أحزاب من دون قواعد شعبية.. ورئيس شعبي بلا حزب

في تحقيق تنشره في الشقيقة {المجلة}.. محاولات حثيثة لملء الفراغ السياسي في مصر قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة

الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي
الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي
TT

أحزاب من دون قواعد شعبية.. ورئيس شعبي بلا حزب

الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي
الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي

المحاولات الحثيثة التي يقوم بها كثير من القوى السياسية المصرية لملء الفراغ وتشكيل تكتلات لخوض انتخابات مجلس النواب خلال الأسابيع المقبلة، كشفت عن وضع شائك في هذه الدولة التي عرفت العمل السياسي والبرلماني منذ أكثر من قرن من الزمان.. يتلخص هذا الحال اليوم في أنه أصبحت توجد أحزاب، لكنها من دون قواعد شعبية تذكر. وفي المقابل، هناك رئيس شعبي، هو الرئيس عبد الفتاح السيسي، لكنه بلا حزب سياسي.
ويوضح تحقيق نشرته الشقيقة {المجلة} الدستور المصري الجديد، الذي وافق عليه الشعب العام الماضي، يحظر انخراط رئيس الدولة في الأحزاب أو رئاسة أي حزب منها طالما كان في موقعه في القصر الجمهوري. وأكد السيسي نفسه هذا الأمر حين التقى رؤساء الأحزاب الشهر الماضي، وطلب منهم التوقف عن الخلافات التي ظهرت على خلفية الإعداد للتكتلات الحزبية التي ستتنافس على مقاعد البرلمان، ودعاها إلى تشكيل تكتل واحد لخوض الانتخابات، إلا أن التضارب في المصالح بين السياسيين عرقل مرة أخرى إيجاد قوة واضحة المعالم يمكن التعويل عليها في مجلس النواب المقبل.

منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أصبح يوجد في مصر نحو 90 حزبا، شارك معظمها، مع غالبية الشعب، في الثورة ضد حكم جماعة الإخوان في 30 يونيو (حزيران) 2013. لكن لم يتمكن إلا عدد قليل منها أن يثبت هذه الأيام على تكتل بعينه من أجل خوض الانتخابات المقبلة التي تعد أول انتخابات نيابية في عهد الرئيس السيسي، وهي الخطوة الثالثة والأخيرة في خطوات خارطة الطريق التي وافق عليها الشعب عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.
ومن أبرز الأسماء التي حاولت جمع السياسيين في تكتل واحد وكان من أكثرها تداولا، اسم رئيس وزراء مصر الأسبق، الدكتور كمال الجنزوري، ثم حل محله اسم الضابط السابق في المخابرات المصرية، سامح سيف اليزل، على رأس تحالف «في حب مصر». وهناك أيضا تكتلات أخرى يظهر منها «ائتلاف الجبهة المصرية» الذي يدعمه من الخارج المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق. وكذا التحالف الذي يقوده السياسي المعروف عبد الجليل مصطفى تحت اسم «تحالف صحوة مصر» الذي يضم 6 أحزاب، هي: «الكرامة»، و«مصر الحرية»، و«التحالف الاشتراكي»، و«الدستور»، و«العدل»، و«التيار الشعبي (تحت التأسيس)».
ووصل إلى القاهرة قادما من عدة محافظات عشرات من المرشحين المحتملين لإعداد أوراقهم، بينما كانت الاجتماعات منعقدة في مقار عدة أحزاب، منها حزب الوفد الذي حسم أمره وقرر الترشح على الفردي وعلى القوائم أيضا، لكن من خلال تحالف «في حب مصر». وعقب اجتماع آخر، قال مجدي شرابية، الأمين العام لحزب التجمع: «سنشارك في الانتخابات، رغم أن رؤية القوائم لم تتضح بعد».
وحيث إن الوقت أزف، فإن القوائم كلها ستكون قد أعلنت خلال ساعات. ويضيف شرابية أن غالبية قائمة الجنزوري (السابقة) موجودة في قائمة «في حب مصر» التي يتحدث باسمها حاليا سيف اليزل. وأمضى سيف اليزل ساعات طويلة على مدى أسابيع لإقناع الأحزاب بالانضمام لقائمته.
