أي مستقبلٍ للكتابة في ظل الذكاء الصناعي؟

«ووردسميث» تنتج نصوصها بكفاءة مفصلة إلى حدود النقطة في أجزاء من الثانية

أي مستقبلٍ للكتابة في ظل الذكاء الصناعي؟
TT

أي مستقبلٍ للكتابة في ظل الذكاء الصناعي؟

أي مستقبلٍ للكتابة في ظل الذكاء الصناعي؟

لا يسهل أبداً تقييم التأثيرات المُستقبلية التي قد تأتي بها الثورات التكنولوجية إلى العالم. فمن كان يصدق أن التليغراف سيغير إحساس البشر بالزمن، بعد أن كان خبر هزيمة نابليون في معركة واترلو استغرق شهوراً عدة قبل وصوله إلى آسيا، وأن القطارات التي مُددت لتصل إلى جنوب إيطاليا مع شمالها بدايات القرن العشرين فتحت الباب أيضاً لانتشار مافيات الجريمة المنظمة، وأن السيارة ستصبح سيدة التخطيط الحضري والمديني بلا منازع، وأن تطور الطيران الجوي سيجلب معه إلى جانب فوائد القرية الصغيرة انتشاراً معولماً للفيروسات ليس له مثيل في التاريخ، فوصل «كوفيد - 19» إلى جميع أصقاع الأرض خلال أسابيع قليلة فحسب. ومع ذلك، فإن البشر لا يتوقفون عن اقتراف مزيد من التوقعات حول كل ثورة تكنولوجية جديدة يعيشونها. فهم إما يتصورون تغييرات تنتج عنها في المدى القصير بأقرب مما قد يحتاجه تبلور الأمور، أو يقللون من شأن ما يمكن لتحولات التكنولوجيا أن تفعله في عقد من السنين.
ومع ثورة الذكاء الصناعي التي انطلقت قبل ستين عاماً تقريباً، سارع كثيرون إلى تصور عالم يأتي سريعاً تستغني فيه الآلات المتطورة عن كل جهد بشري، ليتفرغ الناس بعدها إلى قضاء أوقاتهم في التبطل والتثقف. فيما لا يكاد أحد يصدق اليوم ورغم توارد الشهادات عن وجود أنظمة مراقبة متطورة تمتلكها دول كبرى بالفعل، بإمكانها إجراء تطابق في أقل من ثانية واحدة على أي شخص في العالم من خلال بصمة وجهه التي قد تلتقطها كاميرات الطرق أو المعابر ومقارنتها بأي صور سابقة له تتوفر على أي قاعدة بيانات إلكترونية حكومية كانت أو على أي من تطبيقات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
في هذه المنزلة بين التوقع المتسرع والاستيعاب المتأخر يأتي ذلك التطور الذي يجمع بين تعملق سرعة الحواسيب وقدرتها على التعامل مع حجم هائل من المعلومات الذي يمنح منظومات الذكاء الصناعي الجرأة على الاقتراب ملياً من مساحة أخرى طالما اعتبرناها حكراً على صفوة الأفراد ونتاج إبداع لا يمكن تخليقه في الأجهزة: الكتابة. وها هي شركات التكنولوجيا تخترق جدارنا الأخير عبر عدة تطبيقات يمكنها تقديم خدمات «مكتوبة» أدق وأسرع مما يقدر عليه البشر.
الشركة المالكة لـ«غوغل» استحوذت العام الماضي على «جيت باك» وهو تطبيق ذكي قادر من خلال جمع معلومات وصوراً محدثة لحظياً عن الإنترنت من إنتاج دليل للأحياء والمدن والأماكن والحصول منه على معطيات فورية، بحسب بحث القارئ. فإذا كان المستخدم يبحث مثلاً عن مقهى يرتاده الشباب من عمر معين ومستوى اجتماعي ما فسيقدم له أفضل الخيارات الممكنة، وأقرب الطرق إليها، وكل وصف قد يحتاجه لقضاء وقت على قياس مزاجه بما فيها صور وخبرات مرتادين، بعضهم ما زال في المقهى حتى تلك اللحظة، من خلال ما ينقلونه تطوعاً أو غفلة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. والأمر شبيه في كل موضع للاهتمام بالمدينة سواء موقعاً أثرياً أو مسرحاً عاماً أو نادياً للسهر أو مطعماً إثنياً أو سوقاً للماركات المحلية. وهذا يعني بكل بساطة أن صناعة الخرائط السياحية وأدلة السفر الملونة في مئات الصفحات ستنقرض ليس خلال عقد مقبل، وإنما فور انحسار موجة الوباء الأخيرة واستئناف الجمهور العريض فضوله لرؤية طرائق عيش الآخرين.
خطوة «غوغل» تلك جاءت بعد أسابيع فقط من شروع وكالة «أسوشييتد برس» في الاستعانة بتطبيق ذكي لكتابة الآلاف من التقارير والمقالات الفورية عن موضوعات ذات طابع تقني مثل حركة أسواق الأسهم والسندات وإعلانات أرباح الشركات وما قاربها. التطبيق الذي يحمل اسم صائغ الكلم «ووردسميث» ينتج نصوصه بكفاءة مفصلة إلى حدود النقطة في أجزاء من الثانية، الأمر الذي يعني بالمحصلة حصول القراء على التحديثات فور حصولها تقريباً مع الاستغناء شبه الكلي عن تدخل الصحافيين أو المحررين البشريين وإمكان إنتاج التقارير ذاتها بلغات وأنماط ومقارنات مفصلة بحسب حاجات القارئ الواحد إن تطلب الأمر.
