الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

تحويلات مالية من كل أنحاء العالم يصعب تعقبها.. و«بوكو حرام» تبدأ في استثمار عمليات العنف

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب
TT

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

أقر مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي تدابير استهدفت مصادر تمويل «داعش» و«جبهة النصرة»، محاولا بذلك قطع الشريان الحيوي الذي يغذي نشاط المنظمات الإرهابي، بما أن بقاء أي منظمة إرهابية كـ«داعش» أو «القاعدة» من بين غيرها، هو رهن بهياكل مالية فاعلة.
فقد أوردت صحيفة «يو إس إي توداي» (USA Today) إدانة 6 أشخاص من أصل بوسني من منطقة سانت لويس بتهمة تحويل الأموال إلى مقاتلي «داعش» في الشرق الأوسط مستخدمين خدمة «ويسترن يونيون» «وباي بال» لإرسال الأموال وأيضا البريد الأميركي لإرسال العتاد العسكري إلى «داعش»، من خلال وسطاء في تركيا والبوسنة والسعودية، وفق الصحيفة.

في سياق مماثل ذكرت وكالة الأنباء الآشورية في أوائل شهر فبراير (شباط) أن «داعش» افتتح سوقا خاصة لبيع الممتلكات التي نهبها من المنازل والكنائس الآشورية في الموصل.
وأطلق على السوق تسمية «غنائم النصارى» حيث جرى بيع أجهزة التلفزيون والثلاجات وأفران الميكروويف والأجهزة الإلكترونية الأخرى، وكذلك الأثاث والأعمال الفنية، وتراوحت الأسعار ما بين 50 ألفا إلى 75 ألف دينار عراقي.
وفي الفترة نفسها تقريبا كتبت الصحيفة الإسبانية « «El Paisأن إسبانيا باتت مركزا رئيسيا لتمويل الإرهابيين الجهاديين في سوريا والعراق «من خلال شبكة واسعة تتألف من 250 مركزا للاتصالات الهاتفية ومحلات الجزارة ومحلات البقالة، حيث يتم تحويل الأموال عبر قنوات غير رسمية يصعب تعقبها، وفقا لوكالات الاستخبارات الإسبانية». وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الشبكة تلجأ إلى ما يسمى نظام «الحوالة»، الذي يحدده الإنتربول بأنه عميلة نقل الأموال من دون تحريك للأموال، بهدف تمويل جماعات إرهابية مثل «داعش» و«النصرة».
من ناحية أخرى، اتهم موقع « «Tracking Terrorismجماعة بوكو حرام الإرهابية في نيجريا بالتواطؤ مع عصابات الجريمة المنظمة لتهريب المخدرات والخطف والسطو على المصارف وعمليات الاحتيال الإلكترونية، فضلا عن عمليات السرقة. ووفقا لمركز مكافحة الإرهاب «Combating terrorism center»، باتت عمليات الخطف أحد مصادر التمويل الرئيسية للمجموعة، وآخرها اختطاف 276 طالبة من مدرسة في نيجيريا في أبريل (نيسان) 2014.
الواضح أن تمويل الإرهاب شهد تطورا لافتا مع مرور الوقت، بحيث نجد بعض المنظمات الإرهابية اليوم تسعى إلى أن تستقل عن الجهات المانحة. وقد يكون تنظيم القاعدة خير مثال على هذا التطور، فبحسب دراسة لمؤسسة «راند» للأبحاث من عام 2004، اعتمد تنظيم القاعدة في البداية على مؤسسه أسامة بن لادن الذي استعمل ثروته الخاصة وتبرعات من أفراد أثرياء، وبعد أن أصبح الحصول على هذه التبرعات أكثر خطورة خلال التسعينات، زادت أهمية الشركات والجمعيات الخيرية التي استعملت كواجهة للتغطية. لاحقا، حين بدأ العديد من الدول والمؤسسات المالية بمطاردة الحسابات التي اشتبه بتمويلها الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. باتت تجارة السلع والتهريب وتجارة المخدرات مصادر رئيسية لإنعاش البنية التحتية المالية لتنظيم القاعدة.