ويقول محمد سامي، رئيس حزب الكرامة، عن نظرته للتكتلات الكثيرة التي ظلت على مدى أسابيع تراوح مكانها دون أن تحسم أمرها: «أعتقد أن مصر في مرحلة سيولة بعد فترة طويلة من التجريف للقوى السياسية والأحزاب في العقود الماضية». ويتابع قائلا: «وبالتالي أنت أمام اجتهادات (قد تصيب)، وذلك في شكل أحزاب جديدة تعبر عن رؤية جديدة، (أو تخيب) في شكل أحزاب وهمية أو كرتونية يمكن أن تخرج من معادلة الحضور الحزبي في الانتخابات المقبلة».
ويضيف أن هذه المعادلة موجودة وتحمل الاحتمالين: إما النجاح، أو الفشل، «لأن الحالة الحزبية بمصر لم تتماسك بعد، ولم تتشكل بعد.. الساحة السياسية فيها ما يقرب من 90 حزبا مرخصا له بالعمل رسميا (إضافة لأحزاب ما زالت تحت التأسيس)، والفترة المقبلة ستكون مرحلة تصفية من جانب، واندماج بين أحزاب من جانب آخر».
ومطلوب من كل تكتل أو تحالف حزبي، أن يعد قائمة تضم 120 مرشحا، من بينهم مرشحون من الشخصيات العامة وممثلون للأقباط والمصريين بالخارج والمعاقين والمرأة، بالإضافة إلى 420 مرشحا بنظام الانتخاب الفردي. ويقول سامي: «لا مجال للدخول إلا على القوائم بأكملها، وليس بنصف قائمة أو ربع قائمة.. نحن نخوض الانتخابات على النظامين؛ أي بالقوائم وبالفردي أيضا».
ويبدو أن الأحزاب لا تتفق إلا على شيء واحد هو الالتفاف حول رئيس الدولة بسبب شعبيته الكبيرة، مقارنة بعشرات الأحزاب التي لا يعرفها أحد، بمن في ذلك عائلات مَنْ لقوا حتفهم خلال أحداث ثورتي يناير ويونيو، مثل السيدة فاطمة التي تدير محلا صغيرا لبيع الخضراوات والدجاج في شارع العروبة، خلف برج القانونيين قرب كورنيش المعادي بجنوب القاهرة.
تعلق هذه المرأة صورة كبيرة لابنها الشاب الذي قتل في اضطرابات سياسية شهدها ميدان التحرير قبل 3 سنوات. وتقول السيدة فاطمة، وهي تقف في واجهة المحل، حيث تبدو صورة الرئيس السيسي معلقة على الباب، إنها لا تستطيع أن تتذكر أسماء أكثر من 3 أو 4 أحزاب مثل حزب الوفد، ربما بسبب كونه حزبا عريقا يعود اسمه إلى النصف الأول من القرن الماضي.
ولا تشغل فاطمة بالها بموضوع الانتخابات النيابية المقبلة وهي تثق في رئيس الدولة فقط. وترى أن الرئيس لن يسمح بوجود برلمان يمكن أن يعمل ضد رغبة الشعب أو العودة للسياسات التي ثار عليها في يناير ويونيه. وتعكس حالة فاطمة المقولة التي أصبحت شائعة في البلاد هذه الأيام وهي أن الرئيس السيسي له شعبية، لكن ليس له حزب، بينما الأحزاب موجودة، لكن ليس لها شعبية.

* التجربة الحزبية حديثة العهد
* ويعود رئيس حزب الكرامة ليعلق على هذه الواقعة قائلا: «هذا صحيح، لأن التجربة الحزبية في مصر حديثة العهد، ولا يمكن أن يكون هناك حزب شعبي أو غير شعبي إلا برصيد يتوالى على مدى الأداء في السنين المقبلة.. غالبية هذا النوع من الأحزاب، كلها تقريبا حصلت على تراخيص من لجنة شؤون الأحزاب خلال السنوات الـ3 الأخيرة، أي بعد ثورة 25 يناير.. وبالتالي لم يتح لها الفرصة لأن تكون أحزابا شعبية بالمعنى الكامل، مع وجود بعض الاستثناءات بطبيعة الحال (تخص عددا من الأحزاب القديمة)».
ويضف محمد سامي: «نحن نزعم أن حزب الكرامة لديه قوام حزبي منتشر على مستوى الجمهورية، وإلا ما كنا قد أكملنا الشرط الخاص بترشيحنا لحمدين صباحي لرئاسة الجمهورية، حيث كان الترشح يتطلب جمع 30 ألف توقيع من الناخبين».
