الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة
TT

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

تثير المقاربة الرائجة في الفكر السياسي العربي والإسلامي المعاصر للعلمانية، من حيث التبني، والرفض، أو من حيث الدراسة التفسيرية، أو النقدية النادرة الوقوع أكاديميا، تساؤلات بحثية عدة.
فمن جهة أولى: يظهر أن تطور خبرة الفلسفة السياسية العربية في تقييم نفسها، بعيدا عن الأهواء الآيديولوجية، ما زال ضعيفا جدا.
ومن جهة ثانية: نلاحظ أن الفكر السياسي العربي المعاصر حاول، منذ منتصف القرن العشرين، إيجاد أصالة تعويضية لتبرير استبعاده الخبرة التاريخية الإسلامية. في الوقت الذي بقيت فيه هذه الخبرة مصدرا للمعرفة الجامعة للمجتمع، وتعبيرا عن المدركات والتقاليد المعرفية، كما صاغتها جهود المدارس المختلفة ضمن النسق العام المشترك للأمة العربية الإسلامية.
ومن جهة ثالثة: نجد أن البحث عن نظام سياسي يعبر عن تميز نموذجي وخصوصية عربية إسلامية، مستقل تمام الاستقلال عن «القيم الإنسانية الحضارية العليا»، هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، والوعي الاجتماعي.
في هذا الإطار نطرح موضوع العلمانية، وارتباط الدين بالمجال العام. وعلينا أن نقر أن الحديث عن السلطة السياسية الحديثة، من منظور علم الاجتماع السياسي، يفيد بما لا يدع مجالا للشك أن استبعاد القيم الدينية وطردها من المجال التداولي للسلطة السياسية أنتج المأزق الحالي للعلمانية في«الغرب»؛ المندرج بدوره ضمن مأزق الحداثة، وتنامي فلسفة البعديات. دون أن يعني ذلك انحصار الفكر السياسي العلماني الغربي، نظرا لتعدديته، وقدرته الذاتية المهمة على انتقاد أطروحاته المعرفية، وتجديدها، وتجاوزها حتى.
فإذا كانت ما بعد الحداثة تتحدث عن غياب المركز، والمرجعية، فإن ما بعد العلمانية تتحدث عن أزمة وفشل إنساني قيمي للعلمانية؛ لذلك يطرح بروفسور السياسة بجامعة وستمنستر، جون كين، ضرورة تجاوز العلمانية التقليدية، وتناقضاتها الداخلية، المفضية لقبول الاستبداد السياسي. كما تحدث كبير فلاسفة الغرب الحاليين، يورغن هابرماس، عن حضور الدين في المجال العام، ودعا لإيجاد صيغة تصالحية بين الديني والدنيوي معرفيا وعمليا، معتبرا أنه «لا بد أن يكون كل المواطنين أحرارا في تقرير إن كانوا يرغبون في استخدام لغة دينية في المجال العام أو لا. فإن رغبوا في ذلك فإن عليهم قبول أن محتويات الحقيقة المحتملة في الملفوظات الدينية لا بد أن تترجم إلى لغة مقبولة على نطاق واسع قبل أن تتمكن من شق طريقها إلى أجندات البرلمانات، أو المحاكم، أو الهيئات الإدارية وتؤثر في قراراتها» (قوة الدين في المجال العام؛ 2011 ص 59).
ورغم أن فرنسا هي وليدة مدرسة متطرفة من العلمانية، فإنها لم تعد خارجة عن دائرة المراجعات المعرفية للعلمنة وعلاقتها؛ فقد بدأ النقاش حول العلمانية يشهد تطورات سريعة خاصة مع ما طرحه فيلسوف العلمانية الفرنسية جون بيبيرو من أفكار مثيرة في هذا الصدد تتعلق بضرورة مراعاة العلمانية لما هو سوسيولوجي، خاصة أن المجتمعات الغربية تعددية بالأساس. وهذا يقترب من طرح المؤرخ مارسيل غوشيه، الفيلسوف الفرنسي الذي يشغل حاليا مدير الدراسات بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية؛ حيث أكد أن حضور الدين في المجال العام حقيقة تاريخية لا يمكن القفز عليها، بل إن هذا الحضور يعود حاليا للحياة المعاصرة بصيغ متعددة. ومع تلاشي نظرة العلمانية التقليدية الميتافيزيقية ودورها، يأتي دور المجتمع المدني لتجاوز صرامة النظرية التقليدية للدولة الحديثة المعلمنة.