يشير كولين كلارك الباحث من مؤسسة «راند» في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» إلى أن «مصادر تمويل تنظيم القاعدة متعددة، بدءا من الهبات التي يتلقاها من منظمات خيرية، وصولا إلى الخطف والمطالبة بالفدية وتهريب المخدرات والسرقات من بين غيرها من الانتهاكات».
وقد تطورت الأساليب التي يعتمدها التنظيم لجمع الأموال مع الوقت، بدءا من الحرب السوفياتية الأفغانية التي امتدت من عام 1979 إلى 1989، ومن ثم اضطراره إلى التأقلم مع كل صراع لاحق شارك فيه، كالبوسنة والشيشان وطاجيكستان.. إلخ، بحسب كلارك.
طال هذا التطور مجموعات إرهابية أخرى، مثل جماعة بوكو حرام؛ فقد نشرت صحيفة «International Business time} أنه عندما تأسست بوكو حرام حصلت على القسم الأكبر من أموالها من جماعات محلية قريبة منها شاركتها وقتها، هدفها الأساسي هو فرض الشريعة الإسلامية والتخلص من الهيمنة الغربية في نيجيريا، إلا أنه مع مرور الوقت وجدت المنظمة مصادر دخل أخرى؛ ففي شهر أبريل (نيسان) 2013 حصلت المنظمة على ما يوازي 3.15 مليون دولار أميركي من مفاوضين فرنسيين وكمبوديين عقب تحرير 7 رهائن فرنسيين كانوا قد اختطفوا في الكاميرون.
إلا أن «داعش» يتميز عن غيره في إدارة إرهابه.. «فعلى نقيض التنظيمات الأخرى التي تعتمد على الدعم الذي تتلقاه من دولة أو كيان خارجي، لجأ التنظيم إلى تمويل عملياته بارتكاب جرائم مختلفة، بدءا من الاستيلاء على النفط والسطو على المصارف وصولا إلى الابتزاز»، وفق كلارك؛ فالتنظيم «ورث» عشرات ملايين الدولارات جراء النشاطات الإرهابية التي ارتكبها حين كان لا يزال يعرف بـ«تنظيم القاعدة في العراق»، حيث كان بارعا لدرجة أن طلبت منه القيادات العليا في «القاعدة» أن يحول الأموال إلى تنظيم القاعدة الأساسي في باكستان، عوضا عن أن يجري العكس، وفق ما أشار إليه الباحث.
ونقلا عن مقالة نشرها موقع «بلومبيرغ» في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، أظهرت الدفاتر المحاسبية التي تم الاستيلاء عليها من «داعش» أن التنظيم يجني ما يكفي من المال لكي ينشئ منظمة مكتفية ذاتيا في بعض المحافظات، كالأنبار مثلا، في العراق.
والقسم الأكبر من إيراداته مرده بيع البضائع المسروقة كمواد البناء والمولدات وغيرها، كما يعتمد التنظيم على بعض الخلايا المحلية التي تسيطر على طرق ومسارات التهريب وتفرض الضرائب في المناطق الخاضعة لها، أضف إلى ذلك القسم الخاص بالغنائم الذي يعنى ببيع الممتلكات التي يتم نهبها من «الأعداء»، ولا سيما العراقيين الشيعة.
يضيف الباحث أيمن التميمي من منتدى الشرق الأوسط في لقاء مع صحيفة «الشرق الأوسط» أن «تنظيم داعش يستند على الإيرادات المتأتية من المناطق التي يسيطر عليها كجزء من خطته لإبراز نفسه كدولة فعلية، على غرار «العقارات» في الموصل التي تم الاستيلاء عليها من المسيحيين والشيعة الذين هربوا من المدينة، أو من خلال فرض الغرامات على السكان لقاء خدمات التنظيف والاشتراكات الهاتفية، واجتزاء قسم من معاشات المواطنين التي لا تزال الحكومة تسددها في مجالات مثل التعليم»، علما بأن الجزء الأكبر من إيرادات «داعش» هو من بيع النفط الذي يبدو أنه ما زال مستمرا، حيث أورد معهد دراسة الحرب (Institute For The Study of War) في شهر فبراير (شباط) أن «داعش» نشر 20 مصفاة متحركة في «زاب» الواقعة جنوب غربي مدينة كركوك، ليؤمن بذلك النفط إلى مشغلين محليين بسعر 68 ألف دينار عراقي.
