مايكل أنجلو وفيتوريا كولونا... شاعران عند مفترق طرق

علاقتهما تزامنت مع لحظة انتقال من القرون الوسطى إلى عصر النهضة

من أعمال مايكل أنجلو
من أعمال مايكل أنجلو
TT

مايكل أنجلو وفيتوريا كولونا... شاعران عند مفترق طرق

من أعمال مايكل أنجلو
من أعمال مايكل أنجلو

يعد مايكل أنجلو بوناروتي، المولود في فلورنسا عام 1475، إلى جانب معاصره وابن مدينته ليونارد دافنشي، أفضل تجسيد لعصر النهضة في مجال الفنون التشكيلية. وقد أبدع في حقول الرسم والنحت والعمارة، كماً ونوعاً، ما لم يبدعه أي فنان أوروبي آخر. وما تركه من تأثير على المدارس الفنية التي نشأت بعده في تلك الحقبة لا يجاريه فيه أحد. ففي مجال النحت، يعد التمثالان «داود» (David) و«الحنان» (Pieta) اللذان أنجزهما وهو دون الثلاثين من عمره من أكثر أعماله شهرة. وفي الرسم، تشكل الجداريتان في كنيسة سيستين الأكثر تأثيراً على هذا الفن: الأولى التي تحمل اسم «التكوين» على سقفها، والثانية المعنونة بـ«يوم الحساب» تحتل جدار محرابها. وفي مجال العمارة، يشكل تصميمه للمكتبة اللورنتية تمهيداً لظهور «العمارة الأسلوبية».
ويرى جورجيو فاساري، معاصره كاتب سيرته، أن أعمال مايكل أنجلو تجاوزت أعمال أي فنان آخر، حياً أو ميتا، فهو «الأعظم ليس في فن واحد، بل في الثلاثة».
وعلى الرغم من التقدير الشعبي الرفيع الذي حظي به مايكل أنجلو في فلورنسا وروما وبولونيا، المدن التي أنجز فيها أعمالاً فنية خالدة، فقد كرس كل حياته للفن، مهملاً تماماً نمط عيشه الذي ظل بشكل ما، على الرغم من ثرائه، بائساً. فلم يكن يفكر بالطعام إلا حين يجوع، ويأكل أي شيء متوافر، وغالباً ما كان ينام بملابسه الرسمية وجزمته. وحتى قبل وفاته بست ساعات، كان يعمل على منحوتة، ولم يكن أمامه سوى أسبوعين ليبلغ سن التسعين.

