شكري.. الصلابة في مواجهة «أشواك الدبلوماسية»

وزير الخارجية المصري عمل في خضم أحداث كبرى إقليمية ودولية.. ويحاول إيجاد مفتاح الحل

شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
TT

شكري.. الصلابة في مواجهة «أشواك الدبلوماسية»

شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة

يوصف وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بـ«الرجل الصلب».
تجد هذا في عدة وثائق غربية تناولت شخصيته قبل سنوات من شغله موقعه الوزاري. اليوم أصبح محط أنظار العالم وتقدير من حكومة بلاده، وهو يضع منظور مصر أمام المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب كـ«حزمة واحدة»، وليس بالانتقاء أو بالحرب ضد بعض التنظيمات وترك الأخرى، إلى جانب الجهود التي يبذلها على الصعيد الإقليمي، عربيا وأفريقيا، أو من خلال تواصله اليومي مع دول العالم، وكأنه يريد أن يضع بصمته على عمل وزارة الخارجية ذات التاريخ الطويل والتجارب المتنوعة عبر قرن ونصف من الزمان.

دبلوماسيون غربيون لاحظوا منذ وقت مبكر أن شكري من أشد الموفدين الدوليين إثارة للمتاعب لخصوم القضايا المصرية والعربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فهو يصر دائما على الدفاع عن مصالح بلاده والأمن القومي العربي حتى آخر نفس، خصوصا في فترة شغله لموقع سفير مصر في الولايات المتحدة.. ويقول أحد زملاء الوزير ممن تعاملوا معه لسنوات إنه كان لا يكتفي بعرض وجهة النظر المصرية والعربية، بل يعمل على استقطاب ممثلي دول أخرى سواء أفريقية أو آسيوية أو من أميركا اللاتينية، للوقوف مع وجهة النظر التي يدافع عنها.
جاء اختيار شكري لموقع وزير الخارجية في ظل ظروف صعبة ورهانات كبيرة لبلد يعاني من الفقر ومن «مضايقات» إقليمية ودولية، ومن هجمات إرهابية يضغط بها المتطرفون من أنصار الإخوان وغيرهم، على السلطات الحاكمة بالقاهرة. بعد أيام قليلة من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور، في يونيو (حزيران) الماضي، بدأت التكهنات تدور عن التغييرات التي سيجريها على حكومة المهندس إبراهيم محلب. هل سيغيرها كلها بما فيها رئيس الوزراء أم أنه سيكتفي بإجراء تعديلات على بعض المواقع المهمة، مثل وزارة الخارجية ذات التاريخ العريق؟
ومنذ جلوسه على الكرسي المطل على نهر النيل، خلفا للعشرات من الوزراء السابقين، وجد شكري ملفات كثيرة وشائكة على مكتبه: الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة. السعي لإقامة دولة فلسطينية. تزايد نفوذ «داعش» في العراق وسوريا. الفوضى الأمنية في ليبيا، إضافة إلى علاقات مصر مع الدول الأفريقية وعلى رأسها الدول المطلة على نهر النيل. شكري رجل طويل وممتلئ قليلا لكن بتناسق يشبه طريقته في المشي وفي التفكير وفي التفاوض.. يصمت قليلا لينتقي عباراته بعناية. يعرف متى يتحدث بشكل مباشر ومتى يراوغ من يستحق المراوغة.
رغم ما قد يظهر عليه، منذ اللحظة الأولى، من بساطة وعفوية وتلقائية، إلا أنه وبمجرد انخراطه في العمل، وفي الكلام، يبدأ في لفت الأنظار إليه من خلال لهجته الحازمة ومنطقه القوي الذي يتسبب في كثير من الأحيان في حشر الخصم في الزاوية. وعمل شكري المولود في 20 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 سفيرا لبلاده في الولايات المتحدة في الفترة من عام 2008 حتى عام 2012. ومن الأعمال اللافتة التي اقترنت باسمه قيامه بتنظيم ما كان يعرف بـ«بعثات طرق الأبواب» الأميركية من جانب رجال الأعمال المصريين، بهدف تحقيق أكبر استفادة اقتصادية لمصر، في أجواء المنافسة العالمية في التجارة، ولدعم إيجاد فرص تصديرية للأسواق الأميركية.
