«برتقال»... الحرب والذاكرة

يجسد أحداثَ مسرحية «برتقال» للممثل والمخرج والكاتب بسام قهار التي حازت مناصفة على جائزة الهيئة العربية للمسرح، ممثلان: جانيت وهي مطربة بعمر الخمسين، ورباح شاعر أكبر منها قليلاً. تعيش الشخصيتان في مكان واحد، وهما يبحثان عن أجوبة لما آل إليه مصيرهما بسبب عدم التفاهم مع الآخرين بالنسبة لرباح، والتهميش والاستلاب بالنسبة لجانيت.
رباح شخصية مثقفة تائهة، تشعر بالغثيان من الآخرين الذين دفعوه للمستشفى بتهم أوصلته إلى حافة الجنون، وهو يعيش فقط مع الكتب والشعر... والهذيان. أما جانيت فادعت أنها مسيحية كذباً، وهي المسلمة، لكي تغني في الملاهي، إلا أن حدوث الحرب منعها من التقديم إلى لجنة الاختبار مما أبقاها مع الكومبارس خلف المطربات.
وهي تعمل في المسرحية بدور المحافظ على ذاكرة رباح، الذي «يهذي دائماً بهدوء» لكنها لا تعرف لماذا. يقول لها: «رأسي مليئة بالناس ولا أحتاج لأحد. رأسي متخمة بالبشر الذين أريد أن أكون معهم، أعرفهم وأعرف كيف يفكرون وبماذا يحلمون، أعرف الكثير عن حياتهم وآلامهم ومسراتهم، أكلمهم كل يوم كل ساعة كل لحظة، هم أصدقائي وبعضهم أعدائي أيضاً، أحاورهم وأجادلهم وأتخاصم معهم... يبكون أحياناً وأحياناً يضحكون ويسخرون، يقلقونني ويمنعون عني النوم ويقسون عليّ حين يتكلمون إليّ كلهم مرة واحدة رغم أنهم لا يخلفون معي موعداً، ولا ينزعجون مني عندما أتحدث إليهم طويلاً وهم ينصتون كأولاد المدرسة لكنهم بحاجة إلى التصرف معي بذوق ولباقة أكثر»، ولكنه سرعان ما ينسى.
كل فضاء الحوارات مع جانيت محاطة بالشك، وعدم التثبت من التاريخ، ولكنهما يعترفان بمعرفة أحدهما الآخر، وسط حقل ألغام من الظنون والتيه، وكأنهما خارج الزمان والمكان، وهذا ما يتيح للنص أن يقترب من السينما الشاعرية التي تعوض عن الكلام بالصورة بشكل أوضح من الحركة الجسدية في المسرح. وهنا ثمة انفتاح وتداخل في رسم الشخصية المسرحية: الانفتاح يتمثل بالاعتماد على المشاعر أو بكلام أدق على الإيحاء بالمشاعر. وهذا يحدث في السينما أو الرواية، والتداخل يتمثل بإمكانية اللغة العالية التي تعوض في كثير من الأحيان عن الصورة، خصوصاً حين تتوالى الحكايات التي ترويها جانيت عن العسكري الذي اشترى لها عقداً بكل راتبه وذهب إلى الحرب ولم يعد، أو المقعد الذي يحنو عليها في زيارته للملهى، ويعاملها بكل لطف، وحكاية صديقاتها وتعلقها بالغناء.
جانيت تعرف لماذا تتشبث برباح: «إن كنت تهرب من الماضي فأنا أعيش مع ذكريات لا تهدأ... هي كل ما أملك»... أما رباح فقد استسلم لضياعه، ولم يتحمل الضغط والاختلاف عن الآخرين. وهذا يقودنا إلى دراما تعيش على تكملة النقص الحاصل في تماثل الشخصية، أي أن الصراع لا يعيش على التصعيد بالتناقض، لأن هناك ثمة تشابهاً في مواجهة الحياة بين جانيت ورباح، من ناحية مواجهة الآخرين. يقول رباح: «أبقى أو أرحل عندما أستطيع لا عندما أريد... حياتي نفي متواصل عن الأمكنة والناس والأشياء أحياناً أريد الشيء وأرفض الوصول إليه كأن رأسي لشخص آخر... الحياة أساءت التصرف معي وأسأت التصرف معها... لا نحب بعضنا... أنا وهي لا نلتقي». إننا هنا كأننا إزاء نص كتب للنخبة تتوافر فيه عوامل الاختزال والتركيز ومعرفة الهدف.
تدريجياً نكتشف أن البطلين يعيشان حالة الخروج من الحروب المتكررة، ومن النفي الداخلي الذي يعني الماضي بكل قسوته، ومن النفي الخارجي لأن الأمكنة طاردة للشاعر والمغنية. يقول رباح لجانيت: «أنت جربت كل شيء ولم تصلي لمكان وأنا لم أجرب شيئاً وبقيت في مكاني أيضاً، عندما أنظر لحياتي لا أتذكر أني عشت مسرات كالتي يعيشها الآخرون... كثيرة هي الأشياء التي أعرفها وربما أكثر مما يجب لكن ما أعرفه عن الآخرين أكثر مما أعرفه عن نفسي فشلت في عيش حياة لها حكايات، كنت ألهث خلف ما لا أعرف وأمضي بعيداً، لكني وفي كل مرة أكتشف أني بنفس المكان... أقف وسنواتي تتحول إلى ماضٍ لا أعتقد هو نفسه الذي يعرفه الناس عني! أشعر بأني مطارد لأخطاء لم أرتكبها وجرائم سجلت ضدي وأنا غائب، الكل يجري خلفي مثل دجاجة يلاحقها أفراد العائلة لتكون عشاء».
رموز وإشارات
ثمة «موجهات» كتابية، دونها المؤلف باسم قهار معتقداً أن بعض الرموز قد لا تصل بسهولة إلى المشاهد، حيث كتب في بداية النص المسرحي، «فترات الصمت المتكررة تشكل جزءاً أساسياً من إيقاع النص/ العرض، إذ تعبر عن التشتت والإرباك الذهني للشاعر وعن فقدان التواصل العاطفي والنفسي للمغنية. الصمت هنا لتدوير الزمن وخلق بداية جديدة لكل فعل أو حوار متعثر أو انقطاع بين الشخصيتين، ثمة نقطة صفر زمنية يتم الرجوع لها بينهما كذلك التنقيط المتكرر بين الجمل (...) فهو مرة محاولة للاستدراك وأخرى لضبط الإيقاع النفسي للشخصيتين»، قد يعمد المخرج إلى استبدال الصمت بإيقاع متكرر والحديث عن هذا الأمر سابق لأوانه.
في نص «برتقال» رموز تترك تأثيرها الواضح على المشاهد، مثل تكرار مشهد التقاط صورة السليفي لأنه يعيد لنا الإحساس بالتذكر المشوش لرباح ومحاولة التذكير من طرف جانيت حتى نكتشف أن البرتقالة التي أهداها رباح لها لم تظهر في الصورة آخر المطاف، وكذلك فعل الضوء الذي يحدد طبيعة جلوس الممثلين في كل فصل/صورة في إشارة إلى أنه، أي الضوء، يأتي من الداخل، فيما الموسيقى دائماً تأتي من النافذة بفعل خارجي.
ودائما ينتهي الفصل/الصورة بخفوت الضوء، كما أن هناك إشارات كثيرة تدل على الوحدة والمرض والوباء والزمن، يتضاعف تأثيرها حين تصبح حركة وأضواء على خشبة المسرح.