الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

تحويلات مالية من كل أنحاء العالم يصعب تعقبها.. و«بوكو حرام» تبدأ في استثمار عمليات العنف

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب
TT

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

أقر مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي تدابير استهدفت مصادر تمويل «داعش» و«جبهة النصرة»، محاولا بذلك قطع الشريان الحيوي الذي يغذي نشاط المنظمات الإرهابي، بما أن بقاء أي منظمة إرهابية كـ«داعش» أو «القاعدة» من بين غيرها، هو رهن بهياكل مالية فاعلة.
فقد أوردت صحيفة «يو إس إي توداي» (USA Today) إدانة 6 أشخاص من أصل بوسني من منطقة سانت لويس بتهمة تحويل الأموال إلى مقاتلي «داعش» في الشرق الأوسط مستخدمين خدمة «ويسترن يونيون» «وباي بال» لإرسال الأموال وأيضا البريد الأميركي لإرسال العتاد العسكري إلى «داعش»، من خلال وسطاء في تركيا والبوسنة والسعودية، وفق الصحيفة.

في سياق مماثل ذكرت وكالة الأنباء الآشورية في أوائل شهر فبراير (شباط) أن «داعش» افتتح سوقا خاصة لبيع الممتلكات التي نهبها من المنازل والكنائس الآشورية في الموصل.
وأطلق على السوق تسمية «غنائم النصارى» حيث جرى بيع أجهزة التلفزيون والثلاجات وأفران الميكروويف والأجهزة الإلكترونية الأخرى، وكذلك الأثاث والأعمال الفنية، وتراوحت الأسعار ما بين 50 ألفا إلى 75 ألف دينار عراقي.
وفي الفترة نفسها تقريبا كتبت الصحيفة الإسبانية « «El Paisأن إسبانيا باتت مركزا رئيسيا لتمويل الإرهابيين الجهاديين في سوريا والعراق «من خلال شبكة واسعة تتألف من 250 مركزا للاتصالات الهاتفية ومحلات الجزارة ومحلات البقالة، حيث يتم تحويل الأموال عبر قنوات غير رسمية يصعب تعقبها، وفقا لوكالات الاستخبارات الإسبانية». وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الشبكة تلجأ إلى ما يسمى نظام «الحوالة»، الذي يحدده الإنتربول بأنه عميلة نقل الأموال من دون تحريك للأموال، بهدف تمويل جماعات إرهابية مثل «داعش» و«النصرة».
من ناحية أخرى، اتهم موقع « «Tracking Terrorismجماعة بوكو حرام الإرهابية في نيجريا بالتواطؤ مع عصابات الجريمة المنظمة لتهريب المخدرات والخطف والسطو على المصارف وعمليات الاحتيال الإلكترونية، فضلا عن عمليات السرقة. ووفقا لمركز مكافحة الإرهاب «Combating terrorism center»، باتت عمليات الخطف أحد مصادر التمويل الرئيسية للمجموعة، وآخرها اختطاف 276 طالبة من مدرسة في نيجيريا في أبريل (نيسان) 2014.
الواضح أن تمويل الإرهاب شهد تطورا لافتا مع مرور الوقت، بحيث نجد بعض المنظمات الإرهابية اليوم تسعى إلى أن تستقل عن الجهات المانحة. وقد يكون تنظيم القاعدة خير مثال على هذا التطور، فبحسب دراسة لمؤسسة «راند» للأبحاث من عام 2004، اعتمد تنظيم القاعدة في البداية على مؤسسه أسامة بن لادن الذي استعمل ثروته الخاصة وتبرعات من أفراد أثرياء، وبعد أن أصبح الحصول على هذه التبرعات أكثر خطورة خلال التسعينات، زادت أهمية الشركات والجمعيات الخيرية التي استعملت كواجهة للتغطية. لاحقا، حين بدأ العديد من الدول والمؤسسات المالية بمطاردة الحسابات التي اشتبه بتمويلها الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. باتت تجارة السلع والتهريب وتجارة المخدرات مصادر رئيسية لإنعاش البنية التحتية المالية لتنظيم القاعدة.