ودرس الرجل القانون وتخرج في جامعة عين شمس الواقعة في شرق العاصمة المصرية، قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي في ظل الظروف المضطربة التي كانت تمر بها المنطقة بعد نحو 3 سنوات من حرب تحرير سيناء عام 1973. ثم عمل بعد ذلك سفيرا لبلاده في كل من لندن، وبوينس آيرس، إضافة لقيادته للبعثة المصرية الدائمة في نيويورك، ورئاسته بعد ذلك للقسم الخاص بالولايات المتحدة وكندا في وزارة الخارجية المصرية في عامي 1994 و1995.
من أهم فترات عمل شكري شغله لعدة مواقع أخرى مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة والدبلوماسيين من دول مختلفة حول العالم. ومن بين هذه الوظائف التي منحته خبرات مختلفة ومتراكمة، عمله كسكرتير للمعلومات للرئيس الأسبق حسني مبارك حتى عام 1999. وكذا وجوده عن قرب مع وزير الخارجية الأسبق، أحمد أبو الغيط، مديرا لمكتبه ثم إيفاده إلى النمسا سفيرا وممثلا دائم لمصر لدى المنظمات الدولية في فيينا حتى عام 2003. تعكس مكاتبات دبلوماسية أميركية مسربة، الروح الصلبة التي يتحلى بها شكري.. تتحدث برقية صادرة عن بعثة الولايات المتحدة، بالأمم المتحدة في جنيف، في الثاني من يوليو (تموز) عام 2008، ما فعله الوفد المصري بقيادة شكري أثناء مناقشة مشروع في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
تقول القصة إن منظمات غير حكومية تقدمت بمشروع تريد من خلاله ربط الإسلام بانتهاك حقوق الإنسان في قضايا مثل جرائم الشرف وغيرها، إلا أن وفد مصر، برئاسة شكري، قاد حملة ضد المشروع وشدد على أن الإسلام «لن يتم تشويهه»، كما ضغط باتجاه تشريع عدم انتقاد الإسلام أو أي ديانة أخرى داخل المجلس الأممي، لأن ذلك من شأنه تأجيج مشكلات مرتبطة بحقوق الإنسان. وتبنى شكري موقفا كان كذلك مثار استغراب من جانب الدبلوماسيين الأميركيين في جنيف، والذين يبدو أنهم لم يتوقعوا الأمر بالطريقة التي كانوا يأملون فيها. فقد قاد الرجل الوفد المصري في ذلك الوقت لرفض إعطاء ثقل أكبر للمنظمات غير الحكومية في عمل المجلس. تضيف البرقية أنه عمد إلى عدم التصويت في الجلسات التي تخصص لهذا الشأن. وتقول البرقية إنه لم يقم بهذا فقط، بل إن مساعديه كانوا يعملون بنشاط على حشد الدعم مع الأطراف الأخرى للموافقة على التوجه الذي يريده الوفد المصري. وتمكن خلال تلك المناقشات من حشد الدعم لمواقف لا تؤيدها الولايات المتحدة، وفقا للبرقية التي أشارت أيضا لمواقف شكري في جلسة تلك السنة، من القضية الفلسطينية والمقاومة، حيث أكد خلالها أن «هناك مقاومة فلسطينية تقاتل محتلا أجنبيا لأرضها وأن ما تفعله هو دفاع مشروع عن النفس». وكانت الطريقة التي ذكرها بشأن حق المقاومة في العمل، تبدو وكأنها لا تتلاءم مع ما تريده بعض الأطراف الغربية التي كانت تعتقد أن انخراط الحكومة المصرية في جهود السلام في منطقة الشرق الأوسط، يعني تجاهل حق المقاومة الفلسطينية في العمل ضد الاحتلال. وتقول البرقية إن ما قاله شكري أصاب الدبلوماسيين الأميركيين في جنيف بالدهشة.
شكري متزوج وله ابنان. وسمحت له ظروف عمله سفيرا لمصر في الولايات المتحدة، وإقامته في الخارج، برؤية المشهد من بعيد وقراءة خريطة التحولات في المنطقة التي عصفت بها رياح ما يعرف بـ«الربيع العربي»، منذ 2011. ومن ضمن ما تركه هذا «الربيع» ملف ضخم أصبح يحتاج إلى حلول بمشاركة دولية هو ملف «الإرهاب» و«التطرف». وتسببت الانتفاضات التي شهدتها بلدان مثل مصر وليبيا وسوريا في ظهور خليط من الجماعات المتشددة التي ترفع السلاح وتبث مشاهد للإعدامات بطريق النحر بالسكاكين، وتعيث فسادا في هذه الدول وغيرها. كان شكري قبل أن يتولى موقعه وزيرا يرى بعين الدبلوماسي المحنك أن مستقبل المنطقة في ظل هذه الأحداث الخطيرة أصبح على المحك.
