شكري.. الصلابة في مواجهة «أشواك الدبلوماسية»

وزير الخارجية المصري عمل في خضم أحداث كبرى إقليمية ودولية.. ويحاول إيجاد مفتاح الحل

شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
TT

شكري.. الصلابة في مواجهة «أشواك الدبلوماسية»

شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة

يوصف وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بـ«الرجل الصلب».
تجد هذا في عدة وثائق غربية تناولت شخصيته قبل سنوات من شغله موقعه الوزاري. اليوم أصبح محط أنظار العالم وتقدير من حكومة بلاده، وهو يضع منظور مصر أمام المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب كـ«حزمة واحدة»، وليس بالانتقاء أو بالحرب ضد بعض التنظيمات وترك الأخرى، إلى جانب الجهود التي يبذلها على الصعيد الإقليمي، عربيا وأفريقيا، أو من خلال تواصله اليومي مع دول العالم، وكأنه يريد أن يضع بصمته على عمل وزارة الخارجية ذات التاريخ الطويل والتجارب المتنوعة عبر قرن ونصف من الزمان.

دبلوماسيون غربيون لاحظوا منذ وقت مبكر أن شكري من أشد الموفدين الدوليين إثارة للمتاعب لخصوم القضايا المصرية والعربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فهو يصر دائما على الدفاع عن مصالح بلاده والأمن القومي العربي حتى آخر نفس، خصوصا في فترة شغله لموقع سفير مصر في الولايات المتحدة.. ويقول أحد زملاء الوزير ممن تعاملوا معه لسنوات إنه كان لا يكتفي بعرض وجهة النظر المصرية والعربية، بل يعمل على استقطاب ممثلي دول أخرى سواء أفريقية أو آسيوية أو من أميركا اللاتينية، للوقوف مع وجهة النظر التي يدافع عنها.
جاء اختيار شكري لموقع وزير الخارجية في ظل ظروف صعبة ورهانات كبيرة لبلد يعاني من الفقر ومن «مضايقات» إقليمية ودولية، ومن هجمات إرهابية يضغط بها المتطرفون من أنصار الإخوان وغيرهم، على السلطات الحاكمة بالقاهرة. بعد أيام قليلة من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور، في يونيو (حزيران) الماضي، بدأت التكهنات تدور عن التغييرات التي سيجريها على حكومة المهندس إبراهيم محلب. هل سيغيرها كلها بما فيها رئيس الوزراء أم أنه سيكتفي بإجراء تعديلات على بعض المواقع المهمة، مثل وزارة الخارجية ذات التاريخ العريق؟
ومنذ جلوسه على الكرسي المطل على نهر النيل، خلفا للعشرات من الوزراء السابقين، وجد شكري ملفات كثيرة وشائكة على مكتبه: الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة. السعي لإقامة دولة فلسطينية. تزايد نفوذ «داعش» في العراق وسوريا. الفوضى الأمنية في ليبيا، إضافة إلى علاقات مصر مع الدول الأفريقية وعلى رأسها الدول المطلة على نهر النيل. شكري رجل طويل وممتلئ قليلا لكن بتناسق يشبه طريقته في المشي وفي التفكير وفي التفاوض.. يصمت قليلا لينتقي عباراته بعناية. يعرف متى يتحدث بشكل مباشر ومتى يراوغ من يستحق المراوغة.
رغم ما قد يظهر عليه، منذ اللحظة الأولى، من بساطة وعفوية وتلقائية، إلا أنه وبمجرد انخراطه في العمل، وفي الكلام، يبدأ في لفت الأنظار إليه من خلال لهجته الحازمة ومنطقه القوي الذي يتسبب في كثير من الأحيان في حشر الخصم في الزاوية. وعمل شكري المولود في 20 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 سفيرا لبلاده في الولايات المتحدة في الفترة من عام 2008 حتى عام 2012. ومن الأعمال اللافتة التي اقترنت باسمه قيامه بتنظيم ما كان يعرف بـ«بعثات طرق الأبواب» الأميركية من جانب رجال الأعمال المصريين، بهدف تحقيق أكبر استفادة اقتصادية لمصر، في أجواء المنافسة العالمية في التجارة، ولدعم إيجاد فرص تصديرية للأسواق الأميركية.
