ربع المدن الساحلية يغرق بسبب هبوط الأراضي

الإسكندرية وبيروت وبنغازي بين الأكثر تأثراً

ربع المدن الساحلية يغرق بسبب هبوط الأراضي
TT

ربع المدن الساحلية يغرق بسبب هبوط الأراضي

ربع المدن الساحلية يغرق بسبب هبوط الأراضي

تشهد إندونيسيا باستمرار سلسلة من الكوارث الطبيعية، ويرتبط ذلك إلى حد كبير بموقعها في إحدى أسوأ المناطق من الناحية التكتونية التي تتميز بطبقات أرضية متحركة. وخلال القرن الماضي، هزت إندونيسيا أربعة من بين أقوى ستة زلازل في العالم، كما عرفت البلاد عدداً من أسوأ الانفجارات البركانية وكوارث التسونامي. وفي سنة 2018، سجلت إندونيسيا نصف الوفيات العالمية الناتجة عن الكوارث الطبيعية.
ومع أن التاريخ جعل الكوارث الطبيعية جزءاً من حياة الإندونيسيين، فإن القلق يشغل بال المواطنين والسياسيين على السواء فيما يرون كارثة غير مسبوقة تزحف ببطء وتهدد عاصمة البلاد بالغرق تحت البحر. جاكرتا التي ستصبح أكثر المدن اكتظاظاً بالسكان حول العالم في 2030 مهددة بانخفاض أكثر من 20 في المائة من مساحتها إلى ما دون مستوى سطح البحر. وإذا كان التخوف الطاغي هذه الأيام هو من ارتفاع البحار بسبب التغير المناخي، فإن انخفاض الأراضي سيفاقم المشكلة. فإذا ارتفعت البحار نصف متر، وانخفضت الأراضي الساحلية نصف متر، تكون النتيجة الغرق تحت متر من المياه.

