حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته

بعد نجاح الجمهوريين في جمع الأصوات للاستفتاء على عزله

حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته
TT

حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته

حاكم كاليفورنيا الديمقراطي يدفع ثمن الثقل السياسي لولايته

بدءاً من يوم الاثنين، من المقرر أن تباشر سلطات ولاية كاليفورنيا الإجراءات القانونية لعملية سحب الثقة من حاكمها الديمقراطي غافين نيوسوم، في خطوة من شأنها أن تنهي ولايته الأولى قبل سنة من أوانها. وتأتي هذه الخطوة بعد نجاح حملة ضده أطلقتها مجموعات سياسية متعددة الانتماءات، على رأسها جمهوريو الولاية، وكذلك من ناشطين بينهم جماعات من حزب «الخضر» ومدافعون عن المثليين وبعض الديمقراطيين، في جمع أكثر من 1.62 مليون توقيع على عريضة.
جامعو التواقيع دعوا الكاليفورنيين إلى سحب الثقة من الحاكم عبر الرد على سؤالين متصلين: هل ينبغي سحب الثقة من نيوسوم؟ ومن يجب أن يحل محله؟ وإذا صوتت الأغلبية بـ«نعم»، فسيخسر منصبه، بينما سيحدد جواب الناخبين على السؤال الثاني، اسم الحاكم الجديد.
تعرض غافين نيوسوم منصب حاكم ولاية كاليفورنيا، كبرى الولايات المتحدة الأميركية وأغناها، منذ تولى منصبه لاستدعاءات عدة لنزع الثقة منه، غير أنها فشلت كلها. لكن في 21 فبراير (شباط) 2020، قدم أورين هيتلي وهو نائب مسؤول الشرطة في مقاطعة يولو بكاليفورنيا عريضة، تتهم الحاكم بأنه «يفضل المهاجرين غير الشرعيين». وتضيف العريضة التي تعبر عن تيار اليمين المتشدد «أن كاليفورنيا فيها نسبة مشردين وضرائب مرتفعة ونوعية حياة متدنية» وغيرها من التهم. وفي 10 يونيو (حزيران) 2020، وافق أمين الولاية على تقديم العريضة لجمع التواقيع عليها، وهي تتطلب الحصول على 1.49 مليون توقيع لإجراء الاستفتاء.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه سبق لولاية كاليفورنيا التي تزايد ولاؤها للديمقراطيين في السنوات الأخيرة، أن شهدت استفتاءً مشابها عام 2003. إذ صوت الناخبون على سحب الثقة من حاكمها الديمقراطي أيضا غراي ديفيس، وانتخبوا بدلاً منه نجم أفلام هوليوود وبطل كمال الأجسام الشهير أرنولد شوارتزنيغر، مرشح الحزب الجمهوري، الذي بقي في منصبه حتى أوائل عام 2011.