ودرس الرجل القانون وتخرج في جامعة عين شمس الواقعة في شرق العاصمة المصرية، قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي في ظل الظروف المضطربة التي كانت تمر بها المنطقة بعد نحو 3 سنوات من حرب تحرير سيناء عام 1973. ثم عمل بعد ذلك سفيرا لبلاده في كل من لندن، وبوينس آيرس، إضافة لقيادته للبعثة المصرية الدائمة في نيويورك، ورئاسته بعد ذلك للقسم الخاص بالولايات المتحدة وكندا في وزارة الخارجية المصرية في عامي 1994 و1995.
من أهم فترات عمل شكري شغله لعدة مواقع أخرى مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة والدبلوماسيين من دول مختلفة حول العالم. ومن بين هذه الوظائف التي منحته خبرات مختلفة ومتراكمة، عمله كسكرتير للمعلومات للرئيس الأسبق حسني مبارك حتى عام 1999. وكذا وجوده عن قرب مع وزير الخارجية الأسبق، أحمد أبو الغيط، مديرا لمكتبه ثم إيفاده إلى النمسا سفيرا وممثلا دائم لمصر لدى المنظمات الدولية في فيينا حتى عام 2003. تعكس مكاتبات دبلوماسية أميركية مسربة، الروح الصلبة التي يتحلى بها شكري.. تتحدث برقية صادرة عن بعثة الولايات المتحدة، بالأمم المتحدة في جنيف، في الثاني من يوليو (تموز) عام 2008، ما فعله الوفد المصري بقيادة شكري أثناء مناقشة مشروع في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
تقول القصة إن منظمات غير حكومية تقدمت بمشروع تريد من خلاله ربط الإسلام بانتهاك حقوق الإنسان في قضايا مثل جرائم الشرف وغيرها، إلا أن وفد مصر، برئاسة شكري، قاد حملة ضد المشروع وشدد على أن الإسلام «لن يتم تشويهه»، كما ضغط باتجاه تشريع عدم انتقاد الإسلام أو أي ديانة أخرى داخل المجلس الأممي، لأن ذلك من شأنه تأجيج مشكلات مرتبطة بحقوق الإنسان. وتبنى شكري موقفا كان كذلك مثار استغراب من جانب الدبلوماسيين الأميركيين في جنيف، والذين يبدو أنهم لم يتوقعوا الأمر بالطريقة التي كانوا يأملون فيها. فقد قاد الرجل الوفد المصري في ذلك الوقت لرفض إعطاء ثقل أكبر للمنظمات غير الحكومية في عمل المجلس. تضيف البرقية أنه عمد إلى عدم التصويت في الجلسات التي تخصص لهذا الشأن. وتقول البرقية إنه لم يقم بهذا فقط، بل إن مساعديه كانوا يعملون بنشاط على حشد الدعم مع الأطراف الأخرى للموافقة على التوجه الذي يريده الوفد المصري. وتمكن خلال تلك المناقشات من حشد الدعم لمواقف لا تؤيدها الولايات المتحدة، وفقا للبرقية التي أشارت أيضا لمواقف شكري في جلسة تلك السنة، من القضية الفلسطينية والمقاومة، حيث أكد خلالها أن «هناك مقاومة فلسطينية تقاتل محتلا أجنبيا لأرضها وأن ما تفعله هو دفاع مشروع عن النفس». وكانت الطريقة التي ذكرها بشأن حق المقاومة في العمل، تبدو وكأنها لا تتلاءم مع ما تريده بعض الأطراف الغربية التي كانت تعتقد أن انخراط الحكومة المصرية في جهود السلام في منطقة الشرق الأوسط، يعني تجاهل حق المقاومة الفلسطينية في العمل ضد الاحتلال. وتقول البرقية إن ما قاله شكري أصاب الدبلوماسيين الأميركيين في جنيف بالدهشة.
شكري متزوج وله ابنان. وسمحت له ظروف عمله سفيرا لمصر في الولايات المتحدة، وإقامته في الخارج، برؤية المشهد من بعيد وقراءة خريطة التحولات في المنطقة التي عصفت بها رياح ما يعرف بـ«الربيع العربي»، منذ 2011. ومن ضمن ما تركه هذا «الربيع» ملف ضخم أصبح يحتاج إلى حلول بمشاركة دولية هو ملف «الإرهاب» و«التطرف». وتسببت الانتفاضات التي شهدتها بلدان مثل مصر وليبيا وسوريا في ظهور خليط من الجماعات المتشددة التي ترفع السلاح وتبث مشاهد للإعدامات بطريق النحر بالسكاكين، وتعيث فسادا في هذه الدول وغيرها. كان شكري قبل أن يتولى موقعه وزيرا يرى بعين الدبلوماسي المحنك أن مستقبل المنطقة في ظل هذه الأحداث الخطيرة أصبح على المحك.
