الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

تحويلات مالية من كل أنحاء العالم يصعب تعقبها.. و«بوكو حرام» تبدأ في استثمار عمليات العنف

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب
TT

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب

أقر مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي تدابير استهدفت مصادر تمويل «داعش» و«جبهة النصرة»، محاولا بذلك قطع الشريان الحيوي الذي يغذي نشاط المنظمات الإرهابي، بما أن بقاء أي منظمة إرهابية كـ«داعش» أو «القاعدة» من بين غيرها، هو رهن بهياكل مالية فاعلة.
فقد أوردت صحيفة «يو إس إي توداي» (USA Today) إدانة 6 أشخاص من أصل بوسني من منطقة سانت لويس بتهمة تحويل الأموال إلى مقاتلي «داعش» في الشرق الأوسط مستخدمين خدمة «ويسترن يونيون» «وباي بال» لإرسال الأموال وأيضا البريد الأميركي لإرسال العتاد العسكري إلى «داعش»، من خلال وسطاء في تركيا والبوسنة والسعودية، وفق الصحيفة.

في سياق مماثل ذكرت وكالة الأنباء الآشورية في أوائل شهر فبراير (شباط) أن «داعش» افتتح سوقا خاصة لبيع الممتلكات التي نهبها من المنازل والكنائس الآشورية في الموصل.
وأطلق على السوق تسمية «غنائم النصارى» حيث جرى بيع أجهزة التلفزيون والثلاجات وأفران الميكروويف والأجهزة الإلكترونية الأخرى، وكذلك الأثاث والأعمال الفنية، وتراوحت الأسعار ما بين 50 ألفا إلى 75 ألف دينار عراقي.
وفي الفترة نفسها تقريبا كتبت الصحيفة الإسبانية « «El Paisأن إسبانيا باتت مركزا رئيسيا لتمويل الإرهابيين الجهاديين في سوريا والعراق «من خلال شبكة واسعة تتألف من 250 مركزا للاتصالات الهاتفية ومحلات الجزارة ومحلات البقالة، حيث يتم تحويل الأموال عبر قنوات غير رسمية يصعب تعقبها، وفقا لوكالات الاستخبارات الإسبانية». وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الشبكة تلجأ إلى ما يسمى نظام «الحوالة»، الذي يحدده الإنتربول بأنه عميلة نقل الأموال من دون تحريك للأموال، بهدف تمويل جماعات إرهابية مثل «داعش» و«النصرة».
من ناحية أخرى، اتهم موقع « «Tracking Terrorismجماعة بوكو حرام الإرهابية في نيجريا بالتواطؤ مع عصابات الجريمة المنظمة لتهريب المخدرات والخطف والسطو على المصارف وعمليات الاحتيال الإلكترونية، فضلا عن عمليات السرقة. ووفقا لمركز مكافحة الإرهاب «Combating terrorism center»، باتت عمليات الخطف أحد مصادر التمويل الرئيسية للمجموعة، وآخرها اختطاف 276 طالبة من مدرسة في نيجيريا في أبريل (نيسان) 2014.
الواضح أن تمويل الإرهاب شهد تطورا لافتا مع مرور الوقت، بحيث نجد بعض المنظمات الإرهابية اليوم تسعى إلى أن تستقل عن الجهات المانحة. وقد يكون تنظيم القاعدة خير مثال على هذا التطور، فبحسب دراسة لمؤسسة «راند» للأبحاث من عام 2004، اعتمد تنظيم القاعدة في البداية على مؤسسه أسامة بن لادن الذي استعمل ثروته الخاصة وتبرعات من أفراد أثرياء، وبعد أن أصبح الحصول على هذه التبرعات أكثر خطورة خلال التسعينات، زادت أهمية الشركات والجمعيات الخيرية التي استعملت كواجهة للتغطية. لاحقا، حين بدأ العديد من الدول والمؤسسات المالية بمطاردة الحسابات التي اشتبه بتمويلها الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. باتت تجارة السلع والتهريب وتجارة المخدرات مصادر رئيسية لإنعاش البنية التحتية المالية لتنظيم القاعدة.
