أنْ يدنو الروائي من الواقع دنواً يكشف كل خفاياه بأناة، ويعرض كل التفاصيل بلا نسيان، ويضع النقاط على الحروف، تعلقاً بالظواهر والمغيبات، فذلك يعني أنه أمسك تخييلياً بتلابيب هذا الواقع وجعل ما فيها من التعقيد والانفلات ميداناً خصباً للسرد ومادة شائقة للبحث والتفكير، ميسورة في الفهم والتقدير. وليس كل واقع يمكنه أن يرتفع بالعمل السردي موضوعياً وشكلياً، كما أن ليس كل متخيل يمكنه أن يلاحق تعقيدات الواقع ما لم يكن هذا المتخيل بمستوى اشتباكات الواقع الحياتية.
وإذا كان هذا الواقع الذي يراد تصويره سردياً ما زال معيشاً ولم ينصرم بعد، بكل ما فيه من الغرابة والسوداوية؛ فإن الكتابة السردية عنه ستكون بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النتائج. والأمر ليس متعلقاً بالقدرة التخييلية على التفكير في هذا الواقع؛ وإنما هو بالقدرة الفكرية على تسريد تراجيديا هذا الواقع.
صور دموية
لقد عاش العراقيون مثل هذا الواقع إبان غزو الكويت مطلع تسعينيات القرن العشرين، فكان انتهاء حرب عاصفة الصحراء رهيباً وبسببه تحولت الحياة في طرفة عين من هول الصرامة والانضباط إلى فورة التمرد والانتفاض وبكل ما رافقها من عنف وقسوة حتى تساوى بطش السلطة مع بطش مناوئيها.
ورغم أن الانتفاضة لم تدم أكثر من شهر، فسميت مرة بالشهر الهجري (الانتفاضة الشعبانية) ومرة باسم الشهر الميلادي (انتفاضة آذار)، فإن ما تركته من صور دموية يكاد يجعل عمر هذه الانتفاضة بالمحصلة عقوداً إن لم نقل قرناً بكامله. والسبب ما عم الحياة آنذاك من مشاعر مدمرة اختلطت فيها البهجة بالاقتصاص، والحرية بالثأر؛ فكانت مشاهد الاغتيال والنهب والسلب سائدة، وصارت الساحات الفارغة مقابر وقتية ومجازر جماعية، وتعطلت الحياة المدنية بتصدع البنى التحتية للحياة الاجتماعية عامة.
غامر الروائي العراقي فاروق السامر لتجسيد هذا الواقع في روايته «أعراس النازية» الصادرة عن «دار شهريار» 2020 وفيها عايش الواقع الدامي داخل مدينته البصرة التي تحولت خلال أيام الانتفاضة إلى ثكنة مصغرة للإخبار والوشاية ومعقلاً للتأديب والاقتصاص ومقبرة وقتية للموت المجاني ومتاهة مفتوحة المداخل والمخارج للفرار من المراقبة والمعاقبة مما سماه فوكو «التذويت» كشكل جمالي وخلقي يقع فيما وراء المعرفة والسلطة.
وقد حرص الكاتب على تسجيل ما ورائية هذا الواقع بكل ما فيه من عنف وشغب في تصفية الحسابات وارتكاب الاغتيالات وفق بناء سردي دائري ينتهي فيه السارد عند النقطة نفسها التي بدأ منها، مبئراً سرده تبئيراً داخلياً، فيه هو بطل مشارك تارة، ومجموع سارد تارة أخرى مع حوارات مونولوجية تتداعى على لسان السارد بضمير أنا الراوي الغائب. وعادة ما يضعها الكاتب بين قوسين كبيرين، مبتكراً بروتوكولاً سردياً خاصاً به، تعمد اتباعه معبراً من خلاله عن انطحان الإنسان العراقي بالواقع الدامي تسجيلياً وتخييلياً معاً، وكالآتي: الاستعاضة عن تسمية الشخصيات بالتعريف لها وصفياً فقط (الرجل ذو الشهداء الأربعة/ الرجل صاحب اليد الواحدة/ الرجل ذو الطفل الميت/ المرأة وطفلها الساهم) في إشارة إليغورية إلى أن هذه الشخصيات لا تاريخ لها، ولا هويات، وهي تسلك سلوك القطيع وتتخلق بأخلاقه، ومركزة الساحة/ المقبرة المؤقتة كبؤرة مكانية تتحكم في تحبيك السرد، وبالشكل الذي يجعل الزمان مهمشاً، وهو الذي له في الروايات الواقعية الأولوية. ومن دلائل المركزة المكانية ما اعتاده السارد/ الدفان من التلفت نحو الساحة بتكرار العبارات (ناظر إلى الساحة الفارغة/ تفقد الساحة عن كثب/ أطلع ذاهباً صوب الساحة/ أتجول بالقرب منها) مهندساً بذلك بانوراما خريطة سردية موجوداتها جثامين أفراد فارين ومسحولين ومخطوفين ومعدومين وضائعين مغيبين، وكذلك من خلال تضادية البطل مع نفسه، وهو يعيش داخلياً ضغط المراقبة والعقاب بعيون متخفية جاحظة مترصدة وأشخاص متخفين، شاعراً أنه واقع تحت الإقامة الجبرية «كنت أشعر بوجودهم الدبق الملحاح الشبيه بدبق الذباب، وأرى ظلالهم منعكسة هنا وهناك، وأكتشفهم بفراستي ولكن دون بصمات واضحة ودون كيانات منظورة أنهم ليسوا سوى ظلال وأشباح» (الرواية، ص22)، بينما يمارس ظاهرياً الانفلات والاكتساح بالاستبداد والقمع والمراقبة والعقاب والإقصاء والتهديد كانعكاس لجدل التحولات الصادمة من جراء تعادل سلطة المنتفضين مع سلطة الدولة.