اللقاء بالسيدة فيتوريا
كان مايكل أنجلو في سن الواحدة والستين حين تعرف على فيتوريا كولونا (1490-1547)، أول شاعرة في عصر النهضة تُطبع وتُلحَّن وتُغنى قصائدها على نطاق واسع، التي اشتهرت أولاً بمراثيها المهداة إلى زوجها الماركيز فرانشيسكو دافالوس الذي قُتل وهو يحارب الجيش الفرنسي الغازي لنابولي. وقد اتبعت أسلوب الشاعر بترارك الغزلي في أشعارها، وفيها كانت تعبر عن توقها لتحرر جسدها من عبء الوجود، والارتقاء بروحها للاجتماع بزوجها في الأبدية:
«ليس من الصائب استحضار بارناسوس* أو ديلوس**
فأنا أطمح لعبور مياه أخرى، لصعود جبال أخرى لا تستطيع أقدام البشر تسلقها من دون عون
أنا أتضرع للشمس التي تضيء الأرض والسماء أن تدع سطوعه ينبثق إنه يسكب علي تياراً هوائياً يساوي عطشي الكبير».
وعلى الرغم من قضائها فترات من حياتها في عدة أديرة، فإنها لم تفكر في أن تصبح راهبة. ومنح ترمل الأرستقراطية كولونا المبكر، وغياب الأطفال في حياتها، فرصة للاطلاع الواسع في مكتبة عمة زوجها كونستانزا دافالوس على الموروث الأدبي والفلسفي القديم والسائد في عصرها، ولا بد أنها اطلعت على كتاب «التساعات» لأفلوطين الذي شكل الأساس النظري لكل المدارس الغنوصية العابرة للقارات والثقافات.
وفي المقابل، كان مايكل أنجلو قد تابع دراسته منذ سن الخامسة عشرة في «المدرسة الأفلاطونية» بفلورنسا 3 سنوات، وتأثر عمله ورؤيته للحياة بكثير من فلاسفة وكتاب ذلك العصر. وخلال تلك الفترة، نحت أول عملين له: «سيدة الأدراج» (1490 - 1492) و«معركة القنطورات» (1491 - 1492). ولعل دراسته تلك كانت وراء اطلاعه على الموروث الشعري الممتد من عصر الإغريق فالرومان إلى إيطاليا عصر النهضة، وكانت نقطة انطلاق في تجربته الشعرية، حيث ألف قصائد كثيرة طوال حياته، بقيت 300 قصيدة منها اليوم.
ومن المرجح أن أول لقاء جمعهما كان في روما عام 1536، وكان هو في سن الواحدة والستين، وهي في منتصف الأربعينيات من عمرها. وقد استمرت الصداقة التي جمعته بها أكثر قليلاً من عشر سنوات، حتى وفاتها عام 1547، إذ ظلا يتراسلان ويلتقيان في كنيسة بروما كلما قامت صديقته بزيارة المدينة.
ولا بد أن موضوعات حديثهما كانت تدور حول الفنون والثقافة والفلسفة، فقد كانت تلك الحقبة لحظة انتقال من القرون الوسطى إلى عصر النهضة، حيث كانت أفكار مارتن لوثر الإصلاحية مثار نقاش واهتمام واسعين، قبل عدها «هرطقة» من قبل الفاتيكان.
ولعل أفكار أفلوطين، المولود عام 204 ميلادية في مصر، كانت موضع اهتمام النخبة المتعلمة آنذاك، خصوصاً ما جاء في كتابه الشهير «التساعات». فهو يقول في أحد نصوصه ما معناه أن على القارئ أن يسعى إلى تجميل روحه عبر عملية تشبه النحت.
وكان هذا المنحى أشبه بقانون اتبعه مايكل أنجلو في صنع التماثيل، فقد كان حين يختار الحجم المناسب من الرخام، يفترض أن شخصاً ما يسكن في داخله، وكل ما عليه أن يقوم به هو إزالة الأجزاء الزائدة من الحجر المتراكم فوقه ليخرج إلى الحياة.
وعلى الرغم من الشهرة الطاغية التي كان يحظى مايكل أنجلو بها، فإن فيتوريا كانت هي المهيمنة في العلاقة، ومن الواضح أنها كانت في موقع المرشد الروحي للفنان الأبرز آنذاك، وقد انعكس ذلك في مخطوطة الديوان التي أهدتها إياها، وتضمن 103 قصائد، جميعها ذات طابع ورع، وتوق للقاء بالمسيح الذي تطلق عليه لقب «الشمس»:
«إذا كنتُ أفشل غالباً في اتباع قواعد الحس السليم، والتطلع حولي بعينين مزدريتين، فإني أرفض التنميق أو مسح أشعاري الخشنة غير المهذبة، هذا لأن همي الأولي هو ليس لكسب الثناء بفضلها أو لتجنب الازدراء، ولا كي تستمر أشعاري بعد عودتي المبهجة إلى السماء في العالم حية ومكرَّمة عالياً؛ بل أن تشعل النار الإلهية، من خلال رحمتها، عقلي، وأحياناً تمنح هذه الشرارات نفسها برضاها، وإذا أدفأت شرارة كهذه ذات مرة قلباً رقيقاً فإني مدينة ألف مرة بألف شكر لتلك الغلطة السعيدة».
في المقابل، أهداها مايكل أنجلو 3 رسوم، هي «الحنان» (Pieta) المعروضة في متحف بوسطن، و«الصلب» (Crucifixion) في المتحف البريطاني، وتخطيط «المرأة السامرية تلاقي المسيح» التي ضاعت، لكنها موجودة بنسخ كثيرة.
كذلك ألف أكثر من أربعين قصيدة مكرسة لصديقته، يعبر فيها بوضوح عن عاطفته لها، ومدى أهميتها بالنسبة إلى حياته الروحية. ويتذكر كونديفي، أحد المقربين لمايكل أنجلو، قوله إن أكثر ندم في حياته هو أنه لم يقبّل وجه الأرملة الشاعرة بالأسلوب نفسه الذي كان يتبعه في تقبيل يدها.
هل يمكن القول إن فيتوريا كولونا كانت القرينة التي التقى بها مايكل أنجلو بعد فوات الأوان: الملهمة المرشدة بديل الأم التي فقدها وهو في سن السادسة من عمره؟
كم كان موتها قبله صدمة في حياته، واجهها بتكريس كل السنوات التي عاشها بعدها لفنه، ومواصلة تأليف قصائد، بعضها مُهدى لها:
«عالياً فوق نفسي سيدتي، تجعلينني أرتقي، كذلك فإن الكلام والتفكير يخذلانني إذن، لماذا إن منحتني جناحين لا أصعد ولا أطير صوب وجهك الجميل؟
ولماذا لا أستطيع البقاء معك إذا منحتنا السماء الحق بدخول الفردوس بثوب جسدينا الفانيين؟».