دور النشاط البشري
العاصمة الإندونيسية ليست الوحيدة التي تخشى هذا المصير، فكثير من المدن الساحلية حول العالم عرضة للخطر نفسه، ابتداءً من المدن الكبرى في آسيا وصولاً إلى خليج المكسيك والساحل الشرقي للولايات المتحدة. ويتحالف ضد هذه الحواضر الساحلية عاملان، هما: تغير المناخ الذي يؤدي إلى ذوبان الجليد العالمي وارتفاع مستوى سطح البحر، وانخساف الأرض وهبوطها لأسباب طبيعية وأخرى ناتجة عن النشاطات البشرية.
وكانت مدينة مكسيكو سيتي قد بدأت بالهبوط منذ القرن الرابع عشر، عندما بدأ شعب «الأزتيك» في إقامة المعابد وغيرها من الهياكل الثقيلة على الرماد البركاني والرواسب الأخرى. وتتهدد مدينة قوانغشتو، إحدى أهم المدن التجارية في الصين، أضرار اقتصادية ناجمة عن الفيضانات أكثر من أي مدينة ساحلية أخرى على هذا الكوكب. كما تعد مدن ساحل المتوسط، خاصة الإسكندرية ونابولي وبيروت وإسطنبول وأثينا ومرسيليا وبنغازي، من أكثر المدن عرضة لزيادة نسبية في الأضرار الناجمة عن الفيضانات خلال هذا القرن.
ولا تكمن المشكلة في المناطق الشاطئية فقط. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، غاصت أجزاء من الحزام الزراعي في وادي كاليفورنيا إلى ما دون 10 أمتار. ومع ذلك، تبقى السواحل التي تحتضن أغلب المدن الكبرى أكثر عرضة للفيضانات والغرق.
وبعض العوامل التي تُسهم في هبوط الأراضي الساحلية خارجة عن سيطرة الإنسان، إذ لا تزال أجزاء من اليابسة تتكيف مع اختفاء الأنهار الجليدية التي غطتها خلال العصر الجليدي الأخير. وفي دلتا الأنهار الساحلية، تنخسف الأرض ببطء، حيث تتعرض الرواسب الجديدة للانضغاط بمرور الوقت.
ويمكن للأنشطة البشرية، مثل سحب المياه الجوفية واستخراج النفط والغاز وجمع الرمال وبناء حواجز الفيضانات حول الأنهار وبناء المنشآت الضخمة، أن تتسبب في هبوط الأرض. إن وقف فيضان الأنهار، وهو أمر جيد في حد ذاته، يمنع أيضاً نشر الرواسب التي تعوض الهبوط في التربة.
في دلتا النيل التي يعيش فيها نصف سكان مصر، تتراوح معدلات انخساف الأرض السنوية ما بين 3.7 مم في شمال غربي الدلتا و8.4 مم في شمالها الشرقي، وفقاً لدراسة نشرتها الجمعية الأميركية للجيولوجيا سنة 2017. وينتج هذا الهبوط عن ثلاثة عوامل أساسية، هي: الانضغاط الطبيعي المتواصل للطبقات الجيولوجية، والنشاط الزلزالي الضعيف في المنطقة، وفقدان الدلتا لمائة مليون طن من الرواسب والطمي كانت تجلبها فيضانات نهر النيل سنوياً، وهي تترسب حالياً خلف السد العالي وتقلل من جدواه.
وفي حين يبلغ المتوسط الفعلي لارتفاع مستوى سطح البحر بفعل ذوبان الجليد نتيجة تغير المناخ العالمي 2.5 مم في السنة، تخلص دراسة نُشرت في دورية «نيتشر» في مارس (آذار) 2021 إلى أن المدن الساحلية التي تتعرض لهبوط الأرض تواجه ارتفاعاً نسبياً في مستوى سطح البحر يتراوح بين 7.8 و9.9 مم في السنة، أي أربعة أضعاف المعدل الناجم عن تغير المناخ وحده.
هذه الأرقام التي جرى احتسابها للفترة بين 1993 و2015، اعتمدت على تجميع البيانات من أربعة مصادر أساسية، هي: سجلات مراقبة الأقمار الاصطناعية لارتفاع مستوى سطح البحر الناتج عن تغير المناخ، وتقديرات نموذجية لتغيرات سطح الأرض منذ العصر الجليدي الأخير، وبيانات عن الهبوط الطبيعي في 117 دلتا نهرية، وتقديرات الهبوط الذي يسببه الإنسان في 138 مدينة ساحلية كبيرة.
وتشير الدراسة التي تعد الأولى في تناول أثر هبوط الأرض على عمليات رصد ارتفاع مستوى سطح البحر عالمياً إلى أن هناك مناطق ساحلية ترتفع بسبب الارتداد الطبيعي للأرض بعد ذوبان الصفائح الجليدية، وتمثل مساحتها 12.5 في المائة من السواحل العالمية، ويعيش فيها 2.3 مليون شخص فقط.
أما السواحل التي يزيد فيها معدل الارتفاع النسبي لسطح البحر، المقترن بهبوط الأرض، عن 10 مم في السنة، فهي تمثل 0.7 إلى 0.8 في المائة من الساحل العالمي. ومع ذلك، يعيش في هذه المناطق ما بين 147 و171 مليون شخص؛ أي نحو 19.1 إلى 22.3 في المائة من تعداد سكان المناطق الساحلية، حيث لا يزيد ارتفاع الأرض عن 10 أمتار فوق مستوى البحر.
ويُعزى هذا التوزيع غير المتكافئ للسكان إلى أن مدن الدلتا تجتذب أعداداً كبيرة من السكان، وتشهد تنمية حضرية نشطة، مما يؤدي إلى هبوط الأراضي على نحو أسرع. وتقع أغلب المناطق التي تتعرض للغرق السريع في جنوب وشرق آسيا، بما في ذلك المدن الكبرى مثل جاكرتا وبانكوك ومانيلا وهوشي منه وتيانجين.
وتزداد المشكلة سوءاً في السهول الساحلية التي تتعرض لفيضانات الأنهار، وارتفاع مستوى سطح البحر. وإذا استمر هبوط الأرض بالمعدلات الحالية، فقد يتعرض عدد أكبر بكثير من سكان السواحل للخطر في العقود القليلة المقبلة، حيث من المتوقع أن يؤدي النمو السكاني إلى ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعيشون في السهول الساحلية المعرضة للفيضان من 249 مليوناً في 2015 إلى 280 مليوناً في 2050.
كما سيؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر الناجم عن تغير المناخ إلى وضع 25 إلى 30 مليون شخص في دائرة الخطر من الفيضانات، وسيضيف انخفاض أرض المدن المستمر نحو 25 إلى 40 مليون شخص آخر.

