شكري.. الصلابة في مواجهة «أشواك الدبلوماسية»

وزير الخارجية المصري عمل في خضم أحداث كبرى إقليمية ودولية.. ويحاول إيجاد مفتاح الحل

شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
TT

شكري.. الصلابة في مواجهة «أشواك الدبلوماسية»

شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة
شغل عدة مواقع مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة من دول العالم المختلفة

يوصف وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بـ«الرجل الصلب».
تجد هذا في عدة وثائق غربية تناولت شخصيته قبل سنوات من شغله موقعه الوزاري. اليوم أصبح محط أنظار العالم وتقدير من حكومة بلاده، وهو يضع منظور مصر أمام المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب كـ«حزمة واحدة»، وليس بالانتقاء أو بالحرب ضد بعض التنظيمات وترك الأخرى، إلى جانب الجهود التي يبذلها على الصعيد الإقليمي، عربيا وأفريقيا، أو من خلال تواصله اليومي مع دول العالم، وكأنه يريد أن يضع بصمته على عمل وزارة الخارجية ذات التاريخ الطويل والتجارب المتنوعة عبر قرن ونصف من الزمان.

دبلوماسيون غربيون لاحظوا منذ وقت مبكر أن شكري من أشد الموفدين الدوليين إثارة للمتاعب لخصوم القضايا المصرية والعربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فهو يصر دائما على الدفاع عن مصالح بلاده والأمن القومي العربي حتى آخر نفس، خصوصا في فترة شغله لموقع سفير مصر في الولايات المتحدة.. ويقول أحد زملاء الوزير ممن تعاملوا معه لسنوات إنه كان لا يكتفي بعرض وجهة النظر المصرية والعربية، بل يعمل على استقطاب ممثلي دول أخرى سواء أفريقية أو آسيوية أو من أميركا اللاتينية، للوقوف مع وجهة النظر التي يدافع عنها.
جاء اختيار شكري لموقع وزير الخارجية في ظل ظروف صعبة ورهانات كبيرة لبلد يعاني من الفقر ومن «مضايقات» إقليمية ودولية، ومن هجمات إرهابية يضغط بها المتطرفون من أنصار الإخوان وغيرهم، على السلطات الحاكمة بالقاهرة. بعد أيام قليلة من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور، في يونيو (حزيران) الماضي، بدأت التكهنات تدور عن التغييرات التي سيجريها على حكومة المهندس إبراهيم محلب. هل سيغيرها كلها بما فيها رئيس الوزراء أم أنه سيكتفي بإجراء تعديلات على بعض المواقع المهمة، مثل وزارة الخارجية ذات التاريخ العريق؟
ومنذ جلوسه على الكرسي المطل على نهر النيل، خلفا للعشرات من الوزراء السابقين، وجد شكري ملفات كثيرة وشائكة على مكتبه: الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة. السعي لإقامة دولة فلسطينية. تزايد نفوذ «داعش» في العراق وسوريا. الفوضى الأمنية في ليبيا، إضافة إلى علاقات مصر مع الدول الأفريقية وعلى رأسها الدول المطلة على نهر النيل. شكري رجل طويل وممتلئ قليلا لكن بتناسق يشبه طريقته في المشي وفي التفكير وفي التفاوض.. يصمت قليلا لينتقي عباراته بعناية. يعرف متى يتحدث بشكل مباشر ومتى يراوغ من يستحق المراوغة.
رغم ما قد يظهر عليه، منذ اللحظة الأولى، من بساطة وعفوية وتلقائية، إلا أنه وبمجرد انخراطه في العمل، وفي الكلام، يبدأ في لفت الأنظار إليه من خلال لهجته الحازمة ومنطقه القوي الذي يتسبب في كثير من الأحيان في حشر الخصم في الزاوية. وعمل شكري المولود في 20 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 سفيرا لبلاده في الولايات المتحدة في الفترة من عام 2008 حتى عام 2012. ومن الأعمال اللافتة التي اقترنت باسمه قيامه بتنظيم ما كان يعرف بـ«بعثات طرق الأبواب» الأميركية من جانب رجال الأعمال المصريين، بهدف تحقيق أكبر استفادة اقتصادية لمصر، في أجواء المنافسة العالمية في التجارة، ولدعم إيجاد فرص تصديرية للأسواق الأميركية.
