«النسوية البيضاء»... دعوة ملحة لإعادة نظر جذرية

الناقدة الثقافية الأميركية كوا بيك تشن هجوماً عنيفاً على الحركة في الغرب

مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»
مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»
TT

«النسوية البيضاء»... دعوة ملحة لإعادة نظر جذرية

مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»
مظاهرة لحركة «أنا أيضاً»

لو اكتفينا من المعرفة بما يُقدّم على وسائل الإعلام الغربيّة بشأن أوضاع النساء، لاعتبرنا العقد الماضي بمثابة عصر ذهبيّ، إذ هناك اليوم أعداد أكبر من النساء تتبوأ مختلف المواقع القياديّة في معظم الأنظمة السياسيّة الغربيّة، وترشحت سيّدة لمنصب رئيس الولايات المتحدّة قبل بضع سنوات، وتشغل سيّدة منصب نائب الرّئيس الحالي هناك، ناهيك من عجقة الوزيرات والنائبات والقاضيات والسفيرات في مختلف الدّول الأوروبيّة، مع نسب تمثيل لهنّ في الجامعات ووسائل الإعلام وبعض المهن ومجالس إدارة الشركات تعتبر الأعلى تاريخياً في العصور الحديثة. فإذا أضفنا لذلك تلك الثرثرة التي لا تنتهي في مؤتمرات تمكين المرأة، وسياسات «الكوتا» النسائيّة التي تفرضها بعض الجهات غير الحكوميّة، وقرقعة حراك الـ(MeToo#) في قلب هوليوود، لظننا أن شعار «المستقبل أنثى» قد تحقّق بالفعل، ولم يتبقَّ سوى أن نحتفل معاً بانتهاء معركة الحركة النسويّة -وهي التي انطلقت منذ مائة عام تقريباً- بالانتصار.
ولكن عن أي نساء نتحدّث؟
هذا السؤال تحديداً ما تجيب عنه الصحافيّة الناقدة الثقافيّة الأميركية كوا بيك، في كتابها الجديد «النسويّة البيضاء» (White Feminism) الذي أثار جدلاً في الأوساط الإعلاميّة والثقافيّة الأميركيّة منذ صدوره قبل أسابيع، وتشن فيه هجوماً مباشراً على الحركة النسويّة بالغرب، إذ تفكك ارتباطها الطبقي والعرقي بالمنظومة البطريركيّة القائمة، وتدعو النّساء المتمتعات بالامتيازات لإعادة نظر جذرية فيما انتهت إليه حركتهن: أقرب لعلامة تجاريّة أخرى من ترسانة أسلحة الرأسماليّة موجهة حصراً لاستقطاب هوى مجموعة مستهلكات من النساء الغربيّات ذوات البشرة البيضاء، المرتاحات اقتصادياً السّاعيات لإثبات وجودهّن، وتحقيق ذواتهن الفرديّة، في عالم كأنّه من صنع الرّجال، وعلى مقاسهم.
بطبيعة الحال، ليس مفهوم «النسويّة البيضاء» بحديث الولادة، وقد سبق أن طرحه باحثون وباحثات في معرض نصوص أكاديميّة منذ أكثر من عقد، لكن فرادة المؤلَف الذي نشرته بيك يضع المسألة في سياق نص قريب من الثقافة اليوميّة، بقلم إعلامية متميّزة عملت -وتعمل- في مواقع عدة لدى أهم بيوتات الصحافة التي تخاطب النساء الغربيّات (مجلّة فوغ، ومجلّة كوزموبوليتان، وموقع تشيزبيل الإلكتروني النّسوي، وغيرها)، ويعكس ملامح من تجربتها الشخصيّة، بصفتها أميركيّة ذات أصول مختلطة قُبلت بداية في قلب المنظومة الإعلاميّة استكمالاً للتنوّع الشكلي المحض الذي درجت المُؤسسات الغربيّة على استعراضه في السنوات الأخيرة عبر فرض كوتا (ربّما سريّة) لضمّ عدد محدود من أبناء الأقليّات العرقيّة إلى صفوفها، لكنّها سرعان ما وجدت أن كل محاولة منها لاقتراح مزيد من التغطيات حول حقوق عاملات المنازل مثلاً، أو كيف تعاني الأمهات العازبات من الفقر المحتّم، أو كيف تضاعفت أعداد النساء المسجونات من فئات عرقيّة أو إثنيّة معينة، انتهت دائماً إلى الاصطدام بنوع من جدار مصمت. لقد كان عليها أن تتعلّم أن مثل هذه الطروحات ليست قضايا نسويّة بالنسبة للمؤسسة الإعلاميّة الغربيّة.
النساء الأخريات
مفهوم «النسوية البيضاء» عند بيك يتجاوز كثيراً حدود الغلاف الوردي لحركة نسويّة في الغرب، كما قد يتبادر سريعاً إلى الذّهن، لتكون عندها بمثابة آيديولوجيا تامّة يمكن تتبّع نشأتها وتطوّرها عبر تاريخ الحركة النسوية في الولايات المتحدة، والغرب الأنغلوفوني عموماً. وتبشر هذه الآيديولوجيا بأهمية النّجاح الفردي للمرأة، وتصوّر المساواة، وإمكان أن تحققها النساء أساساً من خلال نجاحهن الشخصي المهني، وفرض وجودهن في هيكليات المؤسسات القائمة حصراً، ولو كان ذلك يتضمّن بحكم الواقع الموضوعي استغلال النساء الأخريات والفئات المهمّشة من المجتمع. فالغاية من «النسويّة البيضاء» ليست تغيير المنظومات المتقاطعة على اضطهاد المرأة -النظام البطريركي والرأسمالي والعنصري والاستعماري- بل النجاح من داخل تلك المنظومات تحديداً، وفي إطارها، وتكريساً لنفوذها. هذه الآيديولوجيا -تقول بيك- آيديولوجيا استبعادية في الأساس، لا تكتفي بمنع النّساء من خارج دائرة الامتياز (كنساء السّكان الأصليين، والأفرو-أميركيّات السود، والمهاجرات، والنساء الفقيرات) من التمتع بفوائد أي مكتسبات نسوية، بل تقبل تجنيدهن بطريقة أخرى لخدمة البيضاوات، ومنعهن من تحقيق وهم المساواة مع نظرائهن البيض، بصفتهن خادمات ومساعدات وأجيرات بلا حقوق، وبأدنى سعر بالسوق.