تدابير محلية لمواجهة هبوط الأرض
على المدن الساحلية حول العالم اتخاذ خطوات فورية للحد من هبوطها، قبل أن تجبر التأثيرات المشتركة لغوص الأراضي وارتفاع منسوب البحار السكان على هجرها والتراجع إلى الداخل. وتتوقع دراسة أجراها مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن لصالح المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) أن ارتفاعاً في مستوى البحر مقداره متر واحد فقط سيؤثر بشكل مباشر على 44.500 كيلومتر مربع من الأراضي الساحلية العربية. والتأثيرات الأكثر خطراً لارتفاع مستوى البحر ستكون في مصر وتونس والمغرب والجزائر والكويت وقطر والبحرين والإمارات.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الارتفاع في منسوب البحر سينتج عن تغير المناخ وهبوط الأرض بسبب استنزاف المياه الجوفية، واستخراج الثروات الباطنية، وتنفيذ مشاريع التطوير العقاري، وعوامل محلية أخرى، فقد تكون كثير من المناطق الساحلية العربية عرضة للغرق أسرع بكثير مما هو متوقع.
ويُعد استخراج المياه الجوفية المسبب الرئيسي للهبوط في أراضي كثير من المدن حول العالم، ويمكن التخفيف منه عبر إدارة أفضل للمياه، كما حصل في طوكيو وشانغهاي. وكانت العاصمة اليابانية قد عانت من هبوط كبير في منسوب الأرض، وصل إلى 4.5 متر، بسبب السحب الكثيف للغاز الطبيعي والمياه الجوفية، خاصة خلال فترة النمو الاقتصادي السريع في اليابان في الستينيات، مما جعل الجزء الشرقي من طوكيو دون مستوى سطح البحر. وبفضل اللوائح الصارمة للضخ، تعافى منسوب المياه الجوفية في المنطقة، إلا أنها بقيت تعاني من مشكلات أخرى، مثل عدم استقرار أساسات المباني بسبب تأثيرات الطفو وتميع التربة نتيجة الزلازل.
وسيكون التراجع عن بعض تدابير السيطرة على الفيضانات في أماكن أخرى أمراً أساسياً لتقليل الهبوط. ففي دلتا نهر المسيسيبي التي تغرق بسرعة في ساحل لويزيانا، يجري العمل على خطة بمليارات الدولارات لاستعادة الدورة الطبيعية للأراضي الرطبة عن طريق إحداث ثقوب في منظومة الأكتاف الترابية للنهر، مما سيسمح للرواسب بالانتشار إلى المستنقعات المجاورة مرة أخرى.
وفي جاكرتا التي يصل معدل انخساف الأرض تحتها إلى أكثر من 10 سنتمترات في السنة، وتعاني من الاكتظاظ وتلوث الهواء، حيث توصف بأنها «أكثر مدينة غير صحية في العالم»، اعتمدت الحكومة الإندونيسية خياراً جذرياً يقضي بإنشاء عاصمة جديدة للبلاد في جزيرة بورنيو. وسيتم البدء بتطوير العاصمة الجديدة بعد انتهاء البرنامج الوطني للتطعيم ضد فيروس «كورونا»، ومن المتوقع أن تصبح موطناً لنحو 7 ملايين شخص من موظفي الحكومة وأسرهم.
وتنصح الدراسات الحديثة بفصل استراتيجيات التكيف مع ارتفاع منسوب مياه البحر نتيجة تغير المناخ العالمي عن التحديات المحلية المرتبطة بهبوط الأرض، لأن كل منطقة تحتاج إلى فهم وضعها وخصوصيتها. ومن خلال التعامل مع مشكلة الأراضي الساحلية الغارقة بصفتها قضية عالمية، يمكن تبادل الخبرات بين الحكومات التي طورت استراتيجيات ناجحة للحد من هبوط الأرض، تماماً كما يحصل في مسألة التعاون المناخي.



​في اليونان... الجفاف يعيد إظهار قرية غمرتها المياه قبل عقود

انخفاض منسوب المياه في بحيرة مورنوس الاصطناعية بعد الجفاف (أ.ف.ب)
انخفاض منسوب المياه في بحيرة مورنوس الاصطناعية بعد الجفاف (أ.ف.ب)
TT

​في اليونان... الجفاف يعيد إظهار قرية غمرتها المياه قبل عقود

انخفاض منسوب المياه في بحيرة مورنوس الاصطناعية بعد الجفاف (أ.ف.ب)
انخفاض منسوب المياه في بحيرة مورنوس الاصطناعية بعد الجفاف (أ.ف.ب)

عاودت مبانٍ مهجورة في قرية كاليو الغارقة وسط اليونان الظهور أخيراً، بعد انخفاض مستوى بحيرة سدّ تشكّل خزان المياه الرئيسي لأثينا، بسبب موجة جفاف تطال البلاد منذ فترة، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

وتُظهر بحيرة مورنوس الاصطناعية، الواقعة على بُعد 200 كيلومتر غرب العاصمة، انخفاضاً بنسبة 30 في المائة في احتياطياتها في الأشهر الأخيرة مقارنة بالعام الماضي، وفق بيانات هيئة «إيداب» المسؤولة عن قطاع المياه في منطقة أتيكا التي تتبع لها أثينا.

