الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة
TT

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

الدين في المجال العام.. تصورات حول العلمانية ودعوة للمراجعة

تثير المقاربة الرائجة في الفكر السياسي العربي والإسلامي المعاصر للعلمانية، من حيث التبني، والرفض، أو من حيث الدراسة التفسيرية، أو النقدية النادرة الوقوع أكاديميا، تساؤلات بحثية عدة.
فمن جهة أولى: يظهر أن تطور خبرة الفلسفة السياسية العربية في تقييم نفسها، بعيدا عن الأهواء الآيديولوجية، ما زال ضعيفا جدا.
ومن جهة ثانية: نلاحظ أن الفكر السياسي العربي المعاصر حاول، منذ منتصف القرن العشرين، إيجاد أصالة تعويضية لتبرير استبعاده الخبرة التاريخية الإسلامية. في الوقت الذي بقيت فيه هذه الخبرة مصدرا للمعرفة الجامعة للمجتمع، وتعبيرا عن المدركات والتقاليد المعرفية، كما صاغتها جهود المدارس المختلفة ضمن النسق العام المشترك للأمة العربية الإسلامية.
ومن جهة ثالثة: نجد أن البحث عن نظام سياسي يعبر عن تميز نموذجي وخصوصية عربية إسلامية، مستقل تمام الاستقلال عن «القيم الإنسانية الحضارية العليا»، هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، والوعي الاجتماعي.
في هذا الإطار نطرح موضوع العلمانية، وارتباط الدين بالمجال العام. وعلينا أن نقر أن الحديث عن السلطة السياسية الحديثة، من منظور علم الاجتماع السياسي، يفيد بما لا يدع مجالا للشك أن استبعاد القيم الدينية وطردها من المجال التداولي للسلطة السياسية أنتج المأزق الحالي للعلمانية في«الغرب»؛ المندرج بدوره ضمن مأزق الحداثة، وتنامي فلسفة البعديات. دون أن يعني ذلك انحصار الفكر السياسي العلماني الغربي، نظرا لتعدديته، وقدرته الذاتية المهمة على انتقاد أطروحاته المعرفية، وتجديدها، وتجاوزها حتى.
فإذا كانت ما بعد الحداثة تتحدث عن غياب المركز، والمرجعية، فإن ما بعد العلمانية تتحدث عن أزمة وفشل إنساني قيمي للعلمانية؛ لذلك يطرح بروفسور السياسة بجامعة وستمنستر، جون كين، ضرورة تجاوز العلمانية التقليدية، وتناقضاتها الداخلية، المفضية لقبول الاستبداد السياسي. كما تحدث كبير فلاسفة الغرب الحاليين، يورغن هابرماس، عن حضور الدين في المجال العام، ودعا لإيجاد صيغة تصالحية بين الديني والدنيوي معرفيا وعمليا، معتبرا أنه «لا بد أن يكون كل المواطنين أحرارا في تقرير إن كانوا يرغبون في استخدام لغة دينية في المجال العام أو لا. فإن رغبوا في ذلك فإن عليهم قبول أن محتويات الحقيقة المحتملة في الملفوظات الدينية لا بد أن تترجم إلى لغة مقبولة على نطاق واسع قبل أن تتمكن من شق طريقها إلى أجندات البرلمانات، أو المحاكم، أو الهيئات الإدارية وتؤثر في قراراتها» (قوة الدين في المجال العام؛ 2011 ص 59).
ورغم أن فرنسا هي وليدة مدرسة متطرفة من العلمانية، فإنها لم تعد خارجة عن دائرة المراجعات المعرفية للعلمنة وعلاقتها؛ فقد بدأ النقاش حول العلمانية يشهد تطورات سريعة خاصة مع ما طرحه فيلسوف العلمانية الفرنسية جون بيبيرو من أفكار مثيرة في هذا الصدد تتعلق بضرورة مراعاة العلمانية لما هو سوسيولوجي، خاصة أن المجتمعات الغربية تعددية بالأساس. وهذا يقترب من طرح المؤرخ مارسيل غوشيه، الفيلسوف الفرنسي الذي يشغل حاليا مدير الدراسات بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية؛ حيث أكد أن حضور الدين في المجال العام حقيقة تاريخية لا يمكن القفز عليها، بل إن هذا الحضور يعود حاليا للحياة المعاصرة بصيغ متعددة. ومع تلاشي نظرة العلمانية التقليدية الميتافيزيقية ودورها، يأتي دور المجتمع المدني لتجاوز صرامة النظرية التقليدية للدولة الحديثة المعلمنة.