وخاض صباحي، وهو من مؤسسي حزب الكرامة ذي التوجه القومي، تجربة الانتخابات الرئاسية مرتين.. المرة الأولى في 2012 وكان ضمن 12 مرشحا من بينهم محمد مرسي وأحمد شفيق، وحصل صباحي فيها على 4.8 مليون صوت بنسبة نحو 20.7 في المائة. والمرة الثانية كانت في 2014 وكان المنافس الوحيد أمام السيسي، وحصل صباحي فيها على أقل من مليون صوت بنسبة 3.9 في المائة.
وعما إذا كان تكتل «تحالف صحوة مصر» سيعتمد على ما تركه صباحي من رصيد شعبي في الانتخابات الرئاسية، يقول رئيس حزب الكرامة: «نحن، مع تقديرنا الكامل لحمدين صباحي، نسعى لأن تكون هناك مؤسسة حزبية لها تقاليدها ولها برنامجها ولها وجودها على مستوى المحافظات بدرجة متوازنة.. المرحلة التي بدأت بمؤسسها الأول، حمدين صباحي، ينبغي أن تتجاوز هذا الأمر، وتكون تعبيرا عن مؤسسة وليست تعبيرا عن فرد».
ويقول السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، إن الأحزاب أصيبت بالتجريف طول الـ30 سنة الماضية.. وكانت ممنوعة من العمل، وكانت تحارب، لكن شعبية الرئيس السيسي جاءت في ظروف استثنائية.
وعن معالجة ضعف الأحزاب، يوضح أن هذا يأتي من خلال البرامج السياسية وزيادة التوعية في الشارع والدعاية.. وأن يكون هناك تماس مع الجماهير أكثر من السابق. ومن جانبه، يقول ياسر حسان، عضو الهيئة العليا لحزب الوفد: «مفروض أن شعبية الرئيس لا تتدخل في البرلمان، لأننا نحن أمام انتخابات برلمانية لا رئاسية.. ولو استغل الرئيس هذه الشعبية لصالح تيار معين، فهذا سيكون سابقة غير جيدة.. وستترك أثرا غير طيب».
ويشير حسان إلى أن شعبية الرئيس جاءت في ظروف معينة.. «السيسي في 30 يونيو 2013 ارتبط برغبة الشعب في إيجاد نظام جديد بعد أن مل المصريون من حكم جماعة الإخوان».
ويجري التحضير للانتخابات النيابية المقبلة على قدم وساق. وقدم المجلس القومي للمرأة مائتي اسم لقيادات نسائية من محافظات مختلفة لكي تختار الأحزاب مرشحات من بينهن. ومن هذه الأسماء ورد اسم الدكتورة درية شرف الدين، وزيرة الإعلام السابقة، التي قالت إن «ورود اسمي في قوائم المجلس القومي للمرأة لا يعني أنه جرى إدراجنا في قوائم الأحزاب الانتخابية بعد».
وأجابت موضحة عن ضعف شعبية الأحزاب، بقولها إن هذا «قد يكون لأنها غير موجودة في الشارع بشكل جدي.. أفرادها لا يقدمون أنفسهم للناس بشكل فيه الجدية المطلوبة.. كما أن الأمر يرتبط بتفاعل، ولا أقول بتقديم خدمات، بين المواطن والأحزاب».
وأعربت الدكتور شرف الدين عن اعتقادها في أن «كثرة عدد الأحزاب جعلت المواطن غير قادر على تحديد هذا من ذاك. لا يمكن خلال أقل من 4 سنوات أن يكون لديك نحو 85 حزبا سياسيا. هذا كثير، وكنا نأمل أن يتقلص العدد إلى 4 أو 5 أحزاب. وإذا كانت مصر تتطلع بالفعل لحياة حزبية جيدة، فأعتقد أنها لن تحتمل أكثر من 5 أو 6 أحزاب».
وعما إذا كان ضعف الأحزاب وعدم وجود تفاعل بينها وبين الشارع، يمكن أن يؤثر بالسلب على البرلمان المقبل، قالت الدكتورة درية شرف الدين، إن هذا مؤكد، خصوصا أن البرلمان له سلطة كبيرة في التشريعات.