ودرس الرجل القانون وتخرج في جامعة عين شمس الواقعة في شرق العاصمة المصرية، قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي في ظل الظروف المضطربة التي كانت تمر بها المنطقة بعد نحو 3 سنوات من حرب تحرير سيناء عام 1973. ثم عمل بعد ذلك سفيرا لبلاده في كل من لندن، وبوينس آيرس، إضافة لقيادته للبعثة المصرية الدائمة في نيويورك، ورئاسته بعد ذلك للقسم الخاص بالولايات المتحدة وكندا في وزارة الخارجية المصرية في عامي 1994 و1995.
من أهم فترات عمل شكري شغله لعدة مواقع أخرى مكنته من التعرف عن قرب على الكثير من الزعماء والقادة والدبلوماسيين من دول مختلفة حول العالم. ومن بين هذه الوظائف التي منحته خبرات مختلفة ومتراكمة، عمله كسكرتير للمعلومات للرئيس الأسبق حسني مبارك حتى عام 1999. وكذا وجوده عن قرب مع وزير الخارجية الأسبق، أحمد أبو الغيط، مديرا لمكتبه ثم إيفاده إلى النمسا سفيرا وممثلا دائم لمصر لدى المنظمات الدولية في فيينا حتى عام 2003. تعكس مكاتبات دبلوماسية أميركية مسربة، الروح الصلبة التي يتحلى بها شكري.. تتحدث برقية صادرة عن بعثة الولايات المتحدة، بالأمم المتحدة في جنيف، في الثاني من يوليو (تموز) عام 2008، ما فعله الوفد المصري بقيادة شكري أثناء مناقشة مشروع في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
تقول القصة إن منظمات غير حكومية تقدمت بمشروع تريد من خلاله ربط الإسلام بانتهاك حقوق الإنسان في قضايا مثل جرائم الشرف وغيرها، إلا أن وفد مصر، برئاسة شكري، قاد حملة ضد المشروع وشدد على أن الإسلام «لن يتم تشويهه»، كما ضغط باتجاه تشريع عدم انتقاد الإسلام أو أي ديانة أخرى داخل المجلس الأممي، لأن ذلك من شأنه تأجيج مشكلات مرتبطة بحقوق الإنسان. وتبنى شكري موقفا كان كذلك مثار استغراب من جانب الدبلوماسيين الأميركيين في جنيف، والذين يبدو أنهم لم يتوقعوا الأمر بالطريقة التي كانوا يأملون فيها. فقد قاد الرجل الوفد المصري في ذلك الوقت لرفض إعطاء ثقل أكبر للمنظمات غير الحكومية في عمل المجلس. تضيف البرقية أنه عمد إلى عدم التصويت في الجلسات التي تخصص لهذا الشأن. وتقول البرقية إنه لم يقم بهذا فقط، بل إن مساعديه كانوا يعملون بنشاط على حشد الدعم مع الأطراف الأخرى للموافقة على التوجه الذي يريده الوفد المصري. وتمكن خلال تلك المناقشات من حشد الدعم لمواقف لا تؤيدها الولايات المتحدة، وفقا للبرقية التي أشارت أيضا لمواقف شكري في جلسة تلك السنة، من القضية الفلسطينية والمقاومة، حيث أكد خلالها أن «هناك مقاومة فلسطينية تقاتل محتلا أجنبيا لأرضها وأن ما تفعله هو دفاع مشروع عن النفس». وكانت الطريقة التي ذكرها بشأن حق المقاومة في العمل، تبدو وكأنها لا تتلاءم مع ما تريده بعض الأطراف الغربية التي كانت تعتقد أن انخراط الحكومة المصرية في جهود السلام في منطقة الشرق الأوسط، يعني تجاهل حق المقاومة الفلسطينية في العمل ضد الاحتلال. وتقول البرقية إن ما قاله شكري أصاب الدبلوماسيين الأميركيين في جنيف بالدهشة.
شكري متزوج وله ابنان. وسمحت له ظروف عمله سفيرا لمصر في الولايات المتحدة، وإقامته في الخارج، برؤية المشهد من بعيد وقراءة خريطة التحولات في المنطقة التي عصفت بها رياح ما يعرف بـ«الربيع العربي»، منذ 2011. ومن ضمن ما تركه هذا «الربيع» ملف ضخم أصبح يحتاج إلى حلول بمشاركة دولية هو ملف «الإرهاب» و«التطرف». وتسببت الانتفاضات التي شهدتها بلدان مثل مصر وليبيا وسوريا في ظهور خليط من الجماعات المتشددة التي ترفع السلاح وتبث مشاهد للإعدامات بطريق النحر بالسكاكين، وتعيث فسادا في هذه الدول وغيرها. كان شكري قبل أن يتولى موقعه وزيرا يرى بعين الدبلوماسي المحنك أن مستقبل المنطقة في ظل هذه الأحداث الخطيرة أصبح على المحك.