يشير كولين كلارك الباحث من مؤسسة «راند» في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» إلى أن «مصادر تمويل تنظيم القاعدة متعددة، بدءا من الهبات التي يتلقاها من منظمات خيرية، وصولا إلى الخطف والمطالبة بالفدية وتهريب المخدرات والسرقات من بين غيرها من الانتهاكات».
وقد تطورت الأساليب التي يعتمدها التنظيم لجمع الأموال مع الوقت، بدءا من الحرب السوفياتية الأفغانية التي امتدت من عام 1979 إلى 1989، ومن ثم اضطراره إلى التأقلم مع كل صراع لاحق شارك فيه، كالبوسنة والشيشان وطاجيكستان.. إلخ، بحسب كلارك.
طال هذا التطور مجموعات إرهابية أخرى، مثل جماعة بوكو حرام؛ فقد نشرت صحيفة «International Business time} أنه عندما تأسست بوكو حرام حصلت على القسم الأكبر من أموالها من جماعات محلية قريبة منها شاركتها وقتها، هدفها الأساسي هو فرض الشريعة الإسلامية والتخلص من الهيمنة الغربية في نيجيريا، إلا أنه مع مرور الوقت وجدت المنظمة مصادر دخل أخرى؛ ففي شهر أبريل (نيسان) 2013 حصلت المنظمة على ما يوازي 3.15 مليون دولار أميركي من مفاوضين فرنسيين وكمبوديين عقب تحرير 7 رهائن فرنسيين كانوا قد اختطفوا في الكاميرون.
إلا أن «داعش» يتميز عن غيره في إدارة إرهابه.. «فعلى نقيض التنظيمات الأخرى التي تعتمد على الدعم الذي تتلقاه من دولة أو كيان خارجي، لجأ التنظيم إلى تمويل عملياته بارتكاب جرائم مختلفة، بدءا من الاستيلاء على النفط والسطو على المصارف وصولا إلى الابتزاز»، وفق كلارك؛ فالتنظيم «ورث» عشرات ملايين الدولارات جراء النشاطات الإرهابية التي ارتكبها حين كان لا يزال يعرف بـ«تنظيم القاعدة في العراق»، حيث كان بارعا لدرجة أن طلبت منه القيادات العليا في «القاعدة» أن يحول الأموال إلى تنظيم القاعدة الأساسي في باكستان، عوضا عن أن يجري العكس، وفق ما أشار إليه الباحث.
ونقلا عن مقالة نشرها موقع «بلومبيرغ» في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، أظهرت الدفاتر المحاسبية التي تم الاستيلاء عليها من «داعش» أن التنظيم يجني ما يكفي من المال لكي ينشئ منظمة مكتفية ذاتيا في بعض المحافظات، كالأنبار مثلا، في العراق.
والقسم الأكبر من إيراداته مرده بيع البضائع المسروقة كمواد البناء والمولدات وغيرها، كما يعتمد التنظيم على بعض الخلايا المحلية التي تسيطر على طرق ومسارات التهريب وتفرض الضرائب في المناطق الخاضعة لها، أضف إلى ذلك القسم الخاص بالغنائم الذي يعنى ببيع الممتلكات التي يتم نهبها من «الأعداء»، ولا سيما العراقيين الشيعة.
يضيف الباحث أيمن التميمي من منتدى الشرق الأوسط في لقاء مع صحيفة «الشرق الأوسط» أن «تنظيم داعش يستند على الإيرادات المتأتية من المناطق التي يسيطر عليها كجزء من خطته لإبراز نفسه كدولة فعلية، على غرار «العقارات» في الموصل التي تم الاستيلاء عليها من المسيحيين والشيعة الذين هربوا من المدينة، أو من خلال فرض الغرامات على السكان لقاء خدمات التنظيف والاشتراكات الهاتفية، واجتزاء قسم من معاشات المواطنين التي لا تزال الحكومة تسددها في مجالات مثل التعليم»، علما بأن الجزء الأكبر من إيرادات «داعش» هو من بيع النفط الذي يبدو أنه ما زال مستمرا، حيث أورد معهد دراسة الحرب (Institute For The Study of War) في شهر فبراير (شباط) أن «داعش» نشر 20 مصفاة متحركة في «زاب» الواقعة جنوب غربي مدينة كركوك، ليؤمن بذلك النفط إلى مشغلين محليين بسعر 68 ألف دينار عراقي.
