«في ضوء ما نعرفه» للبنغلاديشي ضياء رحمن... عين ثالثة لرؤية العالم

«الهوامش الثقافية» تحقق إنجازات روائية نوعية غير مسبوقة

ضياء حيدر رحمن
ضياء حيدر رحمن
TT

«في ضوء ما نعرفه» للبنغلاديشي ضياء رحمن... عين ثالثة لرؤية العالم

ضياء حيدر رحمن
ضياء حيدر رحمن

يمكن للقارئ المتمرس في قراءة خريطة الرواية العالمية أن يلحظ حقيقة أحسبها صارت واضحة تماماً؛ وهي أن الروائيين المنتمين إلى بلدان تُوسَم في العادة بأنها «هوامش ثقافية» (طبقاً للنظرية الكولونيالية الكلاسيكية)، صاروا يحققون إنجازات روائية نوعية غير مسبوقة حتى بالنسبة لأهم روائيي المراكز الثقافية للعالم الأول. ولهذه الظاهرة أسبابها الكثيرة؛ لعل أهمها ثراء الخبرات البشرية التي يكتسبها الكُتّاب المنتمون لهوامش ثقافية؛ بسبب مؤثرات المنفى، واللغة، ومخزون الذاكرة المتفاعل مع بيئات جديدة.
أحدُ هؤلاء الروائيين ضياء حيدر رحمن؛ البنغلاديشي الذي يصف نفسه بأنه وُلدَ في «ركن من أحد الأركان القَصيّة المنسية في العالم». هاجرت عائلة رحمن إلى بريطانيا وهو لم يزل صغيراً بعدُ؛ حيث سكنت أول الأمر في مبنى صغير مهجور، وعمل أبوه سائق حافلة في حين عملت أمه خياطة. يصف رحمن حياته في مطلع شبابه في بريطانيا بقوله: «نشأتُ في الفقر وسط أسوأ الظروف التي يتخيلها المرء في بلد يوصف اقتصاده بالمتقدم». أبدى رحمن تفوقاً واضحاً في دراسته؛ الأمر الذي أهّله للالتحاق بكلية «باليول» في جامعة «أكسفورد»؛ ومنها حصل على مرتبة الشرف الأولى في الرياضيات، ثم واصل دراسته المتقدمة في الرياضيات والاقتصاد والقانون في جامعات «ييل» و«ميونيخ» و«كامبردج»... عمل بعدها لفترة وجيزة في قطاع الاستثمار بمصرف «غولدمان ساكس» في نيويورك، قبل أن ينصرف للعمل محامياً للشركات المالية، ثم في حقل حقوق الإنسان العالمية، وركز في هذا الحقل على موضوعة الفساد المتفشي في أفريقيا.
نشر رحمن روايته الأولى «في ضوء ما نعرفه (In The Light of What We Know)» عام 2014، ونُشرت ترجمتها العربية حديثاً عن «دار الجمل» بترجمة أنيقة أنجزها الدكتور علي عبد الأمير صالح؛ المعروف بغزارة ترجماته وتنوعها وانفتاحها على أطياف واسعة من الموضوعات، وشمولها جغرافيات متنوعة من عالمنا. ربما علينا الإشارة إلى أن هذه الرواية تُرجمت إلى لغات عديدة، كما لقيت إطراءً نقدياً من جانب نقاد مميزين، أذكر منهم: الناقد جيمس وود الذي كتب عنها في مطبوعة الـ«نيويوركر»، والروائية جويس كارول أوتس التي تناولت هذه الرواية بمادة نقدية ممتازة في مراجعة «نيويورك» للكتب.
رواية «في ضوء ما نعرفه» رواية ضخمة تقاربُ الستمائة صفحة، ويمكن وصفها - بطريقة الاستعارة المجازية - بأنها «رواية كل شيء»؛ فهي نزهة فكرية تستلهم مقولة كيركيغارد: «الحياة لا يمكن فهمها إلا بالنظر إلى تاريخنا؛ لكن المعضلة فيها هي وجوب عيش ما سيأتي منها»، وواضح من هذه المقولة أنها تستبطن ثنائية متعارضة: فهم الحياة المعيشة لا يأتي في اللحظة الراهنة؛ بل يأتي من الماضي، وربما وحدهم الرؤيويون أو أصحاب المواهب الخاصة هم من يستطيعون فهم المقبل بطريقة مؤثرة.
يقوم هيكل الرواية على مقاربة مباشرة، لكنها معقّدة في الوقت ذاته: يصلُ بطل الرواية (وهو ضياء نفسه، كما تدل شواهد الرواية) إلى منزل السارد في كينسنغتون عام 2008، وهو محبط، مفلس، ليس له إلا قصة خاصة به ليحكيها. كان الصديقان القادمان من جنوب شرقي آسيا قد وطّدا أواصر الصداقة بينهما عندما كانا طالبَي رياضيات في «أكسفورد»، وهناك (أي في «أكسفورد») تلاشت التشابهات بينهما، في حين انبثقت الاختلافات بدرجة كبيرة.