من جهته، أعاد أستاذ العلوم السياسية الفرنسي باربيه بأطروحة المعالجة لهذا الإشكال خلخلة جزء من المسلمات حول العلمانية من الناحية التاريخية والسوسيولوجية؛ فقد أعاد تصنيف الدول الأوروبية الحالية لثلاث دوائر؛ الأولى: سماها الدول غير العلمانية، وهي إنجلترا، الدنمارك واليونان. والدائرة الثانية: دول نصف علمانية، وهي ألمانيا، بلجيكا، هولندا، لكسمبورغ، وآيرلندا. فيما أطلق على الدائرة الثالثة دولا شبه علمانية، وهي البرتغال، إسبانيا، وإيطاليا.
ويمكننا كذلك أن نشير لانتقادات ريمون بودن، عضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية الأوروبية، لطروحات دوركهايم الخاصة بالدين؛ حيث أكد أن الدين يرتبط أساسا ووجوديا بالقيم وليس بالكنيسة، كما كان دوركهايم يعتقد. وهذا ما يجعل من وجوده حقيقة سوسيولوجية، ويجعل من الحل العلماني عاجزا عن فك الارتباط القائم بين الدولة والدين، إلا بسيطرة السلطة الزمنية على الدين، ووضعه تحت هيمنة تصورها الوضعي.
وبما أن الفكر الفلسفي الغربي يسير على سكة النقد و«المراجعات الذاتية» (لا أريد هنا استحضار مفكري ما بعد الحداثة المتطرفين)؛ فإن معالجة إشكالية الدولة الحديثة، في العالم العربي، تستوجب البحث عن حداثة بديلة، والتأسيس للعملية التحديثية بالتخلي عن الأسس الفلسفية الكلاسيكية للحداثة، أو ما يسمى بعصر التنوير المستبطن للعداوة تجاه كل ما هو ديني. وبالتالي فإن الأخذ بمناهج جديدة في الفكر المعاصر، وإحياء الجانب الفقهي والفلسفي الإيجابي من التراث الإسلامي، سيساعد على تجديد بنية الثقافة، والفكر السياسي العربي، فيما يخص علاقة الدين بالدولة والسياسة.
ومن شأن الاستعاضة عن مبادئ الحداثة المدعية للعقلانية والإطلاقية... بنظرية «القيم الإنسانية الحضارية العليا»، تحويل أنظار المسلمين باختلاف شعوبهم، والعرب خاصة، إلى إمكانية تحقيق التغيير الضروري دون التضحية بالجوهر الديني، والأخلاقي المشكل للقاع الثقافي، والمنغرس في الذهنيات السائدة في الاجتماع العربي تاريخيا.
فالحديث عن مشروعية العلمانية في الواقع العربي، يجب أن ينطلق من نظرية القيم المجتمعية الحاضنة، ومن سعة المرجعية الإسلامية، وتعدد مدارسها الفكرية الاجتهادية. بغير هذا المسلك، فمن الراجح أن يتحول الطرح العلماني العربي إلى مجرد نقاش طبقي وتأزيمي؛ لن يحقق إلا النظر إلى التجربة الغربية كنموذج للخلاص والتقدم، وتقديسها كنمط واحدي لبلوغ الحداثة السياسية وتحقيق التنمية، خارج دائرة القيم العربية الإسلامية. ولعل أخطر ما أدى إليه هذا المسلك، هو تعاظم أزمة الثقة بين النخبة المتغربة وسائر المواطنين، مع تمكين موجات الاستبداد من الهيمنة على المجتمع، مما يساهم بدوره في استنبات موجات جديدة من التطرف والعنف الديني الدموي. وليس من الواضح عربيا أننا في الطريق للخروج من هذا المأزق الذي يمس السياسة كتصورات معيارية، وكممارسة سلوكية ذات أبعاد سوسيو - قيمية.