ومن خلال المناقشات مع المواطنين العاديين، يقول سائق سيارة الأجرة، ويدعى جمال (في العقد الخامس)، ويعمل موظفا بإحدى المصالح الحكومية في أول النهار، إن الأحزاب أصبح عددها أكبر من قدرته على تذكرها أو إحصائها. وهو يرى أن الأحزاب وحدها لا تستطيع أن تتحالف للتأسيس لبرلمان يستطيع أن يعضد الرئيس ولا يعانده في القرارات التي يريد أن يتخذها. ويتخوف هذا السائق من أن يتسبب الإنفاق المالي للمرشحين في عودة النواب الذين كرههم الشعب في السنوات الماضية، و«كانوا السبب في المشكلات التي حدثت سواء أيام الرئيس مبارك أو بعده».

* تيار الإسلام السياسي
* ومن محافظة الإسكندرية في شمال غربي البلاد يقول ياسر فراويلة، وهو شخصية قريبة مما يعرف بـ«تيار الإسلام السياسي،» وكان يعتزم الترشح في انتخابات الرئاسة عام 2012، إن المطلوب من البرلمان المقبل القيام بعدة خطوات عاجلة. أولا إنهاء حالة الفوضى الحكومية.. «بمعنى ترتيب البيت من الداخل والانتهاء من ملف العمليات الأمنية وأجور العاملين في الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء التهديد الخارجي، سواء ما يتعلق بالأمن المائي أو الاقتصادي أو السياسي».
ويضيف فراويلة أنه يتمنى من البرلمان المقبل أن يتمكن من تحديد هدف للوطن «لأننا أمة تسعى بلا هدف يجمعنا.. نريد أن نتمكن من تحديد مصالحنا وتحديد من هم أعداؤنا، وكذلك من ينبغي أن نعتمد عليهم. لدينا أولويات في الملف الأمني والعسكري والحدود والاقتصاد والزراعة والصناعة».
لكن يبدو أن مثل هذه الطموحات سابقة لأوانها، لأن فراويلة نفسه يتخوف من التربيطات الحالية بين المرشحين في دائرته بالإسكندرية، ثاني أكبر المحافظات المصرية من حيث عدد السكان، ولا يرى في التحالفات الحزبية القائمة قدرة على حسم الموقف في الانتخابات النيابية المقبلة بالطريقة التي يأملها المواطن المصري البسيط بعد أن انتظر انفراج الأوضاع عقب سنوات الاضطرابات منذ الإطاحة بمبارك.
وعن هذه المفارقة يقول المحامي محمود عبد الله، عضو لجنة الحريات في حزب التجمع اليساري، إن «الناس بالفعل تتطلع إلى حياة أفضل، لكنها لا ترى كيانا سياسيا تستشعر معه أن هذا الحزب أو ذلك يعرف الطريق إلى المستقبل، إلا فيما ندر. لا تجد في الوقت الحالي، غالبا، قوى سياسية منظمة أو واضحة أو موجودة في جسم المجتمع وقادرة على التعبير عن طموحاته وآماله.. الشعب كان محاصرا لفترة طويلة من تاريخه.. والأحزاب والقوى السياسية هي الأخرى كانت مهمشة طوال العقود الماضية».
والمحامي عبد الله، صاحب شهرة في الأوساط السياسية والقانونية المصرية، لأنه صاحب الدعوى القضائية التي صدر بناء عليها حكم بحظر جماعة الإخوان والتعامل معها كجماعة إرهابية، العام الماضي. ويضيف وهو يشرح السبب في تفوق شعبية السيسي على شعبية الأحزاب، أنه «في آخر عهد مبارك كانت تشغلنا قضية الإجابة عن سؤال محدد وهو الفجوة بين الجماهير والقوى السياسية.. كانت بالطبع توجد فجوة واسعة، لكن للأسف الشديد، رغم قدرة هذه الأحزاب على استشراف المستقبل، فإنها كانت قد تعرضت للحصار منذ وقت مبكر».
ويتابع قائلا إنه «للأسف أيضا، ورغم ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، فإن هذه القوى السياسية والحزبية لم تكن منظمة بالقدر الذي يعبئ الجماهير الغاضبة في اتجاه طريقها وفي اتجاه أن تبني مستقبلها. وبعد سقوط نظام مبارك قفز على حركة الجماهير وأحلامها جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الكيانات الدينية التي ارتدت ثوب السياسة».
