منذ أن بدأ سباق اللقاحات ضد «كوفيد - 19» والخطاب السياسي يدور حول هدف تجاوز التغطية اللقاحية 70% من السكان، ورسخ في الوعي الاجتماعي أنه عند بلوغ هذا الهدف ستتحقق المناعة الجماعية، أو مناعة القطيع، التي تشكّل بداية انحسار الفيروس حتى الوصول إلى وقف انتشاره أو اختفائه.
وفي أوروبا، لا حديث منذ أشهر سوى عن بلوغ هذا الهدف السحري قبل بداية موسم السياحة الصيفي لإنقاذ هذا القطاع الذي كان الأكثر تضرراً جراء تدابير العزل والإقفال، ولتنفيس الاحتقان النفسي الذي بات يطلق شرارات متكررة تهدد السلم الاجتماعي في أكثر من دولة أوروبية.
تفيد دراسة أوليّة وضعها باحثون في «إمبيريال كوليدج» في لندن بأن المملكة المتحدة قد تبلغ هذه التغطية مطلع الأسبوع المقبل، لكنها تطرح تساؤلات عديدة حول هذا الرقم المستهدف والقرائن العلمية التي تدعم ما هو مُفترض من بلوغه: متى يبلغ بلد معيّن مناعة القطيع؟ وما الأدلّة العلمية التي تستند إليها نسبة 70% من السكّان؟ وهل تضمن هذه المناعة فعلاً العودة إلى الحياة الطبيعية؟
يقول العلماء إن مناعة القطيع مفهوم نظري بحت، يُقصد به مستوى الحماية الجماعية الكافية لوقف سريان الفيروس، حتى من دون قيود على الحركة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي. وهو يستند إلى معادلة حسابية بسيطة: عندما تكتسب كتلة سكانية كافية مناعة ضد الفيروس، تشكّل حاجزاً يحول دون انتقاله إلى الآخرين. وتتفق غالبية نماذج العلوم الوبائية على أن هذه المناعة تتحقق عندما تكون نسبة الحماية بين 60% و80%. لكنّ واقع التجربة يبيّن أن النسبة الحقيقية تخضع لتقلبات عديدة وعوامل تختلف باختلاف طبيعة المجتمعات وتكوينها الديمغرافي، فضلاً عن موقعها الجغرافي ودرجة نموّها.
وتتوقف المناعة الجماعية بشكل أساسي على «المعدّل التكاثري»، أي على عدد الحالات التي تنشأ عن كل إصابة. فكلما ارتفع هذا العدد، ازدادت الحاجة لتحصين عدد أكبر من المواطنين من أجل الوصول إلى الحماية الجماعية، أي إن نسبة التغطية المناعية اللازمة تتغيّر حسب المرض، وأحياناً حسب الوضع الصحي العام.
تقول خبيرة العلوم المناعية في جامعة زيوريخ، كلويه باسين، إن المعدّل التكاثري لمرض الحصبة يتراوح بين 12 و18، وبالتالي فإن المناعة الجماعية ضد هذه المرض تقتضي تلقيح ما يزيد على 95%من السكان. يُضاف إلى ذلك أن مستوى الحماية الجماعية يتأثر باستمرار بمعدّل سريان الفيروس، الذي يتأثر بدوره مباشرةً بتدابير الاحتواء ونسبة الامتثال لها. وتقول باسين إنه إذا كان المعدل التكاثري للفيروس 2، وجبت تغطية بنسبة 50% لمناعة القطيع، وإذا ارتفع إلى 3 أصبحت هذه النسبة 67%. وبما أن المعدل التكاثري لفيروس «كورونا» المستجد قُدّر بما بين 2.5 و3 وفاعلية اللقاحات هي دون 100%، قُدّرت نسبة الحملي اللازمة بنحو 70%.