وقد يجادل البعض بأن ذلك ممكن ربما في التقارير تقنية الطابع، ولكنه قد يكون قاصراً على مجاراة المعمار اللغوي لكتاب معينين لديهم أسلوبهم المتفرد وقدرتهم على توصيف الأحداث. وهذا نقد مستحق ربما للصيغة الحالية من «صائغ الكلم»، لكن منصة الأنثروبومورفايزد التي طرحتها شركة منافسة قادرة الآن على نشر مواد مكتوبة قريبة من اللغة الطبيعية، وهي تنتج سنوياً عدداً أكبر من التقارير الصحافية التي يدبجها كل الكتاب الصحافيين في العالم معاً وبتكلفة تقل عن 10 في المائة من تكلفة رواتبهم الشهرية. ومع أن أصحاب رؤوس الأموال الذين يستثمرون في مثل هذه التطبيقات يعتبرون أنها تساعد لناحية تحرير كتاب الصحف والمجلات من الأجزاء المملة في عملهم وتمنحهم الوقت والطاقة للتركيز على الجوانب الإبداعية، فإنه لا أحد منهم لديه شكوك في حتمية خسارة قطاع عريض من المحترفين لوظائفهم لمصلحة التطبيقات الجديدة، إن لم يكن اليوم فغداً بالتأكيد.
هذا الغد الآتي سيرتبط بقدرة هذه التطبيقات على التقاط كم هائل من نقاط الارتكاز المعرفية في وقت قياسي من مختلف قواعد البيانات، لتصوغ مقالات محترفة وفق هيكلية معدة سلفاً وبلغة مقبولة للغاية، ربما ليست بمستوى إبداع وليم شكسبير أو أبي الطيب المتنبي، لكنها مع زدياد تنوع البيانات وتراكم تعقيدها، يمكن للخوارزميات في مستقبل منظور أن تبدأ بإنتاج الكتابة ببصيرة تقترب من خيالات البشر، وربما في مرحلة ما - انطلق العمل عليها فعلاً - تجاوزه في مجالات مثل تغطية الحروب والكوارث الطبيعية والمباريات الرياضية وحتى الأنشطة الاجتماعية.
تقوم بعض التطبيقات الذكية الآن بجمع المعلومات عن التجارب الحسية البشرية المحصلة بالحواس الخمس. ولدى شركات التقانة اليوم خوارزميات تحلل الأصوات والموسيقى وتقرأ الصور والتحديثات المكانية والانفعالات والمعطيات البارزة في شكل الوجه أو ردود الأفعال أو صدق الابتسامة، ونوع النشاط الاجتماعي المشترك ويمكنها تالياً كتابة تقرير مفصل حول الأجواء السائدة في معلم جغرافي معين كمطعم أو ملعب لكرة القدم أو شاطئ البحر. وهذه باستطاعتها إنتاج تقارير فورية عن المظاهرات العامة بما في ذلك أعداد الأشخاص وفئاتهم العمرية أو الاجتماعية وهتافاتهم واليافطات التي يحملونها وتطور الأوضاع خلال المظاهرة وأجواء المشاركين فيها وربما تعليقاتهم فيما بينهم عليها في الأيام اللاحقة. وتقوم المؤسسات الإخبارية على نحو مزداد بتجربة الدرونات التي يمكنها نقل الأحداث مباشرة من مواقع أماكن يصعب الوصول إليها من قبل المراسلين، لا سيما أثناء الحروب والاشتباكات. وتجري شركات تقنية أميركية تجارب لجمع معلومات عن السير التفصيلي للمباريات عبر تركيب مجسات استشعار متناهية الصغر تحت ملابس اللاعبين. ويمكن لهذه الأجهزة أن تجمع كماً لا نهائياً من البيانات الفورية عن تقدم الأحداث في اللعبة عبر تتبع حركة اللاعبين وانفعالاتهم «سرعة تصادمهم، وقوة ضربات أقدامهم وهكذا»، مترافقاً مع مسح الأصوات والصور لتنتج مادة ثرية يمكن في لحظتها لتطبيق مثل «صائغ الكلم» تحويلها إلى مقال عاجل للمهتمين يتم تحديثه دورياً بحسب تغير المعطيات، وهو أمر يفوق بالتأكيد قدرة أي مراسل صحافي.
ولتعزيز قدرة التطبيقات مثل «صائغ الكلم» على إنتاج محتوى ذي نكهة شخصية - بنبرة ساخرة مثلاً أو بلهجة محلية أو وفق مصطلحات صناعة محددة - فإن قواعد بيانات هائلة يتم تجميعها حول التعبيرات الساخرة واللهجات المحكية، ومن ثم ربطها بالتعابير اللغوية المستخدمة في ملايين النصوص المكتوبة مسبقاً حول أحداث مشابهة.
لكن، حتى لو وصل الأمر بالأجيال المُقبلة من «صائغ الكلم» وإخوته إلى إنتاج كتابة ساخرة محلية وافية الإلمام بالحدث، فهل سيمكنها في لحظة ما كسر حاجز الإبداع الإنساني الأخير في فضاء تسجيل المشاعر والخبرات الإنسانية الذاتية عبر الرواية والشعر: تجربة الحمل والولادة، وحزن الفقد والموت، ومشاعر الفرح والرغبة، والإحساس بالعجز أمام عبث الوجود؟ نظرياً، ذلك ليس مستحيلاً، وما قد يمنع تَطويره هو حصراً انعدام رغبة رؤوس الأموال للاستثمار في خوارزمية تكتب الرواية أو تنظم الشعر. فتلك بضائع كاسدة في أيامنا، ولا تستحق اهتمام المستثمرين. ولعل كسادها وحده هو ما سينقذ مرتاديها من هجوم الخوارزميات الكاسح على الكتابة: لتظل قلعتنا الرمز الأخير في مواجهة فيضان الأذكياء الآليين عديمي المشاعر.



الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ
TT

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

يعد التغير المناخي من المواضيع المُقلقة والمهمة عالمياً، وهو من الملفات الرئيسية التي توليها الدول أهمية كبرى، حيث تظهر حاجة عالمية وشاملة واتفاق شبه كُلِّي من دول العالم على أهمية الالتزام بقضايا التغير المناخي والاستدامة لحماية كوكبنا للأجيال القادمة.

هذه القضية المهمة عبَّر عنها بعض الفنانين الذين استخدموا الفن لرفع الوعي بالقضايا البيئية. حيث كان الفن إحدى وسائل نشطاء البيئة للتعريف والتأثير في قضايا المناخ والاحتباس الحراري، لاعتقادهم أن الحقائق العلمية وحدها قد تكون غير كافية، ولأهمية التأثير في العاطفة، وهو ما يمكن للفن عمله.

ومن فناني البيئة العالميين الفنان الدنماركي أولافور إيلياسون، الذي عيَّنه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سفيراً للنوايا الحسنة للطاقة المتجددة والعمل المناخي عام 2019م، حيث تركز أعماله المعاصرة والتفاعلية على التعبير عن ظواهر الاحتباس الحراري، وكان أحد أشهر أعماله «مشروع الطقس» الذي عُرض في متحف «تيت مودرن» في لندن، وجذب أعداداً هائلة من الجماهير، إذ هدف هذا العمل التفاعلي إلى الإيحاء للمشاهدين باقترابهم من الشمس، ولتعزيز الرسالة البيئية لهذا العمل ضمِّن كتالوج المعرض مقالات وتقارير عن أحداث الطقس المتغيرة.

المناخ والبيئة

إن التعبير عن قضايا المناخ والبيئة نجده كذلك في الفن التشكيلي السعودي، وهو ليس بمستغرب، حيث يعد هذا الاهتمام البيئي انعكاساً لحرص واهتمام حكومة المملكة بهذه القضية، والتزامها الراسخ في مواجهة مشكلة التغير المناخي، حيث صادقت المملكة على اتفاقية باريس لتغير المناخ في عام 2016، وهو أول اتفاق عالمي بشأن المناخ. كما أطلقت المملكة مبادرتَي «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»، لتسريع العمل المناخي وحماية البيئة وتعزيز التنمية المستدامة. وهو ما يجعل الفرصة مواتية للفنانين السعوديين للمشاركة بشكل أكبر في التعبير عن القضايا البيئية، مما يسهم في عكس جهود المملكة تجاه هذه القضايا ومشاركة الجمهور في الحوار حولها.