من جهته، أعاد أستاذ العلوم السياسية الفرنسي باربيه بأطروحة المعالجة لهذا الإشكال خلخلة جزء من المسلمات حول العلمانية من الناحية التاريخية والسوسيولوجية؛ فقد أعاد تصنيف الدول الأوروبية الحالية لثلاث دوائر؛ الأولى: سماها الدول غير العلمانية، وهي إنجلترا، الدنمارك واليونان. والدائرة الثانية: دول نصف علمانية، وهي ألمانيا، بلجيكا، هولندا، لكسمبورغ، وآيرلندا. فيما أطلق على الدائرة الثالثة دولا شبه علمانية، وهي البرتغال، إسبانيا، وإيطاليا.
ويمكننا كذلك أن نشير لانتقادات ريمون بودن، عضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية الأوروبية، لطروحات دوركهايم الخاصة بالدين؛ حيث أكد أن الدين يرتبط أساسا ووجوديا بالقيم وليس بالكنيسة، كما كان دوركهايم يعتقد. وهذا ما يجعل من وجوده حقيقة سوسيولوجية، ويجعل من الحل العلماني عاجزا عن فك الارتباط القائم بين الدولة والدين، إلا بسيطرة السلطة الزمنية على الدين، ووضعه تحت هيمنة تصورها الوضعي.
وبما أن الفكر الفلسفي الغربي يسير على سكة النقد و«المراجعات الذاتية» (لا أريد هنا استحضار مفكري ما بعد الحداثة المتطرفين)؛ فإن معالجة إشكالية الدولة الحديثة، في العالم العربي، تستوجب البحث عن حداثة بديلة، والتأسيس للعملية التحديثية بالتخلي عن الأسس الفلسفية الكلاسيكية للحداثة، أو ما يسمى بعصر التنوير المستبطن للعداوة تجاه كل ما هو ديني. وبالتالي فإن الأخذ بمناهج جديدة في الفكر المعاصر، وإحياء الجانب الفقهي والفلسفي الإيجابي من التراث الإسلامي، سيساعد على تجديد بنية الثقافة، والفكر السياسي العربي، فيما يخص علاقة الدين بالدولة والسياسة.
ومن شأن الاستعاضة عن مبادئ الحداثة المدعية للعقلانية والإطلاقية... بنظرية «القيم الإنسانية الحضارية العليا»، تحويل أنظار المسلمين باختلاف شعوبهم، والعرب خاصة، إلى إمكانية تحقيق التغيير الضروري دون التضحية بالجوهر الديني، والأخلاقي المشكل للقاع الثقافي، والمنغرس في الذهنيات السائدة في الاجتماع العربي تاريخيا.
فالحديث عن مشروعية العلمانية في الواقع العربي، يجب أن ينطلق من نظرية القيم المجتمعية الحاضنة، ومن سعة المرجعية الإسلامية، وتعدد مدارسها الفكرية الاجتهادية. بغير هذا المسلك، فمن الراجح أن يتحول الطرح العلماني العربي إلى مجرد نقاش طبقي وتأزيمي؛ لن يحقق إلا النظر إلى التجربة الغربية كنموذج للخلاص والتقدم، وتقديسها كنمط واحدي لبلوغ الحداثة السياسية وتحقيق التنمية، خارج دائرة القيم العربية الإسلامية. ولعل أخطر ما أدى إليه هذا المسلك، هو تعاظم أزمة الثقة بين النخبة المتغربة وسائر المواطنين، مع تمكين موجات الاستبداد من الهيمنة على المجتمع، مما يساهم بدوره في استنبات موجات جديدة من التطرف والعنف الديني الدموي. وليس من الواضح عربيا أننا في الطريق للخروج من هذا المأزق الذي يمس السياسة كتصورات معيارية، وكممارسة سلوكية ذات أبعاد سوسيو - قيمية.