وعلى عكس ما يجري من فوضى في سوريا والعراق وليبيا واليمن، تمكنت مصر برئاسة الرئيس السيسي، من إنقاذ البلاد من «مخاطر مماثلة»، وذلك حين هب الشعب المصري وقرر، من الشوارع والميادين، طرد جماعة الإخوان من الحكم في 30 يونيو 2013. وبدأت وزارة الخارجية منذ ذلك الوقت عملا مضنيا وشاقا لموجهة الانتقادات والتهجمات التي أطلقها حلفاء الإخوان ضد مصر، سواء من دول المنطقة أو من دول أخرى لها وزن في العالم مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
معلوم أن جماعة الإخوان التي جرى تصنيفها من الحكومة ومن القضاء بمصر «منظمة إرهابية»، بعد ثورة يونيو، ترتبط بعدد من دول المنطقة حيث تعمل على الترويج الإعلامي لها، وتؤوي قادتها وتمدها بالأموال والإمكانات. وبعد خسارتها لتعاطف الشعب بدأت في الانتقام من المصريين عن طريق قيام المتطرفين بزرع القنابل وترويع الناس واستهداف رجال الجيش والشرطة، خصوصا في سيناء.
وتعتمد مصر على وزارة الخارجية في نقل الصورة الحقيقية للخارج والتعامل مع الأوضاع في ليبيا ورعاية وحماية مصالح المواطنين المصريين هناك، وفي غيرها من بلدان العالم، ولهذا كان الوزير شكري ووزارته محل تقدير من جانب المهندس محلب، رئيس مجلس الوزراء.
وشكري خريج المدرسة الدبلوماسية المصرية الشهيرة بالسياسة الخارجية المتزنة والمرتبطة بالأهداف والمصالح الاستراتيجية في إطار استقلال القرار المصري، ودعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والتمسك بمبادئ القانون الدولي واحترام العهود والمواثيق ودعم دور المنظمات الدولية وتعزيز التضامن بين الدول والدفع نحو إصلاح الأمم المتحدة، مع التأكيد على إنجاز هدفين مترابطين هما «حماية الأمن القومي المصري والمصالح المصرية العليا»، و«تحقيق التنمية الشاملة بأبعادها المختلفة بما يحقق الهدف الأول».
كما يؤكد رئيس الوزراء، محلب، على عراقة وزارة الخارجية باعتبارها مؤسسة وطنية رصينة تمثل خط الدفاع الأول في حماية الأمن القومي المصري، مشيدا بدورها والسفارات المصرية في الخارج في التواصل مع العالم الخارجي لتعظيم المصلحة الوطنية المصرية.
ومن أجل الحفاظ على المدرسة الدبلوماسية المصرية يحرص الوزير شكري بين حين وآخر على زيارة معهد الدراسات الدبلوماسية التابع للوزارة، وهو معهد يتولى إعداد وتخريج الدبلوماسيين المصريين بمجرد التحاقهم بالعمل بالسلك الدبلوماسي والقنصلي. كما ينظم المعهد، الذي يعد من المعاهد ذات السمعة الطيبة في العالم والمنطقة، دورات تدريبية للدبلوماسيين من دول عربية وأفريقية.