وتقول خبيرة العلوم الوبائية في جامعة أكسفورد، كريستيل دونالي، إن الاستجابة المناعية تختلف باختلاف المصابين بـ«كوفيد - 19»، وإنه من المحتمل جداً ألا يكون في نفس المستوى من الحماية ضد إصابة ثانية بالفيروس. وتضيف أن الحماية المكتسبة بالإصابة هي عادةً ضعيفة جداً عند المسنّين، ما يعني أن كل الذين أُصيبوا مرة بالوباء ليسوا جميعاً بالضرورة محصّنين ضد إصابة ثانية. وتشير دونالي أيضاً إلى أنه ليس من المعروف بعد إذا كانت الحماية الناشئة عن الإصابة توازي تلك التي تتولّد من اللقاح، ما يعزّز الرأي القائل بضرورة تلقيح المعافين من الوباء.
وترى بفرلي باترسون، خبيرة الصحة العامة في منظمة الصحة العالمية، أن عدد المحصّنين يتغيّر باستمرار بفعل الولادات والوفيات، فضلاً عن أن ظهور الطفرات الفيروسية الجديدة قد يغيّر المعادلة من أساسها. وتقول: «إذا كانت الطفرات مختلفة جداً عن الفيروس الذي على أساسه تمّ تصميم اللقاحات وتطويرها، تضعف كثيراً فاعلية التطعيم ضدها، ما يستدعي تلقيح عدد أكبر من المواطنين لتحقيق المناعة الجماعية».
وينبّه خبراء منظمة الصحة العالمية إلى أن سرعة سريان «كوفيد - 19» تجعل من التفاوت الجغرافي في التغطية اللقاحية حاجزاً كبيراً أمام تحقيق المناعة الجماعية الفعلية. يُضاف إلى ذلك أن بلوغ نسبة 70% من السكان لا يعني أن كل المناطق في بلد معيّن قد بلغت هذه النسبة، ناهيك بالتفاوت العمري والاجتماعي. ونظراً لوجود علاقة سببية قوية بين المناعة والسنّ، تنصح المنظمة الدولية بإعطاء الأولوية للفئات الأكثر تعرّضاً، لكنها تحذّر من أن الفيروس سيواصل السريان إذا تأخر الشباب في تناول اللقاح.
وتجدر الإشارة أن فريقاً يضمّ أكثر من 80 باحثاً في العلوم الفيروسية والوبائية كان قد نشر رسالة مفتوحة في مجلة «The Lancet» المرموقة، أواخر العام الماضي، يحذّر فيها من أن النظرية التي تدعو إلى السماح بسريان الفيروس بلا قيود لتسريع بلوغ الحماية الجماعية، هي «مغالطة خطيرة لا تستند لأي قرينة علمية»، ومن شأنها أن تُلحق أضراراً لا تعوّض بالاقتصاد، وأن تطيل أمد الجائحة وتؤدي إلى انهيار معظم الأنظمة الصحية. وكانت كبيرة العلماء في منظمة الصحة العالمية سميّة سواميناتان قد صرّحت بأن المناعة الجماعية الطبيعية يمكن أن تقضي على 77 مليون إنسان، أي 1%من سكان العالم.
ويُذكر أن أوّل من طرح هذه النظرية ودعا إلى تطبيقها، كان فريقاً يضمّ ثلاثة خبراء في العلوم الوبائية من جامعات «هارفارد» و«أكسفورد» و«ستانفورد» طالبوا بالسماح للفئات الأقل تعرّضاً لإصابة خطرة بمزاولة حياتهم بشكل طبيعي للوصول إلى المناعة الجماعية، وتوفير حماية خاصة للفئات الأكثر تعرّضاً. وفيما لاقى ذلك الاقتراح بعض التأييد، رفضته الأوساط العلمية ومنظمة الصحة العالمية التي ذكّرت بأن نسبة الفئات الأكثر تعرّضاً تصل إلى 30% من السكان في بعض المناطق من العالم، فضلاً عن أن الوصول إلى حماية طبيعية بنسبة 70% يحتاج سنوات أو ربما إلى عقود، الأمر الذي لا يمكن أن يتحمله أي اقتصاد في العالم.
«مناعة القطيع» تحت مجهر الشكوك والتساؤلات
تتطلب حماية 80 % من السكان وتخضع لتقلبات عدة
«مناعة القطيع» تحت مجهر الشكوك والتساؤلات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة