«بيت الشعر في المغرب» يمنح البرتغالي نونو جوديس جائزة «الأركانة» للشعر

عد من الأسماء المؤثرة في المشهد الشعري المعاصر ببلاده وفي الشعرية الإنسانية

نونو جوديس يتسلم الجائزة ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب ( تصوير: مصطفى حبيس)
نونو جوديس يتسلم الجائزة ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب ( تصوير: مصطفى حبيس)
TT

«بيت الشعر في المغرب» يمنح البرتغالي نونو جوديس جائزة «الأركانة» للشعر

نونو جوديس يتسلم الجائزة ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب ( تصوير: مصطفى حبيس)
نونو جوديس يتسلم الجائزة ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب ( تصوير: مصطفى حبيس)

في حفل امتزج فيه الشعر الجميل بالموسيقى الأصيلة وشهادات الاعتراف بقيمة المحتفى به، تسلم الشاعر البرتغالي نونو جوديس، بالدار البيضاء، مساء أول من أمس، في إطار فعاليات المعرض الدولي للكتاب والنشر، في دورته الحادية والعشرين، جائزة «الأركانة» العالمية للشعر، في دورتها التاسعة.
ورأى حسن نجمي، الأمين العام لـ«بيت الشعر في المغرب»، الذي قدم حفل تسليم الجائزة، أن جوديس «استطاع نحت نص شعري عميق»؛ كما اعتبره وريثا حقيقيا للتراث الشعري الحديث في البرتغال، ولشعرية لها تاريخ وقيمة.
وقال نجيب خداري، رئيس «بيت الشعر في المغرب»، إن جوديس «شاعر يفتن العالم بقصائد عميقة تختزل الوجود في كلمات قليلة ومضيئة»، وإنه «عرف كيف يلغي الحدود مع النثر من دون أن يفقد الشعر طراوته».
في حين حيا محمد أمين الصبيحي، وزير الثقافة المغربي، في الشاعر البرتغالي «طليعيته وعمقه واشتغاله المستمر على تطوير الكتابة الشعرية». وقد استعاد الشاعر البرتغالي طفولته على شاطئ البحر بالبرتغال؛ حيث كانت تتراءى في المدى أرض المغرب غارقة في غموضها، مما كون لديه انطباعا أسطوريا عن هذا البلد الذي سيقصده، وهو في سن السادسة والستين، ليتسلم جائزة توج بها قبله كل من الشاعر الفرنسي إيف بونفوا، والشاعر الصيني بي داو، والشاعر المغربي محمد السرغيني، والشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعر العراقي سعدي يوسف، والشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا، والشاعرة الأميركية مارلين هاكر، والشاعر والكاتب المغربي الطاهر بن جلون. وشدد الشاعر البرتغالي، في معرض كلمته، على أن «فنون التعبير الثقافي قد مكنت من تجاوز الماضي الصدامي»، الذي حكم علاقة المغرب ببلده، لذلك رأى في الجائزة «قيمة وجدانية تختصر عمق لقاء بين ثقافتين لم يحل البحر دون تواصلهما».
وتميز الحفل، الذي عرف، فضلا عن وجود خداري والصبيحي ونجمي، حضور سفيرة البرتغال لدى المغرب، ونخبة من الشعراء والكتاب، بينهم الشاعر العراقي سعدي يوسف، بقراءة جوديس لقصيدتين من شعره: «ميتافيزيقا» و«استعدادات السفر». كما تخللت الحفل فقرات موسيقية وغنائية من توقيع الفنانة سمير القادري.
وتعتبر جائزة «الأركانة»، البالغة قيمتها المالية 120 ألف درهم (نحو 15 ألف دولار)، التي يسلمها «بيت الشعر في المغرب»، كل سنة، بشراكة مع مؤسسة الرعاية لصندوق الإيداع والتدبير، وبتعاون مع وزارة الثقافة، والتي أحدثت عام 2002، واستوحت اسمها من شجرة «الأركان» الشهيرة، أول جائزة تقرها هيئة ثقافية مغربية مستقلة تعنى بالإبداع الشعري على المستوى العالمي. وهي «تهدف إلى إيجاد منفذ جديد للشعرية المغربية على شعريات العالم، والتعريف بها، على خلفية إسماع الصوت المغربي وجعله قريبا من إبدالات الشعرية المجددة».
وارتأت لجنة القراءة والاختيار، في دورة هذه السنة، التي ضمت الشاعر أحسن مكوار (رئيسا)، والناقد عبد الرحمن طنكول، والشعراء حسن نجمي، ونجيب خداري ورشيد المومني، وخالد الريسوني، منح الجائزة لجوديس، باعتباره «أحد الأسماء الشعرية الأكثر حضورا وتأثيرا في المشهد الشعري المعاصر في بلاده وفي الشعرية الإنسانية، وذلك من خلال تجربته الشعرية الطليعية التي عرفت انطلاقتها مع بداية احتضار الديكتاتورية السالازارية، وانبثاق لحظة جديدة في حياة البرتغال»؛ كما رأت فيه شاعرا «متعدد الأساليب والتيمات من دون أن يتنازل عن الاشتغال على مستوى أشكال وتقنيات الكتابة الشعرية، بأنساقها الإيقاعية الممتدة من الأغنية أو السوناتة، في تعايش مع السيلفات والكتل الشعرية أو قصيدة النثر التي تصل معها شعرية جوديس إلى مستويات من القلق الإبداعي بالغة العمق والشفافية والإدهاش». ولاحظت اللجنة أن «التبصر والعمق في تأمل الأشياء» لدى الشاعر البرتغالي الذي ربط علاقات متينة مع عدد من الشعراء المغاربة خلال زياراته المتواترة للمغرب، وأقام صداقة شعرية وإنسانية مع «بيت الشعر في المغرب» منذ تأسيسه، جعلاه «يستقصي الجذور الخفية للقول الشعري في مسارات بحث لا ينقطع عن الجوهر اللغوي للإبداع الشعري».
وسبق لجوديس، الذي ولد سنة 1949، بإقليم ألغريي بالبرتغال، أن نال عدة جوائز، اعترافا بجهوده في بلورة وتطوير شعرية تؤسس لمعرفة قلقة بأسرار الوجود من خلال القصيدة، فنال «جائزة بابلو نيرودا» سنة 1975، و«جائزة الشعر» لنادي القلم سنة 1985، عن ديوانه «قيثار الأشنة». وفي 1990 أحرز «جائزة د. دنيس» لمؤسسة «كازا دي ماثيوس»، عن ديوانه «قواعد المنظورات». وفي 1995 نال ديوانه «تأمل في الخرائب» جائزتين: «جائزة الشعر» للجمعية البرتغالية للكتاب و«جائزة إيسي كايروس» التي تمنحها بلدية لشبونة. كما نال، عن مجموع أعماله، «جائزة النقد» في 2001، وهي الجائزة التي يمنحها المركز البرتغالي للجمعية الدولية لنقاد الأدب.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