فمقولة حدود السياسي والديني وتقلبات هذا الأخير اجتماعيا، يطرح على العلمانية سؤالا يستمد مشروعيته من قيم القانون الطبيعي نفسه. فالمنطق السياسي العلماني وعد بتحقيق السعادة، انطلاقا من حبس الديني «في غرفته» الشخصية؛ لكن السياقات الاجتماعية وما نشهده من حراك مستمر بالغرب، تجعل من النظام السياسي العلماني نظاما مستمر التنظيم، ويساهم فيه فاعلون اجتماعيون وسياسيون، بعض أطراف هذا التشكيل المجتمعي (الأحزاب المسيحية والكنيسة، والمثقفين الإيمانيين..) لا يفصل الدين عن الدولة بالمفهوم الكلاسيكي المعروف على الأقل.
وبالتالي، فإن القول بالعلمانية يستوجب التمييز بين مجالين اثنين:
المجال الأول: نظري واتخذ طابعا فلسفيا واحديا حاول التأكيد عبر أدبياته على إمكانية فصل الدولة عن الدين (وهو شيء لم يتحقق في أي دولة، بما فيه الدول الشيوعية).
المجال الثاني: تطبيقي سياسي، وفيه تم تعديل الطابع الفلسفي المعياري؛ فالدولة العلمانية الفرنسية غير النموذج البلجيكي واليوناني، غير الإنجليزي، وهذا الأخير يختلف عن الأميركي والهندي.
ولا بد كذلك من الإشارة إلى أن نشر التصورات العلمانية منذ عصر الأنوار ترافق مع عملية تمويه معرفية كبيرة، (تناقش حاليا في الفكر الفلسفي الغربي)، تخفي جانب التسلط والإكراه باسم القانون، مورست ضد المجتمع والدين ومؤسساتهما، وكذا تجاه المعتقدات المستقلة عن الدولة. وهذا بدوره شكل تحديا آخر لما تحققه الديمقراطية نفسها من تداول للسلطة؛ حيث يتم النظر للديمقراطية حاليا في النظرية السياسية الغربية المعاصرة، باعتبارها نظرية لا تعبر بتاتا عن حل مطلق. فمهما بلغ تطور الحكم الديمقراطي، فإنه يبقى نظاما سياسيا، ينظم واقعا سوسيولوجيا لا يمكن تحقيق الانسجام التام داخله، باسم المواطنة أو بغيرها.
وفي الوقت الذي أخذ فيه المفهوم العلماني للعلمانية يتطور، ظلت الكتابات العربية تطرحه من زاوية تقليدية متمحورة حول المفهوم نفسه، ومدى انتسابه إلى العلم والعالم، وانطباقه مع الدنيوية... فكانت بذلك عقدة المفهوم مؤشرا على غموض التصور العلماني العربي المعاصر، وعجزه عن تحدي الواقع السوسيوتاريخي، الذي يتقبل التمييز بين الديني والسياسي، والمتصدي لمقولة الفصل بين الدولة والدين، أو بين الدين والحياة العامة للأمة المجتمعية.
وإذا كان الغرب اليوم يتحدث عن ما بعد الديمقراطية (انظر كتابات هبرماس على سبيل المثال) ونزع القداسة عن ماهية العلمانية. فإن ما يلاحظ أن هناك جمودا كبيرا على مستوى فكر العلمانية العربية، سواء «العلمانية السياسية المعتدلة»، أو «العلمانية العقائدية»؛ حيث تكتفيان بتعريفات وطروحات آيديولوجية عامة للسلطة، منقولة في الغالب، تحقق الراحة النفسية، وتعكس رؤية غير دقيقة للموضوع، فغالبا ما نجدها تمثل كل متوهم غير واقع.
وتبعا لذلك يحتاج مصطلح العلمانية وأطروحاته للسلطة، إلى تعريف جديد ومراجعة، على ضوء منظومة القيم المجتمعية العربية الإسلامية، مع تفصيل لغاياته بشكل يحدد المرجعية العليا، والمفاهيم وتطوراتها التاريخية. فواقع الدولة الحديثة يفند القول بأن إشكالية علاقة الدين بالمجال العام متجاوزة في العالم الغربي المعاصر، والدولة الحديثة.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».