معركة «كسر عظم»
هي إذن معركة «كسر عظم» سياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين، للسيطرة على أكبر ولاية أميركية، سواءً من حيث عدد السكان أو الحجم الاقتصادي والسياسي، في لحظة يحتدم فيها الانقسام السياسي والحزبي بشكل لم تشهده الولايات المتحدة منذ عقود. إذ أن من شأن السيطرة على كاليفورنيا تغيير الكثير من الاتجاهات السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، في ولاية تقود المعايير التي تعتمدها الكثير من الولايات الأميركية، في مجالات جودة الإنتاج، والطاقة، والبحث العلمي، والموافقات على رخص الشهادات وقضايا البيئة وغيرها من القضايا الاجتماعية، كالعلاقة مع مجتمع المثليين ومع قضية الإجهاض وتعاطي الماريغوانا.
في الواقع، بدأت الحملة لإقالة نيوسوم إبان حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، عندما شن الجمهوريون حملة ضده بسبب سياساته المتسامحة تجاه الهجرة والمهاجرين. وهي القضية التي شكلت حجر الزاوية في حملة ترمب والجمهوريين، ولا تزال مندلعة لاعتماد سياسات يمينية أكثر تشدداً تجاه المهاجرين، معتبرين أن كاليفورنيا باتت تشكل ملاذاً آمناً لهؤلاء. وبالتالي، إذا تمكن اليمين الجمهوري من السيطرة على الولاية، فإنه سيعمل على فرض تغييرات كبيرة تطال قوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر، بما يسهل السيطرة على أكبر كتلة انتخابية في المجمع الانتخابي (لولاية كاليفورنيا 55 صوتاً فيه). ثم، مع اندلاع أزمة جائحة كوفيد - 19، ركز اليمين حملته ضد نيوسوم منتقداً تدابيره الوقائية وحمله مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن سياسات الإغلاق.
في أي حال، حملة اليمين الجمهوري على غافين نيوسوم ليست بعيدة عن الحملات التي تستهدف حكاماً ومسؤولين ديمقراطيين آخرين، على رأسهم حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، لتعزز الهجمات «التقليدية» المتبادلة وتعمق الأحقاد بين الحزب الحاكم والحزب المعارض.
حتى الساعة لم يجدد موعد الاقتراع لسحب الثقة عن نيوسوم، غير أن التوقعات تشير إلى أن الموعد قد يكون بين أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) وأوائل ديسمبر (كانون الأول) من هذا العام. ومع أن جهود طلب سحب الثقة من حاكم كاليفورنيا اكتسبت زخماً خلال فصل الشتاء، مع تفشي كوفيد - 19 وقرارات الإغلاق الاقتصادي التي فرضها نيوسوم، فإن الناخبين سيدلون بأصواتهم في فترة بات يطغى عليها التفاؤل. ومع نجاح حملات التطعيم وعودة اقتصاد الولاية إلى التعافي، وتسجيلها أدنى معدل إصابة يومية بالفيروس على مستوى البلاد كلها، حدد نيوسوم 15 يونيو (حزيران) المقبل موعدا لإعادة فتح الاقتصاد بالكامل. وإذا ما نجا نيوسوم من السؤال الأول بغالبية أصوات «لا» سينتفي السؤال الثاني، في حين قدرت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» أن تكلفة الاستفتاء قد تصل إلى نحو 400 مليون دولار. وللعلم، عام 2003 ترشح أكثر من 100 شخص ليحلوا محل الحاكم غراي ديفيس، لأن الفائز لا يحتاج إلى غالبية أصوات الناخبين. ويكفي أن يحل في المرتبة الأولى في عدد الأصوات مقابل باقي المنافسين ليغدو الحاكم الجديد.

متحولة جنسياً أبرز المتحدين
هذا العام، لا تزال قائمة الترشيحات محدودة، لكن المرشحين الجمهوريين الذين حظوا بأكبر قدر من الاهتمام بعدما أعلنوا ترشحهم، هم كيفن فولكونر رئيس بلدية مدينة سان دييغو السابق، وجون كوكس رجل الأعمال في سان دييغو الذي خسر أمام نيوسوم في انتخابات عام 2018. كذلك حظيت كايتلين جينر، الناشطة الجمهورية اليمينية في مجال الدفاع عن حقوق المتحولين جنسياً باهتمام كبير بعد إعلان ترشحها. وجينر نفسها متحولة جنسياً وهي من نجوم «تلفزيون الواقع»، وكانت قبل تحولها البطل الأوليمبي بروس جينر، زوج والدة الأخوات كيم وكلوي كارداشيان - أيضاً من نجوم «تلفزيون الواقع». ولقد اعتبر الحاكم السابق أرنولد شوارتزنيغر أن لدى جينر فرصة حقيقية للفوز.
ويوم الاثنين أعلن فولكونر في بيان «إن سكان كاليفورنيا ينتهزون هذه الفرصة التاريخية للمطالبة بالتغيير». وأضاف أن «الديمقراطيين والجمهوريين والمستقلين موحدون في دعم الاستفتاء وإعادة ولايتنا إلى المسار الصحيح». وأردف «بصفتي المرشح الوحيد الذي فاز في انتخابات صعبة وأجرى إصلاحات حقيقية، أنا مستعد لقيادة هذه الحركة».