وعلى عكس ما يجري من فوضى في سوريا والعراق وليبيا واليمن، تمكنت مصر برئاسة الرئيس السيسي، من إنقاذ البلاد من «مخاطر مماثلة»، وذلك حين هب الشعب المصري وقرر، من الشوارع والميادين، طرد جماعة الإخوان من الحكم في 30 يونيو 2013. وبدأت وزارة الخارجية منذ ذلك الوقت عملا مضنيا وشاقا لموجهة الانتقادات والتهجمات التي أطلقها حلفاء الإخوان ضد مصر، سواء من دول المنطقة أو من دول أخرى لها وزن في العالم مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
معلوم أن جماعة الإخوان التي جرى تصنيفها من الحكومة ومن القضاء بمصر «منظمة إرهابية»، بعد ثورة يونيو، ترتبط بعدد من دول المنطقة حيث تعمل على الترويج الإعلامي لها، وتؤوي قادتها وتمدها بالأموال والإمكانات. وبعد خسارتها لتعاطف الشعب بدأت في الانتقام من المصريين عن طريق قيام المتطرفين بزرع القنابل وترويع الناس واستهداف رجال الجيش والشرطة، خصوصا في سيناء.
وتعتمد مصر على وزارة الخارجية في نقل الصورة الحقيقية للخارج والتعامل مع الأوضاع في ليبيا ورعاية وحماية مصالح المواطنين المصريين هناك، وفي غيرها من بلدان العالم، ولهذا كان الوزير شكري ووزارته محل تقدير من جانب المهندس محلب، رئيس مجلس الوزراء.
وشكري خريج المدرسة الدبلوماسية المصرية الشهيرة بالسياسة الخارجية المتزنة والمرتبطة بالأهداف والمصالح الاستراتيجية في إطار استقلال القرار المصري، ودعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والتمسك بمبادئ القانون الدولي واحترام العهود والمواثيق ودعم دور المنظمات الدولية وتعزيز التضامن بين الدول والدفع نحو إصلاح الأمم المتحدة، مع التأكيد على إنجاز هدفين مترابطين هما «حماية الأمن القومي المصري والمصالح المصرية العليا»، و«تحقيق التنمية الشاملة بأبعادها المختلفة بما يحقق الهدف الأول».
كما يؤكد رئيس الوزراء، محلب، على عراقة وزارة الخارجية باعتبارها مؤسسة وطنية رصينة تمثل خط الدفاع الأول في حماية الأمن القومي المصري، مشيدا بدورها والسفارات المصرية في الخارج في التواصل مع العالم الخارجي لتعظيم المصلحة الوطنية المصرية.
ومن أجل الحفاظ على المدرسة الدبلوماسية المصرية يحرص الوزير شكري بين حين وآخر على زيارة معهد الدراسات الدبلوماسية التابع للوزارة، وهو معهد يتولى إعداد وتخريج الدبلوماسيين المصريين بمجرد التحاقهم بالعمل بالسلك الدبلوماسي والقنصلي. كما ينظم المعهد، الذي يعد من المعاهد ذات السمعة الطيبة في العالم والمنطقة، دورات تدريبية للدبلوماسيين من دول عربية وأفريقية.
