتعليم الشفهي غير الرسمي. وهو لا يزال حتى اليوم يفضل تفسير الوثائق والتقارير من خلال الصوت.
في المدرسة الثانوية، لعب نيوسوم كرة السلة والبيسبول (كرة القاعدة) وتخرج في مدرسة ريدوود الثانوية عام 1985. وبسبب مهارته في البيسبول ظهرت صورته على غلاف مجلة «مارين» المستقلة، وحصل على منحة جزئية للتعليم الجامعي، ودرس وتخرج في جامعة سانتا كلارا، وهي إحدى أشهر الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة. وبعد تخرجه، أسس متجرا للمشروبات أسماه «بلامب جاك» على اسم اوبرا كتبها صديق للعائلة يدعى غوردون غيتي الذي دخل معه في شراكة كمستثمر. ونما المتجر إلى مجموعة كبيرة تضم 23 شركة يعمل فيها أكثر من 700 عامل، بما في ذلك مصانع مشروبات ومطاعم وفنادق.

كاثوليكي ممارس ومتمرد
يعرف غافين نيوسوم نفسه بأنه كاثوليكي ممارس، لكنه «متمرد كاثوليكي إيرلندي، رغم أنه لا يزال لديه إعجاب كبير بالكنيسة وإيمان قوي جدا». وعندما سئل عن وضع الكنيسة الكاثوليكية (في العام 2008) قال إنها في أزمة، لكنه رغم ذلك يبقى معها بسبب «علاقته القوية بهدف أعظم، وكيان أعلى».
في ديسمبر (كانون الأول) 2001، تزوج نيوسوم من كيمبرلي غيلفويل، وهي مدعية عامة سابقة في سان فرانسيسكو ومعلقة قانونية في عدد من المحطات التلفزيونية مثل «سي إن إن» و«إم إس إن بي سي». إلا نها أصبحت لاحقاً شخصية بارزة ويمينية متشددة في قناة «فوكس نيوز». وفي سبتمبر (أيلول) 2004 أطلقت عليهما مجلة «هاربر بازار» لقب «نيو كينيديز» (آل كنيدي الجدد)، بيد أنهما تقدما في يناير (كانون الثاني) 2005 بطلب طلاق مشترك، بدعوى «الصعوبات الناجمة عن سكنهما المنفصل على الساحلين الشرقي والغربي بسبب حياتهما المهنية». واكتملت معاملات طلاقهما في 28 فبراير 2006.
بعدها، في يناير 2007، كشفت علاقة نيوسوم مع روبي ريبي تورك، زوجة مدير حملته أليكس تورك منذ منتصف عام 2005. وتقدم تورك بطلب طلاق زوجته بعد فترة وجيزة وترك حملة نيوسوم وإدارتها. وفي المقابل كشف عن علاقة بين زوجته السابقة غيلفويل بدونالد ترمب جونيور، ابن الرئيس السابق. وفي سبتمبر 2006 بدأ نيوسوم علاقة مع المخرجة جينيفر سيبل. ثم أعلن أنه سيسعى للعلاج من اضطراب تعاطي الكحول في فبراير 2007، وأعلنا خطوبتهما في ديسمبر العام نفسه وتزوجا في يوليو (تموز) 2008 وأنجبا أربعة أطفال.

البداية مع السياسة
بدأ نيوسوم حياته السياسية عام 1996 عندما عينه عمدة سان فرانسيسكو الديمقراطي ويلي براون للعمل في لجنة إدارة مواقف السيارات والمرور في المدينة. ثم عينه لملء منصب شاغر في مجلس المشرفين في العام التالي، إذ انتخب لاحقا لمجلس الإدارة في أعوام 1998 و2000 و2002.
بعدها خاض منافسة مع مات غونزاليس مرشح حزب «الخضر» المدعوم من التقدميين وكثرة من الديمقراطيين في انتخابات رئاسة بلدية سان فرانسيسكو عام 2003، وفاز نيوسوم بفارق 11 ألف صوت، بفضل دعم من شخصيات وطنية من الحزب الديمقراطي، بما في ذلك بيل كلينتون وآل غور وجيسي جاكسون، رأوا ضرورة الفوز في المدينة بعد خسارتهم الانتخابات الرئاسية عام 2000 وحاكمية الولاية عام 2003. وهكذا، أصبح الرئيس 42 لبلدية المدينة، وكان يومذاك في الـ36 من العمر، أصغر عمدة للمدينة منذ قرن.
ثم عام 2007 أعيد انتخاب نيوسوم بنسبة 72 في المائة من الأصوات، عام 2010 انتخب نائبا لحاكم ولاية كاليفورنيا وأعيد انتخابه في عام 2014، لينتخب عام 2018 حاكماً للولاية ويصبح الحاكم الـ40 لها.
خاض نيوسوم معارك مبكرة منذ بداية عمله السياسي، واكتسب اهتماماً وطنياً عام 2004 عندما وجه كاتب مدينة سان فرانسيسكو بإصدار تراخيص الزواج للأزواج من الجنس نفسه. ثم إنه دعم مشاريع الإسكان من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص لزيادة ملكية المنازل والإسكان الميسور التكلفة في سان فرانسيسكو. وأنجز مشروع تقديم الرعاية والإسكان الداعم والعلاج من تعاطي المخدرات والمساعدة من متخصصي الصحة السلوكية للمشردين بدلاً من المساعدة النقدية المباشرة من برنامج المساعدة العامة للولاية. ووقع على قانون إنشاء «مدينة سان فرانسيسكو الصحية» عام 2007 لتقديم الرعاية الصحية الشاملة لسكان المدينة، لتكون أول مدينة في البلاد تقوم بذلك. وسمي «العمدة الأكثر اجتماعية في أميركا» عام 2010، بناء على تحليل ملفات تعريف وسائل التواصل الاجتماعي لرؤساء بلديات أكبر 100 مدينة في الولايات المتحدة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.