وعلى عكس ما يجري من فوضى في سوريا والعراق وليبيا واليمن، تمكنت مصر برئاسة الرئيس السيسي، من إنقاذ البلاد من «مخاطر مماثلة»، وذلك حين هب الشعب المصري وقرر، من الشوارع والميادين، طرد جماعة الإخوان من الحكم في 30 يونيو 2013. وبدأت وزارة الخارجية منذ ذلك الوقت عملا مضنيا وشاقا لموجهة الانتقادات والتهجمات التي أطلقها حلفاء الإخوان ضد مصر، سواء من دول المنطقة أو من دول أخرى لها وزن في العالم مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
معلوم أن جماعة الإخوان التي جرى تصنيفها من الحكومة ومن القضاء بمصر «منظمة إرهابية»، بعد ثورة يونيو، ترتبط بعدد من دول المنطقة حيث تعمل على الترويج الإعلامي لها، وتؤوي قادتها وتمدها بالأموال والإمكانات. وبعد خسارتها لتعاطف الشعب بدأت في الانتقام من المصريين عن طريق قيام المتطرفين بزرع القنابل وترويع الناس واستهداف رجال الجيش والشرطة، خصوصا في سيناء.
وتعتمد مصر على وزارة الخارجية في نقل الصورة الحقيقية للخارج والتعامل مع الأوضاع في ليبيا ورعاية وحماية مصالح المواطنين المصريين هناك، وفي غيرها من بلدان العالم، ولهذا كان الوزير شكري ووزارته محل تقدير من جانب المهندس محلب، رئيس مجلس الوزراء.
وشكري خريج المدرسة الدبلوماسية المصرية الشهيرة بالسياسة الخارجية المتزنة والمرتبطة بالأهداف والمصالح الاستراتيجية في إطار استقلال القرار المصري، ودعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والتمسك بمبادئ القانون الدولي واحترام العهود والمواثيق ودعم دور المنظمات الدولية وتعزيز التضامن بين الدول والدفع نحو إصلاح الأمم المتحدة، مع التأكيد على إنجاز هدفين مترابطين هما «حماية الأمن القومي المصري والمصالح المصرية العليا»، و«تحقيق التنمية الشاملة بأبعادها المختلفة بما يحقق الهدف الأول».
كما يؤكد رئيس الوزراء، محلب، على عراقة وزارة الخارجية باعتبارها مؤسسة وطنية رصينة تمثل خط الدفاع الأول في حماية الأمن القومي المصري، مشيدا بدورها والسفارات المصرية في الخارج في التواصل مع العالم الخارجي لتعظيم المصلحة الوطنية المصرية.
ومن أجل الحفاظ على المدرسة الدبلوماسية المصرية يحرص الوزير شكري بين حين وآخر على زيارة معهد الدراسات الدبلوماسية التابع للوزارة، وهو معهد يتولى إعداد وتخريج الدبلوماسيين المصريين بمجرد التحاقهم بالعمل بالسلك الدبلوماسي والقنصلي. كما ينظم المعهد، الذي يعد من المعاهد ذات السمعة الطيبة في العالم والمنطقة، دورات تدريبية للدبلوماسيين من دول عربية وأفريقية.