وجعل الروائي القصاص وظيفة معممة تجعل سلطة العقاب في يد الفرد وهو يواجه المجموع، وأيضاً في يد المجموع وهو يواجه الفرد، مرمزاً إلى حقيقة عدم تكافؤ الصراع في امتلاك الحق الاجتماعي في العقاب، حيث الفرد هو المواطن بقدر ما هو العدو. فلا تعود سلامة الدولة من سلامة المواطن بل سلامة الوطن من سلامة المجتمع الذي يدافع عنه من أي اعتداء أو إجرام.
وعن ذلك يقول ميشيل فوكو: «إذا سمح للناس بأن يروا أن الجريمة يمكن أن يغفر لصاحبها، وأن القصاص ليس هو تابعها الضروري؛ فإننا نغذي فيهم الأمل بعدم الاقتصاص فلتكن القوانين صارمة لا ترحم، وليكن المنفذون في منتهى الصلابة» (كتابه: المراقبة والعقاب، ص120).
وكانت الأجساد عمياء متلاحمة ومتشابكة كموضوع وهدف للمتلصصين الذين فيهم تتلاقى الفوضى والانضباط، ناظرين إلى مخالفيهم على أنهم خونة وزنادقة، وأن الواجب يقضي سحقهم سحقاً ومعاقبتهم بالمجازر المهولة التي تتكرر مع مشهد المركبة السوداء الطويلة التي تحمل على ظهرها دوشكا، وهي تلقي بمجموعة من الرجال القتلى على الرصيف وتصلي أجسادهم المرمية برصاص بنادق ثم تفر من المكان، ثم يقابل السارد هذا المشهد الدامي بمشهد المؤسسة الأمنية، وهي توجه أوامرها السرية لرجالها ومخبريها بضرورة التغلغل بين صفوف الناس المدنيين لشرذمتهم وزرع الريبة والشكوك في صدورهم.
وهكذا انتشرت الإعدامات والمقابر الجماعية، وهذا ما جعل السارد يسمي هذه المشاهدات المتقابلة بـ«الأعراس الدامية»، ولأنها شبيهة بالأعراس النازية عنون الكاتب روايته بها لتكون عتبة ناجحة للولوج إلى المتن.
إن التلصص والعقاب يجعلان العلاقات الإنسانية مقطعة بالخوف من الموت وجنون العنف وعصابية الكآبة وتكون النزعة الانفلاتية هي المسيرة للحشود الجماهيرية التي تتبع غريزتها، وهي تتراكض بشكل هائج، والفرد فيها مقود كالأعمى والأصم، ومنجر من غير وعي لأناشيد الحشود وهتافاتها وخطبها النارية ومسيراتها وراياتها وطبولها بلا ذعر أو خوف: «كانت الجموع الغاضبة مندفعة اندفاعاً مروعاً وهم يسحلون بحبل قد شد بإحكام وضراوة حول رقبة واحد من الأزلام وهم يصيحون ويخطبون ويرددون الهتاف تلو الهتاف ليسقط الطغاة الويل للقتلة» (الرواية، ص 49).
ولقد كان الكاتب فاروق السامر ذكياً حين جعل سارده مبتور الذراع، نائياً به عن النزعة الثأرية، ومحملاً أفعاله أبعاداً أخلاقية، واقفاً به موقفاً وسطاً وعلى مسافة مناسبة من الخضوع لمراقبة السلطة البوليسية من جانب وفوضى مناوئيها من جانب آخر، كما كان الكاتب محايداً في معالجة الأحداث وهو ينظر إلى طرفي المعادلة، رائياً الانتفاضة مغامرة خطيرة، موجهاً نقده إلى أخيه الذي جعل الناس تندفع مع أنه كان عارفاً بالمآل الخطير الذي ينتظرها بسبب عدم توفر قيادة ميدانية أو روحية لها.
وإذا يقرر البطل السارد في ختام الرواية كتابة سيرة مكانية، فإنه إنما يذكرنا ببداية روايته وفيها هندس هذه السيرة بطريقة دائرية، فيها الأمكنة مثل الأزمنة تعيد نفسها بصورة لا متناهية، مؤدياً مسؤوليته الأخلاقية في تسجيل ما حدث تخييلياً، «عليك أن تكتب عما يحدث الآن وما يجري من أمور فنحن نفتقد إلى من يؤرخ ذلك». (الرواية، ص250).