ويثير الانحباس الكبير في المتساقطات قلقاً حاداً لدى مختلف الجهات في اليونان، وصولاً إلى رأس الدولة.

وفي القرية، يلاحظ السكان المحليون أن «منسوب بحيرة مورنوس انخفض بمقدار 40 متراً»، على ما يقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» يورغوس يوسيفيديس، وهو متقاعد يعيش على مرتفعات قرية كاليو القديمة.

وعلى غرار غالبية السكان، اضطر هذا الرجل الستيني إلى مغادرة منزله في نهاية سبعينات القرن العشرين أثناء بناء سد مورنوس.

وقد تمّت «التضحية» بما يقرب من 80 منزلاً في كاليو، فضلاً عن الكنيسة والمدرسة الابتدائية، لضمان إمدادات المياه في أثينا.

مواطن يعيش في منزل أعيد بناؤه حديثاً في كاليو يسير بجوار بحيرة مورنوس الاصطناعية (أ.ف.ب)

واليوم، أدى انخفاض مستوى البحيرة التي يغذيها نهرا مورنوس وإفينوس المجاوران، إلى عودة ظهور أنقاض المدرسة الابتدائية، وكذلك المنازل المهجورة التي غمرتها المياه تدريجياً.

ويوضح يوسيفيديس: «إذا قرّبت عدسة الكاميرا على البحيرة، فسوف ترى الطبقة الأرضية التي لا تزال صامدة من منزل والد زوجتي المكوّن من طبقتين (...) وبجانبه ترى ما تبقّى من منزل أبناء عمومتي».

وتفاقمت حدة الجفاف هذا العام في هذا البلد المتوسطي المعتاد على موجات الحر في الصيف.

وبعدما سجلت أكثر فصول الشتاء اعتدالاً على الإطلاق هذه السنة، شهدت اليونان درجات حرارة قياسية في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز)، وفق بيانات طقس أولية صادرة عن المرصد الوطني.

ظهور بقايا منزل مجدداً عندما انخفض مستوى بحيرة مورنوس الاصطناعية بعد الجفاف بالقرب من قرية ليدوريكي على بُعد حوالي 240 كيلومتراً شمال غربي أثينا (أ.ف.ب)

شح المياه

وهذه هي المرة الثانية التي تعود فيها مباني كاليو المغمورة إلى الظهور، بعد فترة جفاف في أوائل تسعينات القرن العشرين، وفق يوسيفيديس الذي يقول: «إذا لم تهطل الأمطار قريباً، فسوف ينخفض المستوى الحالي أكثر، وستكون المشكلة أخطر مما كانت عليه حينذاك».

ويتذكر أناستاسيس باباجورجيو، وهو طبيب يبلغ 26 عاماً يعيش في قرية أميغداليا المجاورة لمورنوس، أنه «في العامين الماضيين، هطلت كميات ضئيلة للغاية من الأمطار والثلوج على الجبال القريبة التي تغذي الأنهار».

ويؤكد أن «الوضع صعب، وعلينا أن نكون حذرين عند استخدام المياه».

وفي مواجهة خطر شح المياه، دعت السلطات اليونانية سكان أتيكا البالغ عددهم 3.7 مليون نسمة، وهي المنطقة المحيطة بأثينا والتي تضم ثلث سكان اليونان، لمراقبة استهلاكهم من المياه بعناية.

ولم تُفرض أي قيود، لكن الدعوات إلى ترشيد الاستهلاك تتردد يومياً في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.

ظهور بقايا منزل مرة أخرى عندما انخفض مستوى بحيرة مورنوس الاصطناعية بعد الجفاف (أ.ف.ب)

ومن رسائل التنبيه الموجهة للسكان، على سبيل المثال: «عندما لا تقومون بملء حوض الاستحمام بالمياه، فإنكم توفرون ما يصل إلى 150 لتراً من الماء»، أو «أغلقوا الصنبور عندما تنظّفون أسنانكم». ولتعزيز شبكة الإمداد، قررت هيئة «إيداب» أيضاً تفعيل مصادر مائية إضافية بالقرب من العاصمة.

ومن جانبه، يدعو رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى إدارة أفضل للمياه. وقال الاثنين خلال زيارة إلى منطقة ثيساليا (وسط) التي اجتاحتها الفيضانات عام 2023: «لا يمكننا تحمّل هدر المياه كما فعلنا حتى الآن». وأضاف: «في وقت نعلم يقيناً أنه سيكون لدينا كميات أقل من المياه، علينا حماية الموارد المائية بشكل أكثر منهجية مما فعلنا حتى الآن».

وشدّد ميتسوتاكيس على أن اليونان تستخدم 85 في المائة من مياهها للري، وتحتاج إلى بناء مزيد من السدود.