وحسب تقديرات كلارك، سيجني تنظيم داعش هذه السنة بين 100 و200 مليون دولار على الأقل، علما بأن إيراداته قد انخفضت بشكل كبير منذ بدء ضربات التحالف الجوية.
وفي الوقت الذي حاولت فيه جبهة النصرة اعتماد بعض من هذه المبادئ في محافظة إدلب، وفق تميمي، لا تزال تستند بشكل كبير في مناطق أخرى في سوريا على الفديات من عمليات الخطف وعلى أموال الجهات الواهبة، وهي أساليب تعتمدها غالبية الجماعات المسلحة التي لا تطمح إلى بناء دولتها الخاصة.
وبالعودة إلى التدابير التي اعتمدتها مجموعة العمال المالي (FATF)، فتهدف أساسا إلى وضع حد لعمليات تمويل الإرهاب، وتشمل إمكانية وضع البلد المعني على قائمة البلدان غير المتعاونة مما قد يؤدي إلى فرض عقوبات على مؤسسات البلد المالية العاملة في الخارج وعلى اقتراض الدولة.
وقد اعتبر إدراج الأشخاص المتورطين بأعمال إرهابية على قائمة الخزانة الأميركية للأشخاص المحظور التعامل معهم (Specially Designated Nationals and Blocked Persons) ) تدبيرا فعالا آخر، إذ تضمن هذه التدابير تجميد أصول الفرد في حال مشاركته بأعمال إرهابية أو تسهيله أعمالا غير مشروعة لها علاقة بنشاطات إرهابية.
إلى ذلك، أقر مجلس الأمن الأسبوع الماضي تدابير تستهدف مصادر تمويل «داعش» في العراق والشام وجبهة النصرة، وأدان الجهات التي تعمد إلى شراء النفط من هذه المجموعات، وحظر التعامل بأي من التحف الأثرية المنهوبة في كل من العراق وسوريا، داعيا الدول إلى الكف عن دفع الفديات. وتأتي هذه القرارات لتعيد التأكيد على التزامات الدول الأعضاء بـ«تجميد من دون تأخير» الأموال وغيرها من الأصول المالية أو الموارد الاقتصادية للأشخاص الذين يرتكبون أو يحاولون ارتكاب أعمال إرهابية.
إلا أن الأمر لا يتعلق بإصدار القوانين بقدر ما يرتبط بكيفية تطبيقها على الأرض ووضعها حيز التنفيذ. فحتى تاريخه على سبيل المثال، لا يدخل التطبيق الجدي لهذه القرارات بعدد من البلاد؛ فعلى سبيل المثال «عادة ما تطالب قطر بإقرار هذه القوانين على الورق غير أنها نادرا ما تنفذها فعليا»، وفق كلارك.
«ورغم أن هذه القوانين قد تساعد في الحد من تمويل الإرهاب، غير أن المشهد لا يزال معقدا»، فهذه التشريعات قد تنجح بوضع مزيد من الضغط على دول الخليج من ناحية الجهات الواهبة، مما قد ينطبق على «القاعدة» في سوريا مثلا، إلا أنه بالنسبة إلى «داعش»؛ فمن الصعب أن تضع حدا لمصادر تمويل التنظيم من دون أن تعمد بغداد على سبيل المثال إلى وقف دفع رواتب الموظفين العامين كالأساتذة في مناطق مثل الموصل؛ خطوة من المستبعد أن تنفذها الحكومة العراقية خشية أن تفقد ما تبقى لها من تأثير أو نفوذ في هذه المناطق تمهيدا لإعادة السيطرة عليها وسحبها من بين أيادي «داعش»، وفق تميمي.

* باحثة غير مقيمة في المجلس الأطلسي مركز رفيق الحريري للدراسات في الشرق الأوسط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