فعلى سبيل المثال، عبَّرت الفنانة التشكيلية منال الضويان عن البيئة في عمل شهير أنتجته عام 2020م، في معرض DESERT-X في مدينة العلا، بعنوان «يا تُرى هل تراني؟»، حيث كان العمل عبارة عن منصات تفاعلية للقفز في صحراء العلا، في إيحاء غير مباشر بالواحات الصحراوية والبِرَك المائية التي تتكون في الصحراء بعد موسم الأمطار، لكنها اختفت نتيجة للتغير المناخي والري غير المسؤول، وتأثيره البيئي في الطبيعة من خلال شح المياه واختفاء الواحات في المملكة.

الفن البيئي

كما نجد الفن البيئي بشكل واضح في أعمال الفنانة التشكيلية زهرة الغامدي التي ركزت في تعبيرها الفني على المواضيع البيئية من خلال خامات الأرض المستمدة من البيئة المحلية؛ مثل الرمال والأحجار والجلود والنباتات المأخوذة من البيئة الصحراوية كالشوك والطلح، وكيفية تحولها نتيجة العوامل المؤثرة فيها كالجفاف والتصحر والتلوث البيئي، كما في عملها «كوكب يختنق؟» الذي استخدمت فيه أغصان الأشجار المتيبسة وبقايا خامات بلاستيكية، لمواجهة المتلقي والمشاهد بما يمكن أن تُحدثه ممارسات الإنسان من تأثير بيئي سلبي، وللتذكير بالمسؤولية المشتركة لحماية كوكب الأرض للأجيال القادمة.

إن الفن البيئي لدى زهرة الغامدي يتمثل في نقل المكونات الطبيعية للأرض والبيئة المحلية وإعادة تشكيلها في قاعة العرض بأسلوب شاعري يستدعي المتلقي للانغماس في العمل الفني والطبيعة والشعور بها والتفاعل معها لتعزيز الارتباط بالأرض، فمن خلال إعادة تشكيل هذه الخامات البيئية يتأكد التجذر بالأرض والوطن والارتباط به.

وقد نجد التعبير عن المواضيع البيئية أكثر لدى التشكيليات السعوديات من زملائهن من الرجال، وقد يكون ذلك طبيعياً نتيجة حساسية المرأة واهتمامها بمثل هذه القضايا. وهو ما يثبته بعض الدراسات العلمية؛ إذ حسب دراسة من برنامج «ييل» للتواصل بشأن التغير المناخي، بعنوان «اختلافات الجنسين في فهم التغير المناخي» تظهر المرأة أكثر ميلاً إلى الاهتمام بالبيئة، كما أن للنساء آراء ومعتقدات أقوى مؤيدة للمناخ وتصورات أعلى للمخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية، وقد فسر الباحثون هذه الاختلافات بأنها نتيجة اختلافات التنشئة الاجتماعية بين الجنسين، والقيم الناتجة عن ذلك كالإيثار والرحمة وإدراك المخاطر.

ومع أن الفن استُخدم كثيراً للتوعية بالقضايا البيئية، إلا أن بعض نشطاء البيئة حول العالم استخدموه بطريقة مختلفة للفت النظر حول مطالبهم، مثل أعمال الشغب والتخريب لأهم الأعمال الفنية في المتاحف العالمية، وقد استهدف بعض هؤلاء الناشطين أشهر الأعمال الفنية التي تعد أيقونات عالمية كلوحة «دوار الشمس» لفان غوخ، ولوحتي «الموناليزا» و«العشاء الأخير» لدافنشي. تخريب هذه الأعمال ليس لأنها مناهضة للبيئة بقدر ما هي محاولة لفت النظر نحو قضاياهم، لكن لتحقيق التغيير المطلوب، أيهما أجدى، التعبير الإيجابي من خلال الفن، أم السلبي من خلال تخريبه؟

إن الفن التشكيلي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل له دور حاسم ومؤثر في تشكيل الوعي بالقضايا البيئية، فهو يدعو لإعادة التفكير في علاقتنا بها، والعمل معاً لمستقبل أكثر استدامة. إضافةً إلى دوره بصفته موروثاً ثقافياً للأجيال المقبلة، إذ يسجل تجربتنا في مواجهة هذا التحدي العالمي.

* كاتبة وناقدة سعودية