وحسب تقديرات كلارك، سيجني تنظيم داعش هذه السنة بين 100 و200 مليون دولار على الأقل، علما بأن إيراداته قد انخفضت بشكل كبير منذ بدء ضربات التحالف الجوية.
وفي الوقت الذي حاولت فيه جبهة النصرة اعتماد بعض من هذه المبادئ في محافظة إدلب، وفق تميمي، لا تزال تستند بشكل كبير في مناطق أخرى في سوريا على الفديات من عمليات الخطف وعلى أموال الجهات الواهبة، وهي أساليب تعتمدها غالبية الجماعات المسلحة التي لا تطمح إلى بناء دولتها الخاصة.
وبالعودة إلى التدابير التي اعتمدتها مجموعة العمال المالي (FATF)، فتهدف أساسا إلى وضع حد لعمليات تمويل الإرهاب، وتشمل إمكانية وضع البلد المعني على قائمة البلدان غير المتعاونة مما قد يؤدي إلى فرض عقوبات على مؤسسات البلد المالية العاملة في الخارج وعلى اقتراض الدولة.
وقد اعتبر إدراج الأشخاص المتورطين بأعمال إرهابية على قائمة الخزانة الأميركية للأشخاص المحظور التعامل معهم (Specially Designated Nationals and Blocked Persons) ) تدبيرا فعالا آخر، إذ تضمن هذه التدابير تجميد أصول الفرد في حال مشاركته بأعمال إرهابية أو تسهيله أعمالا غير مشروعة لها علاقة بنشاطات إرهابية.
إلى ذلك، أقر مجلس الأمن الأسبوع الماضي تدابير تستهدف مصادر تمويل «داعش» في العراق والشام وجبهة النصرة، وأدان الجهات التي تعمد إلى شراء النفط من هذه المجموعات، وحظر التعامل بأي من التحف الأثرية المنهوبة في كل من العراق وسوريا، داعيا الدول إلى الكف عن دفع الفديات. وتأتي هذه القرارات لتعيد التأكيد على التزامات الدول الأعضاء بـ«تجميد من دون تأخير» الأموال وغيرها من الأصول المالية أو الموارد الاقتصادية للأشخاص الذين يرتكبون أو يحاولون ارتكاب أعمال إرهابية.
إلا أن الأمر لا يتعلق بإصدار القوانين بقدر ما يرتبط بكيفية تطبيقها على الأرض ووضعها حيز التنفيذ. فحتى تاريخه على سبيل المثال، لا يدخل التطبيق الجدي لهذه القرارات بعدد من البلاد؛ فعلى سبيل المثال «عادة ما تطالب قطر بإقرار هذه القوانين على الورق غير أنها نادرا ما تنفذها فعليا»، وفق كلارك.
«ورغم أن هذه القوانين قد تساعد في الحد من تمويل الإرهاب، غير أن المشهد لا يزال معقدا»، فهذه التشريعات قد تنجح بوضع مزيد من الضغط على دول الخليج من ناحية الجهات الواهبة، مما قد ينطبق على «القاعدة» في سوريا مثلا، إلا أنه بالنسبة إلى «داعش»؛ فمن الصعب أن تضع حدا لمصادر تمويل التنظيم من دون أن تعمد بغداد على سبيل المثال إلى وقف دفع رواتب الموظفين العامين كالأساتذة في مناطق مثل الموصل؛ خطوة من المستبعد أن تنفذها الحكومة العراقية خشية أن تفقد ما تبقى لها من تأثير أو نفوذ في هذه المناطق تمهيدا لإعادة السيطرة عليها وسحبها من بين أيادي «داعش»، وفق تميمي.

* باحثة غير مقيمة في المجلس الأطلسي مركز رفيق الحريري للدراسات في الشرق الأوسط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.