في ذلك الوقت؛ أي بعد مبارك، استشعرت قطاعات من الجماهير أن الفصيل الذي يرفع الشعارات الدينية هو الذي يستطيع أن يحقق أحلامها. ويضيف: «رأينا كلنا في انتخابات برلمان 2012 كيف تكتل الناس أمام صناديق الاقتراع. وكان الناخبون يقولون عن مرشحي التيار الإسلامي: إنهم الأقرب إلى الله، وإنهم سيحققون العدل ويعملون على الاهتمام بالفقراء ويمنحون الشعب الحرية ويحققون مطلب العيش بكرامة. لكن للأسف، وبعد مرور سنة، تبين للجماهير أن هذا الفصيل رغم قدرته وتنظيمه فإنه غير قادر على إدارة الدولة ولا تشغيل الاقتصاد».
وفي ذلك الوقت أيضا، ظهرت قوة صلبة أخرى ممثلة في القوات المسلحة المصرية، التي كان على رأسها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. ويزيد عبد الله موضحا: «عندها كانت غالبية المصريين قد أدركت أن القوات المسلحة هي القوة التي تستطيع أن تحميها وأن تحقق أمانيها. وقتها كان الشعب قد فقد الثقة في كل الكيانات السياسية الأخرى، فتدافع في الشوارع والميادين وأيد عزل مرسي والإطاحة بحكم الإخوان، واختار هذا الشعب السيسي رئيسا للجمهورية ووافق على الدستور الجديد».
أما الآن، كما يقول المحامي عبد الله، فإن غالبية القوى السياسية تتخبط، فيما عدا بعض الأحزاب التي تبدو متماسكة، إلا أن لديها مشكلات مالية وغير قادرة على تمويل مرشحيها في الانتخابات النيابية المقبلة، مشيرا إلى أن الجماهير تراقب الآن القوى السياسية، لكنها لم تر بعد أي فصيل سياسي أو حزب، يوحي لها بقدرته على التعبير عنها أو تحقيق طموحاتها. ولهذا ترى كل يوم تكتلات انتخابية تنشأ وتكتلات تحل.. ومرشحون يذهبون لأحزاب ثم يتركونها ويتجهون لأحزاب أخرى، وهكذا.

* شعبية الرئيس
* وعن الطريقة التي يمكن للرئيس السيسي أن يستفيد بها من شعبيته قبيل انتخابات البرلمان، يقول محمود عبد الله: «الرئيس ينبغي أن يتعلم من حركة التاريخ.. لديه شعبية؟ نعم، لكن إذا لم يتزامن مع هذه الشعبية تنفيذ برنامج اجتماعي يلبي متطلبات الشعب، فرأيي هو أن المصير سيكون تراجع هذه الشعبية والفشل الذي لا يريده أحد».
ويضيف أن الرئيس يدرك هذا الأمر جيدا، وهو سبق وقال: «إن الجماهير لها مطالب لا بد من تحقيقها.. وللأسف الحكومة الحالية تتصرف تصرفات مناقضة لرغبة الرئيس.. إذا لم تكن هناك حكومة قادرة على تلبية مطالب الشعب، فإن هذا سيؤثر بالسلب على السيسي».
ويضيف أن الشعبية الكبيرة التي يحظى بها رئيس الدولة ليست «صكا على بياض»، لأن الشعب اختاره من أجل تحقيق الأمن والأمان والاستقرار وانتعاش الاقتصاد، بعد المعاناة التي مر بها خلال السنوات الأخيرة. الجماهير اختارت السيسي لأنه وقف معها بجرأة وهو يواجه الإخوان حين كان وزيرا للدفاع. وفي الوقت نفسه، هو ينتمي لمؤسسة عريقة، هي الجيش، وهي مؤسسة ذات ماض ضارب في قلب التاريخ المصري وتستطيع أن تحمي هذا الشعب.
لكن كيف يمكن للسيسي أن يستفيد من شعبيته؟.. هل يمكن أن يؤسس لكيان سياسي بشكل غير مباشر، حتى لا يكون قد عارض الدستور برئاسته لأحد الأحزاب؟ يجيب المحامي عبد الله محذرا من تكرار تجارب الرؤساء السابقين في تبني الكيانات السياسية أو الأحزاب.