تؤكد بيك أن النسويّة البيضاء «حالة ذهنية»، وليست هوية عرقيّة معينة، وبالتالي هي ليست حكراً على النساء البيضاوات، ولا حتى على معشر النساء، بصفتهن نوعاً جندرياً، إذ إن أفراداً من خلفيات عرقية وإثنية متنوعة من كلا الجنسين قد يشتركوا في وعود «النسويّة البيضاء»، معتقدين بإمكان كسر اغترابهم عن ذواتهم من خلال الطموح الشخصي والتحسن الذاتيّ، وأنهّم إذا عملوا بجد بما فيه الكفاية في إطار المؤسسات القائمة فسيتمكنون من جني مكافآتها المزعومة.
وتتتبّع بيك بحذق كيف تم سبك هذي التناقضات في الحركة النسوية منذ أيّامها الأولى. لقد كانت النسويّة البيضاء حاضرة هناك بقوّة في واشنطن عام 1913، عندما فرض منظمو مسيرة دعم منح المرأة حق التصويت أن يقتصر حضور الأفرو-أميركيات السود على الصفوف الخلفيّة، خوفاً من أن يشوّه حضورهن في المقدّمة صورة الحركة النسويّة في ذهن المجتمع الأميركي. وكانت النسويّة البيضاء ذاتها هناك في العشرينيّات من القرن الماضي أيضاً، عندما رفضت النّسويات الأميركيات دعم نظيراتهّن نساء أميركا اللاتينية في معركتهن الوطنيّة ضد الإمبريالية. ومن الجلّي أن هذا النّهج ما زال –بشكل أو بآخر- مستمراً، ولا تجد عند تحليله إلى عوامله الأوّليّة ما يختلف بين ما كان يجري في 1921 وما هو جارٍ في 2021. وربّما لا توجد خلفية أكثر ملاءمة لنشر كتاب عن «النسويّة البيضاء» من الأزمة المجتمعيّة الحادة التي تسبب بها وباء «كوفيد-19» طوال أكثر من عام، والتي كشفت بشكل مؤلم عن إخفاقات الحركة النسويّة البيضاء في تحقيق أي شكل من أشكال العدالة الحقيقية للنساء. ففي الولايات المتحدة وبريطانيا، لم تشهد النساء السود والمهاجرات معدلات أعلى لفقدان الوظائف وانعدام الأمن الغذائي فحسب، بل رصدت إحصاءات رسميّة أن نسب إصابتهن بالمرض، وكذلك الوفيات الناتجة عنه، بقيت 4 مرّات أكثر من نظيراتهن البيضاوات، لا سيما أنهن بسبب غياب العدالة الاقتصاديّة يشغلن أغلبيّة الوظائف في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء، مما يزيد من فرص تعرض صحتهنّ وحياتهن للخطر.
مزيج غرائبي
يمزج كتاب «النسويّة البيضاء» بين النّقد الثقافي والتقرير الصحافيّ، وبين التتبّع التاريخي والمذكرات الشخصيّة. ولا شكّ أنّه سيُقرأ بشكل مختلف من قبل البيضاوات المستفيدات من الامتيازات وبقيّة النساء، لكنّه في نهاية المطاف يجمع القراءتين ليكون نوعاً من بيان تأسيسي (مانيفستو) لحركة نسائيّة في القرن الحادي والعشرين، تدعو فيه بيك النساء الليبراليّات لإعادة النّظر في امتيازاتهن الطبقيّة والعرقيّة، والانخراط الفاعل مع النساء من الفئات المجتمعيّة المتفاوتة على اختلاف الأصول والمنابت والثقافات والأعراق في العمل الجماعي المتضامن لهدم أصنام «النسوية البيضاء»، وبناء حركة نسويّة جديدة أكثر شمولاً ومصداقيّة مكانها.
ومع هذا المزيج الغرائبيّ، من التأثيرات السلبيّة للجائحة، والاستقطابات السياسيّة، واشتعال جذوة النضال التحرّري مجدداً في غير ما بلد (غربيّ)، كما في حراك «حياة السود مهمّة» والسترات الصفر، وامتداد الغضب إلى ميادين عواصم العالم الثالث، فليس هناك وقت أمثل من أيّامنا الرّاهنة لإطلاق نضال نسوي راديكالي عريض يستهدف تحقيق تغيير شامل ذي مغزى، ليس لحياة النساء البيضاوات فحسب، بل من أجل كل المهمشين. فلربما يكون المستقبل الأفضل الذي راوغنا كثيراً بالفعل أنثى.
* الكتاب: النسوية البيضاء (White Feminism).
* المؤلفة: كوا بيك.
* الناشر: سايمون وشوستر
 edition Simon & Schuster 1st)
(UK,2021.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.