يشير كولين كلارك الباحث من مؤسسة «راند» في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» إلى أن «مصادر تمويل تنظيم القاعدة متعددة، بدءا من الهبات التي يتلقاها من منظمات خيرية، وصولا إلى الخطف والمطالبة بالفدية وتهريب المخدرات والسرقات من بين غيرها من الانتهاكات».
وقد تطورت الأساليب التي يعتمدها التنظيم لجمع الأموال مع الوقت، بدءا من الحرب السوفياتية الأفغانية التي امتدت من عام 1979 إلى 1989، ومن ثم اضطراره إلى التأقلم مع كل صراع لاحق شارك فيه، كالبوسنة والشيشان وطاجيكستان.. إلخ، بحسب كلارك.
طال هذا التطور مجموعات إرهابية أخرى، مثل جماعة بوكو حرام؛ فقد نشرت صحيفة «International Business time} أنه عندما تأسست بوكو حرام حصلت على القسم الأكبر من أموالها من جماعات محلية قريبة منها شاركتها وقتها، هدفها الأساسي هو فرض الشريعة الإسلامية والتخلص من الهيمنة الغربية في نيجيريا، إلا أنه مع مرور الوقت وجدت المنظمة مصادر دخل أخرى؛ ففي شهر أبريل (نيسان) 2013 حصلت المنظمة على ما يوازي 3.15 مليون دولار أميركي من مفاوضين فرنسيين وكمبوديين عقب تحرير 7 رهائن فرنسيين كانوا قد اختطفوا في الكاميرون.
إلا أن «داعش» يتميز عن غيره في إدارة إرهابه.. «فعلى نقيض التنظيمات الأخرى التي تعتمد على الدعم الذي تتلقاه من دولة أو كيان خارجي، لجأ التنظيم إلى تمويل عملياته بارتكاب جرائم مختلفة، بدءا من الاستيلاء على النفط والسطو على المصارف وصولا إلى الابتزاز»، وفق كلارك؛ فالتنظيم «ورث» عشرات ملايين الدولارات جراء النشاطات الإرهابية التي ارتكبها حين كان لا يزال يعرف بـ«تنظيم القاعدة في العراق»، حيث كان بارعا لدرجة أن طلبت منه القيادات العليا في «القاعدة» أن يحول الأموال إلى تنظيم القاعدة الأساسي في باكستان، عوضا عن أن يجري العكس، وفق ما أشار إليه الباحث.
ونقلا عن مقالة نشرها موقع «بلومبيرغ» في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، أظهرت الدفاتر المحاسبية التي تم الاستيلاء عليها من «داعش» أن التنظيم يجني ما يكفي من المال لكي ينشئ منظمة مكتفية ذاتيا في بعض المحافظات، كالأنبار مثلا، في العراق.
والقسم الأكبر من إيراداته مرده بيع البضائع المسروقة كمواد البناء والمولدات وغيرها، كما يعتمد التنظيم على بعض الخلايا المحلية التي تسيطر على طرق ومسارات التهريب وتفرض الضرائب في المناطق الخاضعة لها، أضف إلى ذلك القسم الخاص بالغنائم الذي يعنى ببيع الممتلكات التي يتم نهبها من «الأعداء»، ولا سيما العراقيين الشيعة.
يضيف الباحث أيمن التميمي من منتدى الشرق الأوسط في لقاء مع صحيفة «الشرق الأوسط» أن «تنظيم داعش يستند على الإيرادات المتأتية من المناطق التي يسيطر عليها كجزء من خطته لإبراز نفسه كدولة فعلية، على غرار «العقارات» في الموصل التي تم الاستيلاء عليها من المسيحيين والشيعة الذين هربوا من المدينة، أو من خلال فرض الغرامات على السكان لقاء خدمات التنظيف والاشتراكات الهاتفية، واجتزاء قسم من معاشات المواطنين التي لا تزال الحكومة تسددها في مجالات مثل التعليم»، علما بأن الجزء الأكبر من إيرادات «داعش» هو من بيع النفط الذي يبدو أنه ما زال مستمرا، حيث أورد معهد دراسة الحرب (Institute For The Study of War) في شهر فبراير (شباط) أن «داعش» نشر 20 مصفاة متحركة في «زاب» الواقعة جنوب غربي مدينة كركوك، ليؤمن بذلك النفط إلى مشغلين محليين بسعر 68 ألف دينار عراقي.