ورغم العواصف والأنواء التي تضرب المنطقة بين حين وآخر، إلا أن السياسة الخارجية لمصر التي ينفذها الوزير شكري بطريقة احترافية في الوقت الراهن، تلتزم بدعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والتمسك بمبادئ القانون الدولي واحترام العهود والمواثيق، كما تعد الإطار العربي مجال تحرك رئيسيا لها، وهو ما ظهر جليا في العلاقات مع الدول الشقيقة «رغم بعض المنغصات». وتمكنت الخارجية المصرية ودبلوماسية شكري من استعادة مكانة مصر الكاملة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وجرى تنظيم الكثير من الزيارات لأفريقيا وآسيا وأوروبا، كان الرئيس السيسي على رأس عدد منها. لكن «ملف الإرهاب»، وهو الأهم، لم يجر الانتهاء منه بعد، بسبب الكثير من التحديات خاصة ما يتعلق بالدعم الإقليمي والمساندة الدولية للإخوان، ورفض عدد من الدول تصنيفها «جماعة إرهابية». وتولى شكري عمله في مثل هذه الأجواء المضطربة على صعيد المنطقة، وأمام آفاق دولية ضبابية بشأن طريقة التعامل مع التنظيمات المتطرفة. ففي الوقت الذي تحارب فيه بعض الدول تنظيم داعش في العراق وسوريا، تفسح تلك الدول الطريق أمام تسليح الميليشيات المتطرفة في ليبيا المجاورة لمصر. بل تحظر تسليح الجيش الليبي التابع للسلطات المنتخبة من الشعب والمعترف بها دوليا.
ومنذ إعلان المتطرفين، أو ما يعرف بـ«داعش ليبيا»، عن اختطاف 21 مصريا، والتهديد بنحرهم، ظلت نافذة مكتب شكري مضيئة في مبنى وزارة الخارجية على كورنيش القاهرة، على مدى أيام، بينما الاتصالات واللقاءات لا تتوقف في محاولة لإنقاذ الرهائن.
يرى الرجل أن التنظيمات المتطرفة «لا علاقة لها بأي دين». وفور تنفيذ المتطرفين لتهديداتهم وقيامهم ببث مشاهد وحشية لإعدام المصريين بالذبح بالسكاكين على الشاطئ الليبي، وجه الرئيس السيسي بالعمل على صعيدين اثنين بشكل عاجل. الأول توجيه ضربات بالطيران الحربي لتنظيم داعش في ليبيا بالتنسيق مع الجيش الليبي، والثاني إيفاد شكري إلى الأمم المتحدة من أجل طرح موضوع الإرهاب في ليبيا وفي المنطقة كقضية شاملة، والتواصل مع دول العالم لإيجاد موقف موحد للتخلص من هذه الآفة العابرة للحدود.
يبدي شكري استغرابه من الدعم غير المحدود الذي تتلقاه الميليشيات في ليبيا من بعض الدول مطالبا برفع الحظر على تسليح الجيش الليبي من أجل تمكين السلطات الشرعية من حماية الشعب.
ومن أهم الملفات الأخرى التي يوليها الوزير شكري اهتماما كبيرا ملف «نهر النيل»، الذي يعد بمثابة شريان حياة لمصر. وظهر الموضوع قبل سنوات كواحد من القضايا القومية التي تشغل القاهرة منذ قرار إثيوبيا إقامة «سد النهضة» على مجرى النهر لتوليد الكهرباء. وعلى خلاف الطريقة الصدامية التي تعامل بها الرئيس الأسبق محمد مرسي، مع موضوع السد، تبدو السياسة المصرية الحديدة منحازة لحل المشكلات ضمن إطار تعاون مصري - أفريقي. ولهذا زار شكري إثيوبيا للوقوف، بوضوح كامل، على ما وصلت إليه العلاقات الثنائية من نواح إيجابية وتذليل ما قد يكون هناك من عقبات وأن يكون هناك تفاهم كامل في الموضوعات التي تهم مصر.
ويؤكد الوزير بعد كل جولة يقوم بها في القارة السمراء أن «اهتمام مصر بأفريقيا اهتمام حقيقي»، وهو ممن يرون وجود فرص للتكامل، ويقول إن لبلاده حيزا تنافسيا عاليا يجب أن نستفيد منه ولكن يجب أن تسهم مصر أيضا في جهود التنمية بالقارة بما لديها من إمكانيات.
وأثنى المهندس محلب مجددا على الجهود التي يقوم بها الوزير شكري في توضيح حقيقة ما يحدث في مصر من مواجهة للإرهاب، وكذلك على ما تقوم به الدولة من تنفيذ لمشروعات قومية وتنموية عملاقة خلال المرحلة الحالية، مشيرا إلى أن وزارة الخارجية نجحت في نقل حقيقة ما يحدث في مصر للعالم الخارجي منذ 30 يونيو مما أدى إلى تسليم دول العالم بإرادة الشعب المصري العظيم وبخارطة الطريق التي ارتضاها، فضلا عما تقوم به السفارات في الخارج من دور وطني كبير.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.