فمقولة حدود السياسي والديني وتقلبات هذا الأخير اجتماعيا، يطرح على العلمانية سؤالا يستمد مشروعيته من قيم القانون الطبيعي نفسه. فالمنطق السياسي العلماني وعد بتحقيق السعادة، انطلاقا من حبس الديني «في غرفته» الشخصية؛ لكن السياقات الاجتماعية وما نشهده من حراك مستمر بالغرب، تجعل من النظام السياسي العلماني نظاما مستمر التنظيم، ويساهم فيه فاعلون اجتماعيون وسياسيون، بعض أطراف هذا التشكيل المجتمعي (الأحزاب المسيحية والكنيسة، والمثقفين الإيمانيين..) لا يفصل الدين عن الدولة بالمفهوم الكلاسيكي المعروف على الأقل.
وبالتالي، فإن القول بالعلمانية يستوجب التمييز بين مجالين اثنين:
المجال الأول: نظري واتخذ طابعا فلسفيا واحديا حاول التأكيد عبر أدبياته على إمكانية فصل الدولة عن الدين (وهو شيء لم يتحقق في أي دولة، بما فيه الدول الشيوعية).
المجال الثاني: تطبيقي سياسي، وفيه تم تعديل الطابع الفلسفي المعياري؛ فالدولة العلمانية الفرنسية غير النموذج البلجيكي واليوناني، غير الإنجليزي، وهذا الأخير يختلف عن الأميركي والهندي.
ولا بد كذلك من الإشارة إلى أن نشر التصورات العلمانية منذ عصر الأنوار ترافق مع عملية تمويه معرفية كبيرة، (تناقش حاليا في الفكر الفلسفي الغربي)، تخفي جانب التسلط والإكراه باسم القانون، مورست ضد المجتمع والدين ومؤسساتهما، وكذا تجاه المعتقدات المستقلة عن الدولة. وهذا بدوره شكل تحديا آخر لما تحققه الديمقراطية نفسها من تداول للسلطة؛ حيث يتم النظر للديمقراطية حاليا في النظرية السياسية الغربية المعاصرة، باعتبارها نظرية لا تعبر بتاتا عن حل مطلق. فمهما بلغ تطور الحكم الديمقراطي، فإنه يبقى نظاما سياسيا، ينظم واقعا سوسيولوجيا لا يمكن تحقيق الانسجام التام داخله، باسم المواطنة أو بغيرها.
وفي الوقت الذي أخذ فيه المفهوم العلماني للعلمانية يتطور، ظلت الكتابات العربية تطرحه من زاوية تقليدية متمحورة حول المفهوم نفسه، ومدى انتسابه إلى العلم والعالم، وانطباقه مع الدنيوية... فكانت بذلك عقدة المفهوم مؤشرا على غموض التصور العلماني العربي المعاصر، وعجزه عن تحدي الواقع السوسيوتاريخي، الذي يتقبل التمييز بين الديني والسياسي، والمتصدي لمقولة الفصل بين الدولة والدين، أو بين الدين والحياة العامة للأمة المجتمعية.
وإذا كان الغرب اليوم يتحدث عن ما بعد الديمقراطية (انظر كتابات هبرماس على سبيل المثال) ونزع القداسة عن ماهية العلمانية. فإن ما يلاحظ أن هناك جمودا كبيرا على مستوى فكر العلمانية العربية، سواء «العلمانية السياسية المعتدلة»، أو «العلمانية العقائدية»؛ حيث تكتفيان بتعريفات وطروحات آيديولوجية عامة للسلطة، منقولة في الغالب، تحقق الراحة النفسية، وتعكس رؤية غير دقيقة للموضوع، فغالبا ما نجدها تمثل كل متوهم غير واقع.
وتبعا لذلك يحتاج مصطلح العلمانية وأطروحاته للسلطة، إلى تعريف جديد ومراجعة، على ضوء منظومة القيم المجتمعية العربية الإسلامية، مع تفصيل لغاياته بشكل يحدد المرجعية العليا، والمفاهيم وتطوراتها التاريخية. فواقع الدولة الحديثة يفند القول بأن إشكالية علاقة الدين بالمجال العام متجاوزة في العالم الغربي المعاصر، والدولة الحديثة.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