ورغم العواصف والأنواء التي تضرب المنطقة بين حين وآخر، إلا أن السياسة الخارجية لمصر التي ينفذها الوزير شكري بطريقة احترافية في الوقت الراهن، تلتزم بدعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والتمسك بمبادئ القانون الدولي واحترام العهود والمواثيق، كما تعد الإطار العربي مجال تحرك رئيسيا لها، وهو ما ظهر جليا في العلاقات مع الدول الشقيقة «رغم بعض المنغصات». وتمكنت الخارجية المصرية ودبلوماسية شكري من استعادة مكانة مصر الكاملة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وجرى تنظيم الكثير من الزيارات لأفريقيا وآسيا وأوروبا، كان الرئيس السيسي على رأس عدد منها. لكن «ملف الإرهاب»، وهو الأهم، لم يجر الانتهاء منه بعد، بسبب الكثير من التحديات خاصة ما يتعلق بالدعم الإقليمي والمساندة الدولية للإخوان، ورفض عدد من الدول تصنيفها «جماعة إرهابية». وتولى شكري عمله في مثل هذه الأجواء المضطربة على صعيد المنطقة، وأمام آفاق دولية ضبابية بشأن طريقة التعامل مع التنظيمات المتطرفة. ففي الوقت الذي تحارب فيه بعض الدول تنظيم داعش في العراق وسوريا، تفسح تلك الدول الطريق أمام تسليح الميليشيات المتطرفة في ليبيا المجاورة لمصر. بل تحظر تسليح الجيش الليبي التابع للسلطات المنتخبة من الشعب والمعترف بها دوليا.
ومنذ إعلان المتطرفين، أو ما يعرف بـ«داعش ليبيا»، عن اختطاف 21 مصريا، والتهديد بنحرهم، ظلت نافذة مكتب شكري مضيئة في مبنى وزارة الخارجية على كورنيش القاهرة، على مدى أيام، بينما الاتصالات واللقاءات لا تتوقف في محاولة لإنقاذ الرهائن.
يرى الرجل أن التنظيمات المتطرفة «لا علاقة لها بأي دين». وفور تنفيذ المتطرفين لتهديداتهم وقيامهم ببث مشاهد وحشية لإعدام المصريين بالذبح بالسكاكين على الشاطئ الليبي، وجه الرئيس السيسي بالعمل على صعيدين اثنين بشكل عاجل. الأول توجيه ضربات بالطيران الحربي لتنظيم داعش في ليبيا بالتنسيق مع الجيش الليبي، والثاني إيفاد شكري إلى الأمم المتحدة من أجل طرح موضوع الإرهاب في ليبيا وفي المنطقة كقضية شاملة، والتواصل مع دول العالم لإيجاد موقف موحد للتخلص من هذه الآفة العابرة للحدود.
يبدي شكري استغرابه من الدعم غير المحدود الذي تتلقاه الميليشيات في ليبيا من بعض الدول مطالبا برفع الحظر على تسليح الجيش الليبي من أجل تمكين السلطات الشرعية من حماية الشعب.
ومن أهم الملفات الأخرى التي يوليها الوزير شكري اهتماما كبيرا ملف «نهر النيل»، الذي يعد بمثابة شريان حياة لمصر. وظهر الموضوع قبل سنوات كواحد من القضايا القومية التي تشغل القاهرة منذ قرار إثيوبيا إقامة «سد النهضة» على مجرى النهر لتوليد الكهرباء. وعلى خلاف الطريقة الصدامية التي تعامل بها الرئيس الأسبق محمد مرسي، مع موضوع السد، تبدو السياسة المصرية الحديدة منحازة لحل المشكلات ضمن إطار تعاون مصري - أفريقي. ولهذا زار شكري إثيوبيا للوقوف، بوضوح كامل، على ما وصلت إليه العلاقات الثنائية من نواح إيجابية وتذليل ما قد يكون هناك من عقبات وأن يكون هناك تفاهم كامل في الموضوعات التي تهم مصر.
ويؤكد الوزير بعد كل جولة يقوم بها في القارة السمراء أن «اهتمام مصر بأفريقيا اهتمام حقيقي»، وهو ممن يرون وجود فرص للتكامل، ويقول إن لبلاده حيزا تنافسيا عاليا يجب أن نستفيد منه ولكن يجب أن تسهم مصر أيضا في جهود التنمية بالقارة بما لديها من إمكانيات.
وأثنى المهندس محلب مجددا على الجهود التي يقوم بها الوزير شكري في توضيح حقيقة ما يحدث في مصر من مواجهة للإرهاب، وكذلك على ما تقوم به الدولة من تنفيذ لمشروعات قومية وتنموية عملاقة خلال المرحلة الحالية، مشيرا إلى أن وزارة الخارجية نجحت في نقل حقيقة ما يحدث في مصر للعالم الخارجي منذ 30 يونيو مما أدى إلى تسليم دول العالم بإرادة الشعب المصري العظيم وبخارطة الطريق التي ارتضاها، فضلا عما تقوم به السفارات في الخارج من دور وطني كبير.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.