تقود الحياة المميزة - المطبوعة بخصيصة كوسموبوليتية - السارد (الذي نشأ وسط عائلة باكستانية أكاديمية) إلى بيئات أكاديمية نخبوية: «إيتون»، «برينستون»، أكسفورد، ثم إلى عالم المشتقات المالية والتعامل مع الرهون العقارية عالية المخاطر في مصرف استثماري، وقاده النجاح الصاروخي في هذه المهنة ليكون مثالاً للنجاح في عصر السياسات المالية المستحدثة في العالم النيوليبرالي المتغوّل، ثمّ صار المثالَ الكريه للسقوط المدوّي إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008.
صديق السارد؛ بطل الرواية «ظفار»، نشأ في كنف والدَين مسلمين في عائلة بنغلاديشية ذات أصول فلاحية هاجرت لبريطانيا، ثمّ صار ظفار رياضياتياً لامعاً، ومكّنته قدراته الرياضياتية التحليلية الرفيعة من شقّ طريقه إلى «وول ستريت»، ومن ثَم العمل القانوني الخاص بحقوق الإنسان.
الرواية - على ضخامتها - في جوهرها سرد للملاحظات التي سجلها السارد، والتي نجمت عن مناقشات مستفيضة استمرت ثلاثة أشهر أتيح فيها للسارد معاينة دفاتر يوميات «ظفار» التي طفحت بشعور الاغتراب والغضب واليأس؛ وبهذا يمكن حسبان الرواية توليفة كولاجية من حكايات واستطرادات متشظية وتأمّلات. نقرأ في الرواية عن موضوعات المنفى والوطن... الاجتثاث من الجذور، والانتماء إلى مكان النشأة الأولى... الاستعمار وما بعد الاستعمار... الرياضيات والفن... الإيمان والشك... الشرق والغرب... الجغرافية السياسية والاقتصاد النيوليبرالي... أميركا وأفغانستان... الأغنياء والفقراء... المحرومين والأقوياء المتمكّنين... المهاجر الذي صار بريطانياً والبريطاني الأصلي... واشنطن وكابل... لكنّ الموضوعة (الثيمة) التي تتقدم على كل شيء وتطغى على كل شيء هي العِرْق والطبقة. تكشف لنا هذه الخريطة الفكرية لموضوعات الرواية جانبها الملحمي وأنها «رواية أفكار (Novel of Ideas)»، وقد ساهم الجهد الدؤوب للروائي في تعزيز الرواية بتضمينات من «المُعْتَمَد (Canon)» الثقافي الغربي، فضلاً عن الشروحات والهوامش المستفيضة في تأكيد أنها «رواية أفكار» مميزة.
جاءت رواية «في ضوء ما نعرفه» مصداقاً لرواية مدهشة تفتحُ أمام العقل الغربي نافذة لرؤية عالم جديد، وهي بهذا التوصيف تؤكد ملاحظة الروائي «في. إس. نيبول»، الحائز جائزة «نوبل» في الأدب، عندما كتب أن الأدب الهندي (وأدب جنوب شرقي آسيا بعامة) المكتوب بالإنجليزية أدب يبعث على الإدهاش؛ إذ لم يحصل في التاريخ الأدبي أن كتب روائي رواية عن شعبه لكي يقرأها شعب آخر (أي بمعنى لكي يقرأها الغربيون). الحق أن هذه الرواية بمثابة عين ثالثة نرى بها العالم؛ سواءً أكان القراء غربيين أم سواهم. إنها تجربة تخص الوجود البشري أينما كان.
رواية «في ضوء ما نعرفه» عمل يجعلنا قادرين على فهم العقد الماضي من القرن الحادي والعشرين بكل صراعاته الجغرافية - السياسية، والكيفية التي اختبر بها الأفراد ضعيفو المقدرة هذه الصراعات وآثارها المعقدة في حيواتهم. أظن أن تجربة رحمن الحياتية تتماثل إلى حد بعيد مع تجربة إدوارد سعيد؛ الذي كان هو الآخر أحد المفكرين اللامنتمين لرهط الإنتلجنسيا العالمية، ويكمن عنصر المماثلة الفكرية بين الاثنين (رحمن وسعيد) في أنهما عاشا تجربة منفى فريدة؛ فقد كان كل منهما يفكر بلغة ويكتب بأخرى.
هذه الرواية تتطلب عقلاً شغوفاً بالأفكار وملتحماً بالمعضلات الوجودية الكبرى في العالم، وأعتقد أننا سنشهد في السنوات المقبلة سيلاً مُتعاظماً لهذا النوع الأدبي من الروايات.



معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)
الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)
TT

معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)
الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)

ما إنْ تدخُل معرض «المجهول» للفنان التشكيلي المصري أحمد مناويشي، حتى تستوقفك وجوه لوحاته، بريشة حرّة تستكشف ملامحَ وأحداثاً غامضة. أعماله تبحث عن مشاعر عميقة وعلامات استفهام تحضّك على التحليل وفكّ الألغاز.

ينقسم معرض مناويشي في غاليري «آرت ديستريكت» بمنطقة الجميزة البيروتية إلى قسمين، من بينها ما يروي حكايات أشخاص اختبأت مشاعرهم تحت الأقنعة الواقية من جائحة «كورونا»، وأخرى رسمها حديثاً لمَن عاشوا الحرب الأخيرة في لبنان.

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)

مع هذا المعرض، يستعيد غاليري «آرت ديستريكت» عافيته. فالحرب منعته قسرياً من إقامة نشاطات ثقافية. ومن خلال «المجهول»، يعلن صاحبه المصوّر الشهير ماهر عطّار انطلاق الموسم الفنّي في الغاليري.

في الجزء الأول من مجموعة أحمد منشاوي، تصطفُّ سلسلة لوحات صغيرة، تصوِّر جميعها وجوهاً يعتريها القلق. فالفنان المصري لفتته ملامح الإنسانية في زمن «كورونا». كان يرى الإنسان يمشي مرتدياً القناع خوفاً من الإصابة بالعدوى. وهو ما حضَّه، خلال إقامته في بروكسل، على تخيّل ملامحه الأصلية. وفي 30 لوحة يئنُّ أصحابها تحت وطأة أحاسيسهم، يُترجم أفكاره. مجموعة من النساء والرجال تصرخ بصمت، فتُخرج غضبها وقلقها وحزنها عابسةً في معظم الوقت.

تقنيته المرتكزة على الأكليريك تتدخَّل فيها أحياناً أنامل الفنان بعيداً عن ريشته (الشرق الأوسط)

يوضح مناويشي لـ«الشرق الأوسط»: «بدأتِ التجربة عندما كنتُ في بروكسل عام 2021. كانت مفاعيل الجائحة لا تزال تسيطر على حياتنا. جميعنا اعتقدنا بأنّ هذه الحقبة أبدية، كأنَّ سوادها لا حدود له. فرحتُ أتخيّل الناس الذين أراهم كأنهم خلعوا أقنعة الوقاية ورسموها. جميعهم كانوا مجهولين بالنسبة إليّ، ولا تربطني بهم أي علاقة. عندما عدتُ إلى لبنان، انتابتني الأحاسيس عينها. كانت الحرب محتدمة، وكان الناس قلقين، لا يعرفون مصيرهم. فرأيتُ بوضوح المجهول الذين يتخبَّطون فيه. حالة الترقب هذه حرّضت ريشتي على التحرُّك من جديد. ومن خلال تلك الحالتين، تناولتُ موضوع (المجهول)، إنْ من ناحية المشاعر أو المصير».

الإحساس بالتأرجُح في طريق لا رؤية واضحة لنهايتها، يُترجمه أحمد مناويشي. ويعترف من خلال ريشته بأنّ الانتظار مخيف، فكيف إذا كانت الأجواء التي يعيشها الناس غامضة؟

تحمل وجوه لوحات مناويشي أسئلة مختلفة تتعلّق بقلق المصير (الشرق الأوسط)

في واحدة من لوحاته، يشير إلى شخصيات مجموعة «أنونيموس» العاملة في مجال «النضال» عبر الاختراق البرمجي. راجت أعمالها المثيرة للجدل عام 2003، فمثَّلت مفهوماً لمستخدمي الإنترنت المجهولين. حينها، عَبَروا من العالم الواقعي إلى الوهمي في أعمال تتعارض مع الرقابة. اخترقوا مواقع حكومية عدّة، وأنظمة كومبيوتر أهم شركات الحماية. وولَّدوا «بلبلة» على أصعدة مختلفة، وهم يرتدون أقنعة تُعرَف بـ«جاي فوكس».