ورغم العواصف والأنواء التي تضرب المنطقة بين حين وآخر، إلا أن السياسة الخارجية لمصر التي ينفذها الوزير شكري بطريقة احترافية في الوقت الراهن، تلتزم بدعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والتمسك بمبادئ القانون الدولي واحترام العهود والمواثيق، كما تعد الإطار العربي مجال تحرك رئيسيا لها، وهو ما ظهر جليا في العلاقات مع الدول الشقيقة «رغم بعض المنغصات». وتمكنت الخارجية المصرية ودبلوماسية شكري من استعادة مكانة مصر الكاملة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وجرى تنظيم الكثير من الزيارات لأفريقيا وآسيا وأوروبا، كان الرئيس السيسي على رأس عدد منها. لكن «ملف الإرهاب»، وهو الأهم، لم يجر الانتهاء منه بعد، بسبب الكثير من التحديات خاصة ما يتعلق بالدعم الإقليمي والمساندة الدولية للإخوان، ورفض عدد من الدول تصنيفها «جماعة إرهابية». وتولى شكري عمله في مثل هذه الأجواء المضطربة على صعيد المنطقة، وأمام آفاق دولية ضبابية بشأن طريقة التعامل مع التنظيمات المتطرفة. ففي الوقت الذي تحارب فيه بعض الدول تنظيم داعش في العراق وسوريا، تفسح تلك الدول الطريق أمام تسليح الميليشيات المتطرفة في ليبيا المجاورة لمصر. بل تحظر تسليح الجيش الليبي التابع للسلطات المنتخبة من الشعب والمعترف بها دوليا.
ومنذ إعلان المتطرفين، أو ما يعرف بـ«داعش ليبيا»، عن اختطاف 21 مصريا، والتهديد بنحرهم، ظلت نافذة مكتب شكري مضيئة في مبنى وزارة الخارجية على كورنيش القاهرة، على مدى أيام، بينما الاتصالات واللقاءات لا تتوقف في محاولة لإنقاذ الرهائن.
يرى الرجل أن التنظيمات المتطرفة «لا علاقة لها بأي دين». وفور تنفيذ المتطرفين لتهديداتهم وقيامهم ببث مشاهد وحشية لإعدام المصريين بالذبح بالسكاكين على الشاطئ الليبي، وجه الرئيس السيسي بالعمل على صعيدين اثنين بشكل عاجل. الأول توجيه ضربات بالطيران الحربي لتنظيم داعش في ليبيا بالتنسيق مع الجيش الليبي، والثاني إيفاد شكري إلى الأمم المتحدة من أجل طرح موضوع الإرهاب في ليبيا وفي المنطقة كقضية شاملة، والتواصل مع دول العالم لإيجاد موقف موحد للتخلص من هذه الآفة العابرة للحدود.
يبدي شكري استغرابه من الدعم غير المحدود الذي تتلقاه الميليشيات في ليبيا من بعض الدول مطالبا برفع الحظر على تسليح الجيش الليبي من أجل تمكين السلطات الشرعية من حماية الشعب.
ومن أهم الملفات الأخرى التي يوليها الوزير شكري اهتماما كبيرا ملف «نهر النيل»، الذي يعد بمثابة شريان حياة لمصر. وظهر الموضوع قبل سنوات كواحد من القضايا القومية التي تشغل القاهرة منذ قرار إثيوبيا إقامة «سد النهضة» على مجرى النهر لتوليد الكهرباء. وعلى خلاف الطريقة الصدامية التي تعامل بها الرئيس الأسبق محمد مرسي، مع موضوع السد، تبدو السياسة المصرية الحديدة منحازة لحل المشكلات ضمن إطار تعاون مصري - أفريقي. ولهذا زار شكري إثيوبيا للوقوف، بوضوح كامل، على ما وصلت إليه العلاقات الثنائية من نواح إيجابية وتذليل ما قد يكون هناك من عقبات وأن يكون هناك تفاهم كامل في الموضوعات التي تهم مصر.
ويؤكد الوزير بعد كل جولة يقوم بها في القارة السمراء أن «اهتمام مصر بأفريقيا اهتمام حقيقي»، وهو ممن يرون وجود فرص للتكامل، ويقول إن لبلاده حيزا تنافسيا عاليا يجب أن نستفيد منه ولكن يجب أن تسهم مصر أيضا في جهود التنمية بالقارة بما لديها من إمكانيات.
وأثنى المهندس محلب مجددا على الجهود التي يقوم بها الوزير شكري في توضيح حقيقة ما يحدث في مصر من مواجهة للإرهاب، وكذلك على ما تقوم به الدولة من تنفيذ لمشروعات قومية وتنموية عملاقة خلال المرحلة الحالية، مشيرا إلى أن وزارة الخارجية نجحت في نقل حقيقة ما يحدث في مصر للعالم الخارجي منذ 30 يونيو مما أدى إلى تسليم دول العالم بإرادة الشعب المصري العظيم وبخارطة الطريق التي ارتضاها، فضلا عما تقوم به السفارات في الخارج من دور وطني كبير.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.