وكان رؤساء مصر القادمون من خلفية عسكرية، منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، يترأسون الأذرع المدنية للكيانات التي يعتمدون عليها في الحكم، وفي المجلس التشريعي. ومعروف أن تجربة مصر تقول إن الرئيس عبد الناصر ترأس تنظيما سياسيا وكان له الأغلبية، وعندما توفي انتقل غالبية أعضاء تنظيمه السياسي لتدشين تنظيم جديد مع الرئيس السادات رغم أن هؤلاء كانوا يقفون مع القوانين الاشتراكية لعبد الناصر ثم وقفوا مع قوانين الانفتاح الاقتصادي أيام السادات.

* الوطني الديمقراطي
* وكان آخر هذه الكيانات المدنية «الحزب الوطني الديمقراطي» الذي ترأسه مبارك، وشغل نجله جمال موقع الأمين العام المساعد للحزب لشؤون السياسات. لكن الدستور الجديد، حظر على رئيس الدولة في مادته رقم «140» الانخراط في أي من العمل الحزبي، وقال إنه «لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يشغل أي منصب حزبي طوال مدة الرئاسة».
ويضيف عضو لجنة الحريات في حزب التجمع، أن مبارك ترأس الحزب الوطني وتصور أنه حزب الأغلبية الفعلي، إلا أن هذا الحزب اختفى في طرفة عين حين غضبت الجماهير وخرجت وقالت له ارحل.. وكذلك تخيل الإخوان أنهم قادرون على إقصاء جميع القوى الأخرى، وأن الدنيا دانت لهم، وفي لحظة خرج هذا الشعب وطردهم شر طردة بجماعتهم وحزبهم، و«لذلك ينبغي أن يكون السيسي رئيسا لكل المصريين أي أن يكون فوق الأحزاب».
وعن الأولويات التشريعية في البرلمان المقبل، يتوقع محمود نفادي، المتحدث باسم «تحالف نواب الشعب»، أن يجري تعديل الدستور، وقال إنه «أمر وارد، لكن ليس في العام الأول للبرلمان. سيكون بعد فترة.. وسيكون في فترة الولاية الأولى للسيسي».
ويضيف عن شكل هذه التعديلات المتوقعة، أنه «سيتم التعديل في مواد كثيرة، خصوصا تلك التي توصف بأنها مواد ملغمة، مثل صلاحيات البرلمان.. وسيتم وضع ضوابط أكثر لمنع ظهور الأحزاب الدينية لأن الدستور الحالي لم يمنعها بشكل حاسم. سيتم التعديل في كثير من المواد وفقا لمتطلبات المرحلة المقبلة».
ومن بين التعديلات الدستورية المرجحة التي سيتكفل بها البرلمان، كما يتوقع عدد من السياسيين، إلغاء النص الدستوري الذي يمنع انتقال النائب من صفة حزبية أو مستقلة إلى أخرى، وذلك حتى يمكن تحقيق الأمل الذي يراود البعض في جمع مئات من النواب الذين سيفوزون في الانتخابات، في حزب واحد كبير يدعم مؤسسة الرئاسة.
ويقول نفادي: «ربما سيكون من ضمن التعديلات التي ستتم في الدستور النص الخاص بانتقال النائب بين صفته المستقلة وصفته الحزبية، وهذا النص قد يكون من النصوص السريعة في التعديل، لأن النواب المستقلين لن يستطيعوا تشكيل حزب من داخل البرلمان في وجود هذا النص. وحين يتم إسقاط هذا النص سيظهر الحزب الجديد الذي ربما سيكون هو حزب السلطة لسنوات مقبلة».
ويرى نفادي أن العائلات المصرية التي تمثل العمود الفقري للانتخابات النيابية ما زالت تدعم السيسي وتوجهاته، منذ أن نزلت هذه العائلات للشارع في 30 يونيو ضد الإخوان، ومنذ أن نزلت لانتخابه للرئاسة وفي الاستفتاء على الدستور. ويتوقع أيضا أن تتلاشى عشرات الأحزاب بعد الانتخابات النيابية المقبلة. ويقول: «كل الأحزاب التي تراها الآن على الساحة ستذوب وتنتهي وتتبخر. وكل حزب لن يكون له موضع قدم في البرلمان المقبل سيكون كأنه كتب شهادة وفاته.. ومن لن يدخل في الحزب المزمع سينضم للحزب المعارض لكي تدخل مصر في مرحلة الحزبين الكبيرين».