يتابع الرسام المصري: «قناع (الأنونيموس) كان الأشهر في القرن الحالي، فرغبتُ بالربط بينه وبين عنوان معرضي، لتُولد هذه اللوحة الوحيدة عن تلك المجموعة. مبدأ هؤلاء يرتكز على الثورة ورفض حُكم الدولة العميقة والسلطات العليا».

لم يعنون مناويشي لوحاته بأسماء معيّنة، فتركها مجهولةً. يقول: «رغبتُ في أن يسمّيها ناظرها كما يشتهي. أرنو إلى هذا التفاعل المباشر بين المُشاهد واللوحة». وهو يميل إلى المدرسة التعبيرية في الفنّ التشكيلي: «أحبُّ حالة الحركة في لمسات اللوحة وموضوعها، وأرغب في التواصل معها القائم على الشعور بأنها حيّة، فلا تكون باهتة تمرّ من دون تَرْك أثرها على ناظرها. لذلك، تسير ريشتي بشكل غير مُنتظم باحثةً عن نَفَس لا ينقطع؛ ومرات تتدخَّل أناملي مباشرة، فأبتعدُ عن ريشتي لتخرُج أعمالي من رتابتها، وتكسر تلك القدرة على التحكُّم التقليدي بمشاعر مُشاهدها».

تؤلّف الألوان التي يستعملها مناويشي حالةً بذاتها. فهو جريء باختيارها زاهيةً مرّات؛ ودافئة أخرى. يُحدِث زوبعة بألوان تبدو ثائرة، فتُعبّر عن الظلم والقلق والعنف: «مشاعر الإنسانية لا يمكن حصرها في بوتقة واحدة. وهذه الألوان تعبّر عن المشهدية المدفونة في أعماقنا، فتُبرز التنوّع في أحاسيس تنتابنا وفيها كلّ الاحتمالات. وهنا يأتي دور المتلقّي الذي يرى اللوحة من وُجهة نظره، ويُلاقي ما يمثّل تفكيره ومشاعره في أحد هذه الألوان».

ينقسم «المجهول» إلى قسمين من الأعمال التعبيرية (الشرق الأوسط)

في قسم لوحات الحرب، تأخُذ أعمال الرسام أحمد مناويشي منحى آخر، فيكبُر حجمها بشكل ملحوظ لتضع تفاصيل الوجه تحت المجهر. يعلّق: «هذه المساحات الكبيرة تزوّدنا بفرصة للتوضيح بشكل أفضل. فالعبور من زمن (كورونا) إلى زمن الحرب، كان لا بدَّ أن يحمل التطوّر. واعتمدتُ هذا التغيير؛ لئلا أقع في التكرار والتشابُه».

وأنت تتجوَّل بين أقسام معرض «المجهول»، تستوقفك ملامح وجه رجل حائر، ووجه امرأة تنظر إلى الغد بعتب. وأحياناً تلمس صلابة وجه آخر على شفير هاوية. وفي أخرى، تحملك ملامح رجل تلقّى صفعات الحياة بعينين حزينتين. لكنَّ جميع الشخصيات لا تبدو مستسلمة لقدرها، كأنها تقول: «وماذا بعد؟» على طريقتها.

يبرُز العنصر الأنثوي بوضوح في مجموعة «المجهول». وهنا كان لا بدَّ للرسام التشكيلي أن يعترف: «النساء لا يعرفن إخفاء أحاسيسهن ببراعة. مشاعرهن تخرج بقوة. لذلك نكتشفها بصورة أسهل من تلك الموجودة عند الرجل. فالأخير يحاول أن يُظهر صموداً تجاه مشاعره. ويفضّل ألا تُقرأ بسهولة».

يؤكد أحمد مناويشي أنه لا يحبّ تقييد نفسه بأسلوب رسم واحد. ويختم: «أفضّل التنويع دائماً، وعدم طَبْع لوحاتي بهوية واحدة كما يحبّ بعضهم. أُشبّه نفسي بروائي يؤلّف القصص ليستمتع بها القارئ، فلا يكرّر نفسه أو يقدّم ما يتشابه. ما أنجزه اليوم في عالم فنّ (البورتريه)، لم أقاربه مِن قبل. هو نافذة للتعبير. وهذا الاختلاف في الأسلوب يُحفزّني على دخول مدارس فنّية مختلفة. ما يهمّني هو تقديمي للناس أعمالاً يستمتعون بها فتولّد عندهم حبَّ الاكتشاف».