رؤيتان مختلفتان لكاليفورنيا
في المقابل، دافع خوان رودريغيز، مدير حملة «أوقفوا استفتاء الجمهوريين» في بيان، عن نيوسوم قائلا، إن «هذه الانتخابات ستكون حول رؤيتين مختلفتين لولاية كاليفورنيا». وأضاف «هذا الاستدعاء الجمهوري، المدعوم من قبل القوى الحزبية والموالية لترمب واليمين المتطرف، يهدد قيمنا كمواطني كاليفورنيا، ويسعى إلى التراجع عن التقدم المهم الذي أحرزناه في عهد الحاكم نيوسوم في محاربة كوفيد - 19 ودعم العائلات المكافحة، وحماية البيئة، وقوانين الرقابة على السلاح. ببساطة هناك الكثير على المحك، لكننا سنفوز». غير أن اللافت أن إحصاءً حول الاتجاهات السياسية للموقعين على العريضة التي طالبت بالاستفتاء، أظهر وجود أكثر من 300 ألف ديمقراطي مسجلين على قوائم الحزب رسمياً، من بين الموقعين. وهو ما قد يشكل عينة تهدد نيوسوم، لا سيما إذا أضيف إليها جمهور ما يعرف بمجتمع «الميم» من المتحولين جنسياً والمثليين، وجمهوريو الولاية الذين يطلق عليهم في الأصل لقب «رينو»، وهي اختصار لكلمات إنجليزية تعني «جمهوريون بالاسم فقط».
من جهة ثانية، تشير استطلاعات الرأي تشير أيضاً إلى أن 40 في المائة فقط من ناخبي الولاية قد يشاركون في الاستفتاء، وهو ما قد يكون في مصلحة نيوسوم. كما أن أي مرشح ديمقراطي بارز لم يعلن ترشحه علنا بعد، كي لا يعتبر خيانة له، الأمر الذي قد يسمح لنيوسوم بمواجهة الناخبين مجدداً في انتخابات العام 2022 النصفية المقبلة.

بطاقة شخصية
ولد غافين كريستوفر نيوسوم يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1967 في مدينة سان فرانسيسكو، لأبوين هما تيسا توماس وويليام ألفريد نيوسوم الثالث، ووالده قاض محكمة الاستئناف بالولاية ومحامي شركة غيتي أويل. ثم إن عمة غافين متزوجة من رون بيلوسي، صهر رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي.
نيوسوم قال عن نفسه ذات يوم أنه لم يتمتع بطفولة سهلة. وحقاً، التحق بالروضة والصف الأول في مدرسة نوتردام دي فيكتوار، وهي مدرسة فرنسية أميركية ثنائية اللغة في سان فرانسيسكو حيث خضع لفصول قراءة علاجية بسبب معاناته من حالة عسر القراءة التي لا يزال يعاني منها حتى الآن. وجرى نقله في النهاية بسبب صعوبته في القراءة والكتابة والتهجئة والتعامل مع الأرقام. وطوال فترة دراسته، كان على نيوسوم الاعتماد على مجموعة من الكتب الصوتية والملخصات والتعليم الشفهي غير الرسمي. وهو لا يزال حتى اليوم يفضل تفسير الوثائق والتقارير من خلال الصوت.
في المدرسة الثانوية، لعب نيوسوم كرة السلة والبيسبول (كرة القاعدة) وتخرج في مدرسة ريدوود الثانوية عام 1985. وبسبب مهارته في البيسبول ظهرت صورته على غلاف مجلة «مارين» المستقلة، وحصل على منحة جزئية للتعليم الجامعي، ودرس وتخرج في جامعة سانتا كلارا، وهي إحدى أشهر الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة. وبعد تخرجه، أسس متجرا للمشروبات أسماه «بلامب جاك» على اسم اوبرا كتبها صديق للعائلة يدعى غوردون غيتي الذي دخل معه في شراكة كمستثمر. ونما المتجر إلى مجموعة كبيرة تضم 23 شركة يعمل فيها أكثر من 700 عامل، بما في ذلك مصانع مشروبات ومطاعم وفنادق.