ثلاث قصائد لمايكل أنجلو
مهداة لفيتوريا كولونا
رجل ضمن امرأة، أو بالأحرى إله يتكلم عبر فمها، لذلك فأنا، باستماعي إليها، أُعِيدَت صياغتي إلى الحد الذي لن أكون فيه أبداً نفسي ثانية.
أنا أؤمن، لكوني استُلِبتُ من نفسي على يدها، بأني سأشفق على نفسي لأني خارج نفسي؛ وجهها الجميل يدفعني بعيداً جداً إلى ما وراء الرغبة العابرة إلى الحد الذي أرى الموت في أي جمال آخر.
أيتها السيدة التي تمرر الأنفس عبر النار والماء إلى أيام البهجة:
أتضرع، ألا تجعليني أعود إلى نفسي ثانية.
***
فقط كما هو الحال، أيتها السيدة، فإنه عند الإزالة، يضع المرء
في حجر صلب شاهق صورة حية فتبدأ هذه الصورة بالتنامي بالضبط، في المكان الذي يبدأ الحجر فيه بالتناقص، لذلك فإن الزيادة التي هي لحم المرء نفسه بقشرته الخشنة الجافة الصلبة، تخفي في النفس قدراً من الأعمال الصالحة التي ترتعش تحت هذا العبء.
أنتِ وحدك قادرة على إزالة ذلك الركام عن قوقعتي الخارجية، لأني لا أملك الإرادة أو القدرة لتحقيق ذلك.
***
بعد سنوات ومحاولات كثيرةيحول الفنان الحقيقي، عاجلاً أم آجلاً، فكرة لامعة إلى صورة حية على حجر صلب وأبيض وحين يكون قريباً من الموت: تصبح إمكانية
نحت ما هو جديد أصيل متأخرة فهو يبقى موجوداً ولكن لفترة قصيرة.
كذلك هو الحال مع الطبيعة: ذروة الجمال الذي تحوزه عبر وجهك المقدس كالتجربة والخطأ عبر الزمن، صورة فوق أخرى حتى النهاية، لذلك فالخوف الملازم للجمال يتغذى على توقي لنكهات غريبة، لكني لا أعرف ما إذا كانت رؤية وجهك بهذا الجمال تؤذيني أكثر من نهاية العالم، أو تمنحني فرحة كبرى.

* بارناسوس: جبل في اليونان تعده الأساطير الإغريقية المكان الذي تسكن فيه ربات الإلهام.
** ديلوس: جزيرة في اليونان تعدها الأساطير الإغريقية المكان الذي ولد فيه أبولو إله الفنون.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!