الوسط الفني المصري يشيّع مصطفى محرم... أحد أبرز «شيوخ» الكتابة الدرامية

رحيل عرّاب «لن أعيش في جلباب أبي»

الكاتب الراحل مصطفى محرم (صفحة المركز الكاثوليكي للسينما)
الكاتب الراحل مصطفى محرم (صفحة المركز الكاثوليكي للسينما)
TT

الوسط الفني المصري يشيّع مصطفى محرم... أحد أبرز «شيوخ» الكتابة الدرامية

الكاتب الراحل مصطفى محرم (صفحة المركز الكاثوليكي للسينما)
الكاتب الراحل مصطفى محرم (صفحة المركز الكاثوليكي للسينما)

صُدم الوسط الفني المصري في ثاني أسبوع من شهر رمضان المبارك بخبر وفاة الكاتب الكبير مصطفى محرم أحد أبرز الكتاب والسيناريست المصريين في الزمن المعاصر والاسم اللامع لنجاح كثير من الأعمال الفنية والسينمائية الخالدة في تاريخ الفن المصري، وبلا شك فهو أحد أبرز الأسماء التي عرفتها «تترات» الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية على مدار نحو نصف قرن، ما جعل خبر وفاته مساء الخميس، يعود بنا إلى شريط طويل من الذكريات للأعمال التي تركها الراحل في رصيد الدراما والسينما المصرية.
وقد رحل مصطفى محرم عن عمر يناهز 82 عاماً، بعد تعرضه لأزمة صحية مفاجئة، نُقل على أثرها إلى العناية المركزة بأحد المستشفيات الخاصة، وشُيِّعت جنازته من مسجد «السيدة نفسية» في وسط القاهرة أمس.
من جانبها قالت وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم، في بيان تنعى فيه مصطفى محمود: «إن الراحل قدم معالجات أيقونية لكثير من قضايا المجتمع، كما أبرز بحرفية ومهارة الجانب الإنساني في الشخصيات التي تناولها بقلمه، وستبقى أعماله خالدة في تاريخ الإبداع المصري والعربي بعد أن حققت مكانة كبيرة في وجدان الجماهير».
من الجدير بالذكر أن الراحل وُلد في 6 يونيو (حزيران) 1939 وبدأ مسيرته الفنية بكتابة السيناريو السينمائي، وقد لمع اسمه بصفة خاصة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وأسهم بشكل لافت في الدراما التلفزيونية التي بات واحداً من أبرز كتابها، ولعل أشهر محطاته قيامه بكتابة السيناريو والحوار لرواية الراحل إحسان عبد القدوس «لن أعيش في جلباب أبي»، إنتاج 1996، الذي عُرض في مسلسل حقق شهرة غير مسبوقة في ذلك الوقت، ولا تزال حاضرة إلى اليوم بنوستلجياتها ومفارقاتها الدرامية، وقام بعدها بكتابة مسلسل «عائلة الحاج متولي» 2001 الذي حقق هو الآخر نجاحاً مدوياً، والعملان قام ببطولتهما الفنان الراحل نور الشريف، وكذلك كان بطل مسلسله «العطار والسبع بنات»، ومن أعماله التلفزيونية الأخرى التي حققت اهتماماً جماهيرياً مسلسل «زهرة وأزواجها الخمسة» و«ريا وسكينة»، وأغلبها تزامن عرضه ضمن دراما شهر رمضان.
وقد جسّد الأعمال الدرامية التي كتبها مصطفى محرم عدد من كبار نجوم السينما، منهم سعاد حسني، وعادل إمام، وأحمد زكي، ونبيلة عبيد، ونادية الجندي، وفاروق الفيشاوي، وإلهام شاهين، وأوضح الناقد الفني الدكتور شريف صالح لـ«الشرق الأوسط» أن «محرم انتمى إلى أهم جيل عرفته السينما والدراما المصرية، والذي كان يضم كتاباً بارزين على غرار وحيد حامد، ولينين الرملي، وأسامة أنور عكاشة، وبشير الديك وأسامة أنور عكاشة، ومحسن زايد، والذين تجمع بينهم قواسم كثيرة، أهمها أنهم من جيل نكسة يونيو التي قوضتْ أحلامهم، وهذا يظهر بجلاء في خيارات محرم الأولى في عالم السينما مثل (ليل وقضبان)، و(حادثة شرف)، وإن بدا فيلماً اجتماعياً، إلى جانب فيلم (أغنية على الممر)».
وأضاف صالح أن «الملمح الثاني لهذا الجيل كله، هو أنه خرج من عباءة نجيب محفوظ الروائي والسينارست، وأعادوا معالجة كثير من نصوصه صراحةً أو ضمناً، كما فعل محرم في أعمال (الجوع)، و(أهل القمة)، و(شهد الملكة)، و(الحب فوق هضبة الهرم)، و(وصمة عار)».
فيما كان ثالث الملامح التي ميّزت محرم، خريج قسم الأدب الإنجليزي، مثلما ميّزت أبناء جيله، حسّه الأدبي الرفيع، لأنهم تقريباً أدباء وأصدر معظمهم روايات ومسرحيات، وتابع صالح: «على حد علمي لم ينشر محرم أدباً، لكنّ هذا الملمح يظهر في تنظيره للكتابة الدرامية، وترجمته لبعض الكتب مثل (تشريح الفيلم)، إضافة لكتابة سيرته الفنية. ويمكن القول إنه دخل إلى مجال السينما من باب القارئ الشغوف بالأدب، أكثر منه من باب صاحب الموهبة الأدبية».
وكان عمل محرم في البداية، قراءة وتقييم السيناريوهات في إحدى شركات الإنتاج، وهذا العمل جعله أحد «أسطوات» الكتابة الدرامية الكبار، فهو بارع في استشعار أذواق الجمهور، وإدراك حسابات المنتج، وعدم التخلي عن المعنى والقيمة. لذلك كان خياراً مريحاً لمعظم المخرجين والفنانين مثل محمود ياسين، ونور الشريف، ونبيلة عبيد، ونادية الجندي، واستمر طيلة مسيرة تجاوزت مائة عمل، في العودة إلى نصوص كبار الكتاب مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وإسماعيل ولي الدين».
وسبق وصرّح الفنان الراحل بعد تكريمه من «قصر ثقافة السينما» بالقاهرة العام الماضي بأنه «صاحب نقطة التحول في مسيرة النجمتين نبيلة عبيد ونادية الجندي بالأفلام التي كتبها لهما وأسهمت إلى حد كبير في صناعة مجدهما السينمائي».
من جانبها أعلنت إدارة الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، إطلاق اسم الكاتب مصطفى محرم على الدورة الثالثة لمسابقة «الفيلم المصري الروائي» التي تُوزع جوائزها عقب عيد الفطر المبارك.
وقد ذكرت الجمعية في نعيها أمس أن «الراحل قدم خلال نصف قرن أكثر من مائة فيلم سينمائي، كما أثرى المكتبة العربية بعشرات الإصدارات المؤلفة والمترجمة في مجالات الثقافة السينمائية والنقد السينمائي».
ويرى الكاتب الصحافي أشرف مفيد أنه «برحيل الكاتب والسيناريست الكبير مصطفى محرم نكون قد فقدنا قيمة إبداعية كبيرة، إذ كان أحد أهم وأبرز أعمدة الدراما المصرية، فضلاً عن ذلك فقد كان يمتلك موهبة خارقة في الغوص داخل النفس البشرية، وهو ما يمكن أن نلمسه بوضوح في جميع الأعمال التي قدمها سواء للسينما أو للتلفزيون لدرجة أنه كان يُجبر المشاهد على التعامل مع شخصيات أعماله كأنها شخصيات حقيقية من لحم ودم».
وكانت تربط أشرف مفيد صداقة وطيدة بالراحل مصطفى محرم، ويقول مفيد لـ«الشرق الأوسط» إن «مصطفى محرم لم يقهره المرض، ولكن قهره إحساسه بالظلم الذي تعرض له خلال السنوات الماضية بسبب ابتعاده عن دائرة صناعة الدراما، وهو ما كان يعبّر عنه الراحل خلال السنوات الأخيرة».
وفي الختام يشير مفيد إلى أن الكاتب الراحل كان يتمتع على المستوى الإنساني بـ«البساطة»، وأنه كان يستمتع بالحكايات عن كواليس الأعمال الشهيرة التي قدمها سواء للسينما أو للتلفزيون عبر مشواره الفني الطويل.