كاثوليكي ممارس ومتمرد
يعرف غافين نيوسوم نفسه بأنه كاثوليكي ممارس، لكنه «متمرد كاثوليكي إيرلندي، رغم أنه لا يزال لديه إعجاب كبير بالكنيسة وإيمان قوي جدا». وعندما سئل عن وضع الكنيسة الكاثوليكية (في العام 2008) قال إنها في أزمة، لكنه رغم ذلك يبقى معها بسبب «علاقته القوية بهدف أعظم، وكيان أعلى».
في ديسمبر (كانون الأول) 2001، تزوج نيوسوم من كيمبرلي غيلفويل، وهي مدعية عامة سابقة في سان فرانسيسكو ومعلقة قانونية في عدد من المحطات التلفزيونية مثل «سي إن إن» و«إم إس إن بي سي». إلا نها أصبحت لاحقاً شخصية بارزة ويمينية متشددة في قناة «فوكس نيوز». وفي سبتمبر (أيلول) 2004 أطلقت عليهما مجلة «هاربر بازار» لقب «نيو كينيديز» (آل كنيدي الجدد)، بيد أنهما تقدما في يناير (كانون الثاني) 2005 بطلب طلاق مشترك، بدعوى «الصعوبات الناجمة عن سكنهما المنفصل على الساحلين الشرقي والغربي بسبب حياتهما المهنية». واكتملت معاملات طلاقهما في 28 فبراير 2006.
بعدها، في يناير 2007، كشفت علاقة نيوسوم مع روبي ريبي تورك، زوجة مدير حملته أليكس تورك منذ منتصف عام 2005. وتقدم تورك بطلب طلاق زوجته بعد فترة وجيزة وترك حملة نيوسوم وإدارتها. وفي المقابل كشف عن علاقة بين زوجته السابقة غيلفويل بدونالد ترمب جونيور، ابن الرئيس السابق. وفي سبتمبر 2006 بدأ نيوسوم علاقة مع المخرجة جينيفر سيبل. ثم أعلن أنه سيسعى للعلاج من اضطراب تعاطي الكحول في فبراير 2007، وأعلنا خطوبتهما في ديسمبر العام نفسه وتزوجا في يوليو (تموز) 2008 وأنجبا أربعة أطفال.

البداية مع السياسة
بدأ نيوسوم حياته السياسية عام 1996 عندما عينه عمدة سان فرانسيسكو الديمقراطي ويلي براون للعمل في لجنة إدارة مواقف السيارات والمرور في المدينة. ثم عينه لملء منصب شاغر في مجلس المشرفين في العام التالي، إذ انتخب لاحقا لمجلس الإدارة في أعوام 1998 و2000 و2002.
بعدها خاض منافسة مع مات غونزاليس مرشح حزب «الخضر» المدعوم من التقدميين وكثرة من الديمقراطيين في انتخابات رئاسة بلدية سان فرانسيسكو عام 2003، وفاز نيوسوم بفارق 11 ألف صوت، بفضل دعم من شخصيات وطنية من الحزب الديمقراطي، بما في ذلك بيل كلينتون وآل غور وجيسي جاكسون، رأوا ضرورة الفوز في المدينة بعد خسارتهم الانتخابات الرئاسية عام 2000 وحاكمية الولاية عام 2003. وهكذا، أصبح الرئيس 42 لبلدية المدينة، وكان يومذاك في الـ36 من العمر، أصغر عمدة للمدينة منذ قرن.
ثم عام 2007 أعيد انتخاب نيوسوم بنسبة 72 في المائة من الأصوات، عام 2010 انتخب نائبا لحاكم ولاية كاليفورنيا وأعيد انتخابه في عام 2014، لينتخب عام 2018 حاكماً للولاية ويصبح الحاكم الـ40 لها.
خاض نيوسوم معارك مبكرة منذ بداية عمله السياسي، واكتسب اهتماماً وطنياً عام 2004 عندما وجه كاتب مدينة سان فرانسيسكو بإصدار تراخيص الزواج للأزواج من الجنس نفسه. ثم إنه دعم مشاريع الإسكان من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص لزيادة ملكية المنازل والإسكان الميسور التكلفة في سان فرانسيسكو. وأنجز مشروع تقديم الرعاية والإسكان الداعم والعلاج من تعاطي المخدرات والمساعدة من متخصصي الصحة السلوكية للمشردين بدلاً من المساعدة النقدية المباشرة من برنامج المساعدة العامة للولاية. ووقع على قانون إنشاء «مدينة سان فرانسيسكو الصحية» عام 2007 لتقديم الرعاية الصحية الشاملة لسكان المدينة، لتكون أول مدينة في البلاد تقوم بذلك. وسمي «العمدة الأكثر اجتماعية في أميركا» عام 2010، بناء على تحليل ملفات تعريف وسائل التواصل الاجتماعي لرؤساء بلديات أكبر 100 مدينة في الولايات المتحدة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.