ومن جانبه، يقول كامل عبد الله، الباحث في مركز «الأهرام» للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن غالبية الأحزاب الموجودة في مصر ليست أحزابا في الأساس.. أي حزب يفترض أن يعمل مع القواعد الشعبية من أجل السعي للوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكن في الحالة المصرية يبدو أن أكثر الأحزاب تقتصر على محاولات لإرضاء أصحاب المصالح وتحقيق المكاسب الوقتية دون الأخذ في الاعتبار الجانب المؤسسي والسياسي الذي يعتمد على الجماهير.
ويضيف أن هذا الأمر للأسف «غير موجود»، مشيرا إلى أن الوحيد الذي كان يقدم نفسه للجماهير كحزب هم الجماعات الدينية المتشددة التي انخدع فيها الشعب بعد تجربة سنة في البرلمان وحكم الدولة أيام مرسي.
ويصف الباحث في مركز «الأهرام» الوضع على الساحة السياسية، قبل أسابيع من فتح باب الترشح لانتخابات البرلمان، بأنه يوجد فيه ارتباك كبير.. «ارتباك في التحالفات الانتخابية. لم نلاحظ أي استقرار على أي تحالف حتى الآن، رغم أنه جرى الإعلان عن تحالفات بالفعل، إلا أن معظمها عاد وتفكك من جديد ليأخذ أشكالا أخرى من التحالفات المغايرة المرشحة للانقسام مجددا».
حتى الآن الأحزاب غير قادرة على الاصطفاف في خندق واحد، وذلك رغم دعوة الرئيس السيسي لزعماء الأحزاب أخيرا بأن يتحدوا بعضهم مع بعضا، لكن الخلافات الكبيرة بينهم يبدو أنها تمنع وتحول دون تحقيق رغبة الرئيس، كما يوضح الباحث عبد الله، قائلا إنه «طالما ظلت التكتلات الانتخابية غير قادرة على توحيد نفسها، فإن أداءها بعد أن تفوز وتدخل البرلمان لن يكون موحدا. كل منها له نظرة بشأن النموذج الاقتصادي الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة مستقبلا.. لدينا اشتراكيون وليبراليون، وهم منقسمون على أنفسهم ويبدو أنهم لن يكونوا قادرين على خلق نموذج مصري لهذه المرحلة الهامة في تاريخ البلاد». ويلاحظ الباحث عبد الله، أن «الشيء الوحيد الذي تتفق عليه كل هذه الأحزاب هو تأييد الرئيس السيسي، لكن ما يقومون به الآن هو مجرد صراع على من يكون الأقرب من الرئيس وليس الداعم للرئيس، بينما لو كان الهدف هو دعم الرئيس لرأينا وجود تحالفات حقيقية. لكن ما هو موجود على الساحة اليوم تحالفات هشة.. كل يوم نسمع عن أن هذا الحزب خرج من تحالف الجنزوري وذهب لتحالف الوفد المصري أو تحالف الاستقلال أو في حب مصر، وهكذا».
وفي الدلتا والصعيد أيضا هناك أحزاب تتصارع كذلك على الشخصيات العامة.. وقامت أحزاب أخرى بعقد مؤتمرات أعلنت فيها عن تحالفات سياسية للانتخابات، وأعلن البعض أنه قرر الانضمام إليها، إلا أن هؤلاء انضموا إلى قوائم مزمعة مختلفة حين جاءتهم تكتلات مغايرة بتحالفات جديدة، فأعلنوا أنهم سيقفون معها. ولم يستقر معظم المرشحين على قوائم بعينها بعد. ويقول عبد الله: «حتى الجنزوري يواجه هذه المشكلة. هو يريد أن يستقطب شخصيات معينة وهي الشخصيات نفسها التي تتصارع عليها تكتلات أخرى».
والمشكلة كما يراها عبد الله هي أن معادلة، أن «الرئيس الذي لديه شعبية والأحزاب التي ليست لها تلك الشعبية، يمكن أن ينتج عنها برلمان ضعيف، ولهذا أعتقد أن البرلمان إذا لم يعضد الرئيس فإنه سيكون برلمانا غير شعبي»، مشيرا إلى أن الناس تدرك أن مجموعة الأحزاب هذه ليست على ذلك المستوى، وبالتالي أعين الناس معلقة على رئيس الدولة لكي يواصل إدارة الدفة وحماية السفينة من أي فوضى.. «إما أن يكون مجلس النواب شريكا للرئيس ومعاونا له، وإما أن الجماهير ستلفظ هذا المجلس بنوابه».



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.