مقالات ذات صلة

حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

يوميات الشرق نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

من أبرز أعمال الحلفاوي «رأفت الهجان» عام 1990 الذي اشتهر فيه بشخصية ضابط المخابرات المصري «نديم قلب الأسد»، التي جسدها بأداءٍ يجمع بين النبرة الهادئة والصّرامة.

رشا أحمد (القاهرة )
يوميات الشرق الفنان السعودي عبد المحسن النمر (البحر الأحمر السينمائي)

عبد المحسن النمر: «خريف القلب» يتضمن قصصاً تهم الأسر العربية

قال الفنان السعودي عبد المحسن النمر، إن السبب الرئيسي وراء نجاح مسلسله الجديد «خريف القلب» يعود إلى مناقشته قضايا إنسانية تهم الأسر العربية.

«الشرق الأوسط» (جدة)
الوتر السادس تركز الفنانة نسمة محجوب على الحضور الفني بشكل دائم (صفحتها على {فيسبوك})

نسمة محجوب: أطمح لتقديم سيرة ماجدة الرومي درامياً

طرحت الفنانة المصرية نسمة محجوب، مطلع ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أحدث أعمالها الغنائية بعنوان «الناس حواديت»، والتي حظيت بتفاعل من المتابعين عبر مواقع التواصل

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق الفنان السوري جمال سليمان (حساب سليمان على «فيسبوك»)

إعلان جمال سليمان نيته الترشح لرئاسة سوريا يثير ردوداً متباينة

أثار إعلان الفنان السوري جمال سليمان نيته الترشح لرئاسة بلاده، «إذا أراده السوريون»، ردوداً متباينة.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من البرومو الترويجي لمسلسل «ساعته وتاريخه» الذي يعرَض حالياً (برومو المسلسل)

مسلسلات مستوحاة من جرائم حقيقية تفرض نفسها على الشاشة المصرية       

في توقيتات متقاربة، أعلن عدد من صُنَّاع الدراما بمصر تقديم مسلسلات درامية مستوحاة من جرائم حقيقية للعرض على الشاشة.

داليا ماهر (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)