وحسب تقديرات كلارك، سيجني تنظيم داعش هذه السنة بين 100 و200 مليون دولار على الأقل، علما بأن إيراداته قد انخفضت بشكل كبير منذ بدء ضربات التحالف الجوية.
وفي الوقت الذي حاولت فيه جبهة النصرة اعتماد بعض من هذه المبادئ في محافظة إدلب، وفق تميمي، لا تزال تستند بشكل كبير في مناطق أخرى في سوريا على الفديات من عمليات الخطف وعلى أموال الجهات الواهبة، وهي أساليب تعتمدها غالبية الجماعات المسلحة التي لا تطمح إلى بناء دولتها الخاصة.
وبالعودة إلى التدابير التي اعتمدتها مجموعة العمال المالي (FATF)، فتهدف أساسا إلى وضع حد لعمليات تمويل الإرهاب، وتشمل إمكانية وضع البلد المعني على قائمة البلدان غير المتعاونة مما قد يؤدي إلى فرض عقوبات على مؤسسات البلد المالية العاملة في الخارج وعلى اقتراض الدولة.
وقد اعتبر إدراج الأشخاص المتورطين بأعمال إرهابية على قائمة الخزانة الأميركية للأشخاص المحظور التعامل معهم (Specially Designated Nationals and Blocked Persons) ) تدبيرا فعالا آخر، إذ تضمن هذه التدابير تجميد أصول الفرد في حال مشاركته بأعمال إرهابية أو تسهيله أعمالا غير مشروعة لها علاقة بنشاطات إرهابية.
إلى ذلك، أقر مجلس الأمن الأسبوع الماضي تدابير تستهدف مصادر تمويل «داعش» في العراق والشام وجبهة النصرة، وأدان الجهات التي تعمد إلى شراء النفط من هذه المجموعات، وحظر التعامل بأي من التحف الأثرية المنهوبة في كل من العراق وسوريا، داعيا الدول إلى الكف عن دفع الفديات. وتأتي هذه القرارات لتعيد التأكيد على التزامات الدول الأعضاء بـ«تجميد من دون تأخير» الأموال وغيرها من الأصول المالية أو الموارد الاقتصادية للأشخاص الذين يرتكبون أو يحاولون ارتكاب أعمال إرهابية.
إلا أن الأمر لا يتعلق بإصدار القوانين بقدر ما يرتبط بكيفية تطبيقها على الأرض ووضعها حيز التنفيذ. فحتى تاريخه على سبيل المثال، لا يدخل التطبيق الجدي لهذه القرارات بعدد من البلاد؛ فعلى سبيل المثال «عادة ما تطالب قطر بإقرار هذه القوانين على الورق غير أنها نادرا ما تنفذها فعليا»، وفق كلارك.
«ورغم أن هذه القوانين قد تساعد في الحد من تمويل الإرهاب، غير أن المشهد لا يزال معقدا»، فهذه التشريعات قد تنجح بوضع مزيد من الضغط على دول الخليج من ناحية الجهات الواهبة، مما قد ينطبق على «القاعدة» في سوريا مثلا، إلا أنه بالنسبة إلى «داعش»؛ فمن الصعب أن تضع حدا لمصادر تمويل التنظيم من دون أن تعمد بغداد على سبيل المثال إلى وقف دفع رواتب الموظفين العامين كالأساتذة في مناطق مثل الموصل؛ خطوة من المستبعد أن تنفذها الحكومة العراقية خشية أن تفقد ما تبقى لها من تأثير أو نفوذ في هذه المناطق تمهيدا لإعادة السيطرة عليها وسحبها من بين أيادي «داعش»، وفق تميمي.

* باحثة غير مقيمة في المجلس الأطلسي مركز رفيق الحريري للدراسات في الشرق الأوسط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.